صفحات ثقافية

موتٌ مدروسٌ حقـاً

null


فوزي يمين

(مقاطع من رسالة طويلة الى صديق في الغربة)

الآن وقد قطعتُ اليأس وبلغتُ الإستسلام، لم يعد شيء أمامي ولا ورائي، ارتحتُ. مسألة تدعو فعلاً الى الاحتفال. لذا هيّا يا صديقي أو عدوّي، إشرب ْنخبي أينما كنت، ويا شعوب الأرض هلّلي لهذا الموت المدروس حقاً.

الآن وقد أتممتُ واجباتي الدينية صار في استطاعتي أن أموت.

أفكّ ساعة يدي، أضعها على المنضدة قربي، أتمدّد على سريري وأنطفئ.

يكون بعد ظهر يوم أحد ناشف شارفت شمسه المغيب، وأكون متأكداً تماماً من أنه في مثل هذا الوقت دائماً تكون نساء الحارة في حجراتهنّ يقمن بواجباتهنّ المنزلية المتراكمة آخر الأسبوع، تحضيراً ليوم غد الاثنين حين تبدأ عجلة الأسبوع بالدوران من جديد. وحدهنّ ربّما يكوين قمصاناً بقيت من دون كي، يطوين مناشف احتمالاً لأخذ حمّام في ساعة متأخّرة، يرتقن مناديل وثياباً داخلية وجوارب، ويعددن العشاء على نار خفيفة.

في هذا الوقت بالتحديد أستلّ كرسيّاً، أشكّه أمام فسحة البيت الخارجية، وأقف عليه بحذائي الأسود الأنيق وطقمي السموكينغ (سأشتريهما خصيصاً لهذه المناسبة) وأنادي عليهنّ: “يا نسوان الحارة، أنتنّ يا حارة الرجال الوحيدة، تشفّعن بي“.

ثمّ أتناثر كزهرة رمّان على حرف بستان، ببطء وهدوء من أعلى الغصن الى أسفل الأرض. لا يكون هناك عشب ليمسّدني ولا ظلال لتتلقّفني بقفّازاتها الفضية الخفيفة، أخبط كما أنا على التراب من دون رنين، كما لو أن صنجاً يلمع عميقاً في الماء، من دون أن يدري به أحد.

لا أتذكّر شيئاً من التاريخ. أضيع. وكفأس قذفها مغوليّ من على خيل جامح، أطيش في الوقت. جدودي ليس من زمان حفروا بطن الجبل بمسبار معكوف واستوطنوا. لهم الوادي، دخّنوا البخور وأغدقوا على كلب جائع رغيفهم الأخير. فالأحقّية للعظم لأن اللحم لا مجال سيتهدّل وسيكون هناك دود كثيف نتيجة مكدّرات عيش متراكم منذ البداية. ولا بداية.

لا أتذكّر أحداً ولا شيئاً، وبالتأكيد أنسى التفاصيل (عليَّ أن أذهب طازجاً الى الموت).

ثمّ تكون ورقة النعي على هذا الشكل:

مولود في،

بتاريخ كذا،

متأهّل من،

توفّي على أثر،

علامات فارقة: لا شيء يُذكَر.

ولقد أتمّ واجباته الدينيّة حتى تلك التي كانت تعترضه في الحمّام“.

ووصيّتي:

طالما كان لنا دائماً ما لم نطلبه يوماً، اتركْ كلّ شيء واتبعْني. تعال نفتح دكاناً على مفرق في الآخرة، عند زاوية شارع يطلّ. وما ان تغيب الشمس، حتى نجلس كما نحن بقمصاننا التحتية على كراسٍ من قشّ واطئة وكروشنا دالقة أمامنا، نسند باب الدكان الخشبيّ بحجر مخرشم، نتصبّب على المغيب ونصلّي: أبانا الذي في السموات إنزل على الأرض ثمّ إطلع الى السماء ثمّ إنزل على الأرض. نلعب هذه اللعبة“.

أصلاً لا الموت ينجّيني ولا الحياة. البارحة حين مرّ عصفور صغير وخربش بجانب نافذة بيتي كتب شيئاً على ورق الهواء هجّأتُه في سرّي أوّل ما هبّت العاصفة حين راح.

بعدها قلت لتكن حبّة القمح في حجم البيدر وحبّة الرمل في حجم الصحراء وليصفح الحبّ عن ذنوب تُرتكب باسمه كل يوم ويسامح. لكنّ شيئاً من هذا لا يحصل البتة.

أرشح من الثقوب ولا أنفذُ، وفي الأخير لا تُحصى نقاطي.

أترمّد بالرغبة وأغطّ كالرمح المكسور فتقع منّي شكوكي كما تقع ثمرة ناضجة من شجرتها.

آخذ معي الكثير من الخبز فلربّما الديدان لن يكفيها جسدي.

أحشو أذنيَّ بضفادع مفزورة، وحيث أسند رأسي تحت مخدّتي أزرع ألسنةً حامضة، وفي فراشي أدسّ أفعى شقراء في عنقها جرس، تجلجل ولها قرن وشعر طويل، وحول قدميَّ الباردتين المسجّاتَين بشحوب عند طرف السرير ألفّ قافلة من البوم الأسود بلون التعب المحروق، حتى إذا ما أتيتنّ أيتها النساء لتندبنني كانت الولولات من هلع وليس من شفقة.

ثمّ للتوضيح. طالما لا أملك شيئاً أورثه ولا حكمة في جعبتي أنصح بها، مخرومٌ الآن على سيجارة أخيرة أدخّنها بقناعة أنّ من يدخّن يموت وصحته سيّئة، بينما من لا يدخّن يموت وصحته جيّدة.

ثمّ أطلي غرفتي بالجدران وأدبق فوق صمغ أرضها كعصفور مقصوص.

أطلب بأن لا يصلّي عليَّ لا كاهن ولا مطران ولا شيء من هذا القبيل: اجلبوا العاهرات وهاتوا المسكرات وادهنوا جسمي بطيب النشوة علّني أرتعش قليلاً ويفرفر جسمي لثانية إضافية.

لترافقْ جنازتي معزوفات على العظم. ضربات على بيانو خشبيّة مهتاجة. وفراشات. وقناديل عمياء في صحراء تائهة.

وليكن الورد الذي ترشقونني به مقطوفاً من بيت الجيران على عين صاحبته البخيلة.

ثمّ يا صديقي على مهلك حين تنحني فوق جثّتي لتراني. على مهل، خذ وقتك كاملاً كما تأخذ حبّة دواء. تباطأ. تباخل. حتى البرد على كتفيك في تلك اللحظة لا تعطه لأحد.

دع الجمدة تقودك. فقط تأمّلْني: عيناي مقلوبتان الى الوراء ترفّان في العتمة، أعضائي نائمة في بياضها الأزرق، وصورُنا تنغل بائتة في أليافي الميتة. بالأبيض والأسود طبعاً.

صورُنا لا تشبهنا. تخّت. وقعت مساميرها على الأرض من دون صوت.

كما يقع ضوء قمر في الخارج على مقعد عتيق مبقور.

كما تقع قبّعة من مشجب في رواق نحيل وطويل.

كمشلح رطوبة العتمة.

صورُنا اختفت وجوهنا، نشفت أعمارنا وانطفأت سجائر أسئلتنا. لم يعد يبرق في زجاج المنافض غير ورق أصفر معكوس يتساقط من شجر الدلب المقابل. بل شجر يتساقط من أوراقه.

لذلك إضحكْ يا صديقي فلسنا أكثر من قفّاز ملاكم في جولة أخيرة خاسرة.

إضحكْ. وليتطايرْ ضحكك بكلّ ألوانه الفاقعة، ترجّ سقوف الكاتدرائيات الناعسة في صمت قببها المحدودبة، ويظلّ يقرع جرس الرحيل الى أن ينقطع حبله نهائياً.

وكما تعلم، جرس الرحيل دائماً صوته كحليّ غامق. لكن في شتاءاته الأخيرة الطويلة يتحوّل قسوةً رماديّة باردة. تلدغه رياح الندم وتصفقه سموم الخوف، فتراه منسحباً منطوياً متكوّماً مكبوباً على جسده يفترسه بنهم أزرق.

أزرق السماء، أيّ أشكال ترتجلها عليك الغيوم؟ لأنه ذات مرة وأنا على صخرة، رأيتُ غيمة بشكل حصان يعرج، حوافره مبطّنة بالمخمل، يمتطيه فارس من قصدير خوذته بلون غبار الأيام. ثمّ فجأة يترجّل عنه، يشهر سيفه في وجه الغيوم ويروح يندف قطنها بخفّة مدهشة.

وما إن يهبط قطن من السماء حتى نحشوه فرشة ونستلقي على أحزاننا متعبين. نتغطّى بأسمائنا ومخدّاتنا هواء. أحلامنا تهوّم فوقنا كشلحات سجّاد رقيقة خاطتها أصابع من دون يد كانت هربت مع عرقها سرّاً وقت الشدّة. فلتكن الليلة صلاتنا نزولاً في اتجاه نزوات وتر مضروب على رأسه بالنغمة ذاتها منذ لفّوه على خشبة العود.

يا صديقي، كيف بالرغم من كلّ ما يجري، لا تزال تجري؟ مكسوراً كسيف باهر، معلّقاً كقمر فوق ضيعة داشرة، وتتمايل كعشبة هوجاء في حلم بستانيّ هجرته حديقته الى غير رجعة.

وأكثر ما أفتقد تردّدك، هنا هناك فوق تحت (ما الفرق حقاً؟).

تردّدك الواقف بعصبيّة، النافر كمسمار يضيء عتمة حائط في الخلف. كقصبة مشكوكة في النهر، ليس ماء ما يجري تحتها بل عرق الشكّ.

تردّدك الواثق أن لا ثقة في شيء.

لا سطح على بيت ولا رأس على قفا.

وحدك تحت سماء مترهّلة تترنّح ببطء شديد يلحظه الموتى. ملطوماً كعجوز، متهدّلاً كردف عاهرة سمينة بيتها قرب مخفر الدرك.

وحدك. كرسيّ فارغ على رأس جبل أقرع، يجلس رِجلاً على رِجل وشريط حذائه محلول على طول السفح.

قبل أن تجمع كتفيك يخرّ رأسك. وعند حافّة الحيرة تتكئ كوردة ذابلة وتتنبّأ بالعاصفة. عاصفة الشجر المفكوك من خصره على رصيف الحنين.

وما هدوء أغصان الشجر في الليل إلاّ جنونك المؤجَّل؟

وماذا يا ترى تفعل الآن؟

تدخّن أم تأكل السيجارة؟

تكتب أم تنكح الأفكار قبل أن تولد؟

وتلك السويداء التي تلفّك كأفعى سوداء طويلة (ألمحها من هنا)، بربّك ما اسمُها في الليل وما اسمها في النهار؟

يا صديقي المنذور كرغيف،

الطيّب كخطيئة أنعم بها الله علينا في الأيام العادية (الآحاد والأعياد ولائم للضجر)،

تحيّة وبعد،

الحرب على الأبواب والعصافير على النافذة تنقر عشّاً في الجدار.

مرّ الشتاء وأنا أرقب جمر المدخنة وعيني على سطر في كتاب. جمرةٌ هنا كلمةٌ هناك. الجمرة لا تحرق إلاّ حيث تقع والكلمة تحرق حيث لا تقع أيضاً. لذا فكّرتُ أن أرسل اليك كلمة تنقر كعصفور في جدار، تحرق كجمرة في مدخنة، وتدمّر كحرب على الأبواب.

وإن كان للكلمة أسنان فلكي تنهش صاحبها وإن كان لها يدان فلكي تقرّصا عجين نجوم عالقة عند باب الفجر.

الكلمة فسحة هواء هشّة، رخوة مرخيّة، مربوطة محايدة، فاجرة وقديسة. تستدرجنا بعد أن ينام الجميع. بعد التأكّد من أنّ الجميع ناموا حقاً.

فنبقى ساهرين نعدّ ظلالهم على الحيطان. بعد التأكّد من أنه لم ينقص ظلّ ولم يزد أيضاً. ننوّس القمر المشطور فوق رؤوسهم الصغيرة، ثمّ عن قصد مُريع نضيّع مفتاح السرير.

الكلمة هذه الدرّاجة الهوائية نركبها ونجوب الليل. نربط النجوم بحديد دواليبها ونطير.

الكلمة التي تنزع الغطاء، أيّ غطاء. وتقشر كلّ ما كان مدسوساً في تربة الصمت الموات.

حتى الهلاك.

أصلاً، ما نفعها الكلمة إن لم نجلدها كلّ يوم، نجعل ركبها تصطكّ وعظامها ترتجف، نُنزل الدم من أنفها كطوفان، نصفقها على قفاها، ونغتصبها إذا لزم الأمر؟

وأصلاً، ما نفعها الكلمة إن لم تُشعل فينا بركاناً أو تكسر جليداً؟ بركان لطالما كان نائماً في أحشائنا، وبركان لطالما كان رابضاً على صدورنا. منذ وُلدنا وكان يجب أن نموت الى أن نموت وكان يجب أن نبقى.

الكلمة الحرب المعروكة بصلصال أوّل طين.

التي كانت في البدء وفي البدء انتهت. نهاية كلّ كلمة تنتهي لتبدأ بأخرى. متناقضة متشابهة لا فرق. فكما في البداية كذلك في النهاية. أفعى برأسَين بذيلَين، لا فرق.

وبما أنّ العالم قذر وعنيف، وغضبي يقف على السطح كنسر منفوش حائر: هل يصطاد فريسته أم أولاً يسكر بظلّه الأسود الضخم المفلوش فوق الأرض الضاغط عليها، الداكن الحادّ والقاسي؟

وبما أنّ وطننا معقور كباذنجانة بلديّة على مرأى الشمس والنجوم،

وبما أنّ ما رسمْناه بدمنا ومسبّاتنا راجَ موتُه في الأرض حتى أصبح موضة،

وبما أنّ المحلية والاقليمية والدولية الى آخر المعزوفة المعروفة،

لن أعيد على مسامعك تلك الاسطوانة المغبرّة المحشورة في خزانة يُديرها النسيان ويرقص العثّ على أنغامها كلّما سنحت الفرصة، وهي الآن الفرصة الأخيرة. جرس الانذار بلع لسانه والحافّة وقعت في الهاوية. صار حريّاً بنا أن نقف ونعترف علناً بقذاراتنا دفعة واحدة. ولترأف بنا رعونتنا، خاصّة في وضح النهار (الليل مستور كفقير).

على كلّ حال، دعنا من هذا الحديث ولنتكلّم عن الولادات المنثورة على ضفاف الحلم وحفافي الثورات الوردية المنقرضة. عن الآمال الممشوقة كرغبة في بريق حدقات عيون الفتوّة. عن الأثلام المحفورة بالوجع في الأرض المجنّحة. عن احتفالات الأوهام الثرية وكرنفالات السعادة البخيلة.

تصوّرْ:

سماءً تنتهي،

بحراً حاسر البصر لا يعود الى الشاطئ،

بركاناً كسولاً،

وحبّاً لا يحتمل ظلّ أحلامه.

تصوّرْ:

شعباً ينام بعد الظهر،

وطناً ينهض متأخراً عن المدرسة،

حنكليساً زائغاً،

كلباً ضالاً،

وشاعراً يدخّن قلمه.

تصوّرْ:

أملاً معقوداً على شجرة يابسة،

شمساً لا تشرق وتالياً لا تغيب

وشفة لا تعرف أن تحتفظ بابتسامة.

وكنتُ قرّرتُ أن أكتب لك كلّ يوم. لكنّي كما تعرف أتلهّى. فورقة تسقط من شجرة في الخارج أتخيّل هبوطها، وبقعة ضوء من نافذة على طرف كنبة تسمّرني. ثمّ وجهكَ في الغربة يتوهّج أبداً ويرفل في عيني. ثمّ تلك الذكريات الصغيرة المطويّة سرّاً كمناديل عانس، كيف أردّها عني؟ وبأيّ وسيلة أُقنعها بالعدول عن حضورها والعودة سريعاً الى جحورها؟ وبأنها هنا في الخارج ستُصاب بنزلة صدريّة لئيمة، وخصوصاً أنّ الطقس عاصف والثلج في الأحذية.

الحقّ يُقال، النسيان أكثر راحة. مفلوش كسجادة نظيفة في ردهة دافئة.

أكثر ما يمرّ ببالي لحظات الصمت بيننا، بكلّ أصواتها. الدنيا في تجوال والحياة في عطلة. ونحن وحدنا في صمتنا، بزّاقتيْن على كعب شجرة هرمة باتت تضيّع اسمها. وأوراق فوقنا، وطواحين هواء. فقط نخاف إذا نادانا أحد، أن ننسى ظهرنا على جذع الشجرة.

(كلمة أخيرة: في حال أردتَ أن تعود يوماً فمن جهة الصمت. من الفراغ والبياض الحذِر لأنّه قادم ومن الثلج لا دعس فوقه. البكر ككلمة لم تكن في البداية ولا في النهاية. تعال كما أنت، كما أحبّك. برائحتك الممتلئة بي وبيديك الضابطتين سلك التوتّر الجميل. على مدى السنوات بيننا المعطّرة بخبزنا ودخاننا. بتقاسم ظلالنا في غرف شتائية ومقاهٍ صيفيّة تحت لمبات متكوّرة في ضوئها الخفيف. هل تذكر ما قلنا تحتها تحديداً؟ وهل كنا واثقين من كلّ كلمة خرجت من أفواهنا الناشفة المتعطّشة الى كأس متأخّرة تعتذر في وقت غير مناسب؟ أقلنا كلاماً أكبر منا أم منذ بحنا به ارتفع وصار غيمة رابضة على كتف جبل أجرد؟ هل ارتوينا حقاً أم ذلك كلّه كان كالماء الذي نسعى اليه ونحن نشربه؟ ما أوّل كلمة قلناها؟ وآخر كلمة؟ والكلمات التي علقت على الجدران قربنا وفوق الطاولات حيث جلسنا، هل مُسحت كالغبار واندثرت؟)

سؤال: هل كان الكلب كلّ هذه الفترة يعضّ ذيله؟

جواب: الانسان كلب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى