أساطير مـن هـنود الأميركيتين: سقط مـن الـسمـاء حوضٌ مـــن الـفـخّـار
اخترت بعض النماذج من أساطير الهنود الحمر القدماء في الأميركيتين، لهدف واحد، أشترك فيه مع جامعيها من الباحثين، وهو إظهار طاقة الفكر الشعري منذ فجر الانسانية، أولاً في شكل لغوي، وفي ما بعد في مظهر أسطوري يستبق العلم والفلسفة،
ويشكّل في الوقت ذاته الحالة الاولى للشعر والمحور الذي يدور حوله في سرعة متزايدة باستمرار. فالطائر يطير، والسمكة تسبح، والانسان يبتكر، لأنه وحده في الطبيعة يملك مخيلة دائمة الترصد والتجدد والتحرك. يعرف أن نومه يزدحم بالاحلام التي تنصحه بأن يقتل عدواً في الغد، أو ترسم له مستقبله، بحسب تفسيرات وضعها عقله النيّر، ولكن هل هي أحلام بحصر المعنى، أو ظهورات لـ”روحه” أو لأحد جدوده الذي يحميه أو يتحيّن ثأراً لأهانة؟ بالنسبة الى البدائي لا وجود للاحلام. فهذا النشاط الخفي للروح في الجسد الهامد يوحي له أن “قرينه” ساهر عليه، أو أن جدّاً أول يتحكّم بمصيره أو أن رباً ما يريد السعادة للشعب في مقابل تضحية ما. وهذه الروح الساكنة في الجسد، والتي تحثّه ليل نهار، ليست متطلبة كثيراً، فهي تدرك ضعف وسائله الفيزيائية. ولذا، فهي لا تعتقد أنها وحدها في هذا الكون الشاسع. فالقمر، والشمس، والنجوم، والرعد، والغيوم، والمطر، وباختصار الطبيعة برمّتها، تملك روحاً كروحها. واذا كانت طاقتها تضعف من مادة الى مادة، فهي تعوّض عن ذلك، من روح الى روح، بفضل قدرة لا حدود لها. يكفي أن تكتشف الوسيلة الملائمة لتدخل في تماس مع الروح الضرورية للخداع. واذا بدت الطبيعة عدائية أو على الاقل لامبالية بمصير الانسان، فهي لم تكن كذلك دائماً. فالحيوانات، والنباتات، وظواهر التغيرات الجوية، والكواكب، هي الاجداد الاوائل عند الانسان البدائي، وعلى استعداد لمساعدته أو عقابه.
على أن هذا البدائي المزعوم، وحتى في زمن متأخر، قد غابت عنه تلك العصور السحيقة التي تكونت فيها اللغة، ولم يبق منها سوى بعض الحكايات التي تذكّره بها. لكن الغنى المتنوع للتفسيرات الكونية التي ابتكرها الاولون، يشهد لقوة مخيلتهم ونضارتها، ويظهر بوضوح أن “اللغة أُعطيت للانسان ليستعملها بطريقة سوريالية”، على حد قول اندره بروتون في “البيان السوريالي”. والواقع، ان الانسان القديم لا يعرف أن يفكّر الا في صورة شعرية، وبرغم جهله، يمكنه التغلغل ربما حدسياً، في دخيلته، وفي الطبيعة، بتميّز عن المفكّر المنطقي الذي يفككها انطلاقاً من معرفة كتبيّة. وليس هنا من مجال لتقريظ الشعر على حساب الفكر المنطقي، ولكن لا بد من مجابهة احتقار حماة المنطق والعقل للشعر. إن ابتكار الخمرة، لم يدفع بالانسان الى ترك الماء كي يستحم بالخمرة، وما من شخص يعترض، من جهة أخرى، على أن الخمرة، لولا المطر، لما كان لها وجود أصلاً. كذلك، لولا إشراقة اللاوعي، لظل العقل والمنطق في الأقمطة. فإذا كان العلم وُلد من تفسير سحري للكون، فهو يشبه ابناء تلك القبيلة البدائية الذين بحسب فرويد، يقتلون آباءهم. الا أن هؤلاء الابناء، على الاقل، جعلوا من آبائهم أبطالاً سمويين ذوي سطوة ونفوذ. فعلى أجيالنا الحاضرة والطالعة، أن تقوّم الانسجام بين العقل والشعر. فلا يمكننا الاستمرار في تعارضهما، وحجب تعايشهما البدئي. كثيراً ما أسمع، حتى الناس العاديين، يعلنون ازدراءهم للشعر. فيقولون لك مثلاً: ما لنا وهذا “الخوات”! وغالباً ما أسمع هذا المفكر أو ذاك، عندما يريد أن يعرض فكرته أمامك، مستهلاً كلامه بقوله، وهو ينظر اليك بعينين صارمتين: أنا لا أتكلم شعراً. ويقصد أنه لا يهذي، بل هو يستند الى أسس العقل. إن تعاليم فرويد، وما اثبتته الدراسات الاثرية، لم تُحدث، على ما يبدو، تغييراً كبيراً في ذهنية الانسان المنطقي. وقديماً قال غوته، قبل فرويد بجيل، إن الحدس الشعبي يرى في الشعراء طلائع العلماء، وإن “الانسان لا يستطيع أن يبقى طويلاً في حالة الوعي. وعليه أن يغوص في اللاوعي، لأن فيه يكمن جذر كينونته“.
فالى الانسان المتحضر، هذه النماذج القليلة من المدهشات الشعرية التي أنتجها أخوه الانسان “المتخلّف” أو “الدوني” في نظره!
صعود الشمس الى السماء (1)
الشمس رجل. له نساء عديدات من سلالة الضفادع نسبةً الى مظهرها. كان يعيش معهن في وفاق تام. وفيما كان مرة في الصيد، حاولت إحداهن أن تقفز، فكسرت ساقها وانجرحت، لسقوطها من على غصن يتأرجح، وصرخت: “أووو”. وأرادت أن تضحك: “ها، ها، هاي”، كما يضحك النساء، فلم تستطع إلا أن تصرخ: “أووو” كما الضفادع عندما تتهيأ السماء للمطر. وعزم الرجل – الشمس على الذهاب ثانية الى الصيد، فطلب من إحدى نسائه أن تحضّر له طبخة لوبياء الى حين عودته. وملأت المرأة القدر باللوبياء والماء ووضعتها على الموقد. عند غليانها ازداد حجم المحتوى وطفحت القدر. وإذ حاولت أن تحول دون ذلك، كسرت القدر. ولما عاد زوجها جائعاً، رأى المصيبة التي تسبّبت بها هذه المرأة، فشرع يؤنبها: “لا جدوى منك، قلت لك أن تُعدّي الطعام، حيث تصوّرت أن أكون جائعاً عند إيابي، ولم تفعلي سوى إتلاف كل مؤونتنا من اللوبياء. أنا لم اقل لك بأن تطبخي الكمية كلها، ولكن ما يكفي فقط لإطعامنا الآن. وها كل شيء يضيع بسبب خطئك”. وشاء مرة أخرى أن يمضي الى الصيد، فطلب منها ايضاً أن تنزع الاعشاب المضرّة وتُهيئ له طبخة من ثمار النخل. واذا به يجدها عند رجوعه، لا تزال مشغولة بنزع الاعشاب. فانقبض صدره من جرّاء هذا الغباء الزائد، فأحضر لوح خشب لتقطيع جذور المنيهوت التي تُستعمل للماساتو (مشروب مخمّر)، ووضعه على نبتة نخيل وُضعت بدورها على بسطة من أوراق الشجر. وفوق الجميع، وضع سلّة وصعد عليها. وبسرعة أخذت نبتة النخيل تنمو، حتى بلغت السماء. وقد سعى كثيرون الى تسلّق الشجرة فلم يتمكنوا وسقطوا على الارض. وعبثاً سعى آخرون الى قطعها. ولم يتوصلوا ايضاً الى أن يستعيدوا الشمس. وهكذا بقيت الشمس في عليائها.
محرقة الطائر كِتْثالْكواتْل (2)
… وعندما تم كل شيء، بكل دراية، ارتمى طائر الكِتْثالْكواتْل في المحرقة، فأتلفته النار، ثم ارتفع في ما بعد رماده، وأسرعت كل الطيور القيّمة لتحضر ذبيحته.
بعد نزوله في المحرقة، خرجت من قلبه الروح بشكل نجمة، وصعدت الى السماء، ودخلتها. ويقول كبار السن إن هذه النجمة، هي نجمة الصباح. وتظهر لتُشيع الفرح في المنازل. ويقولون ايضاً إن كِتْثالْكواتْل بعد موته، يصبح اسمه تْلاوْثْكالبان، ولا يبدو في السماء، لأنه سينطلق الى الجحيم. وبعد ثمانية أيام يتجلى كنور عظيم، وحينذاك يُمجّد.
يقولون أيضاً إنه يتجلى أثناء النهار مستلهماً كل الكواكب، ويزيد إشعاعه بإلحاق الضرر بها. وفي تحوله الى نجمة مُشعّة ومُفرحة، يتسبّب بالأذى للنجوم القديمة من الجنسين، فتمضي جميعها معاً على غرار الأساليت المرقّشة (حيوان أميركي يشبه النمر)، وتشكل حقل أزهار، متعدية على كل النجوم غير المجدية؛ وإذا ظهرت نجمة مع قصبة، دليلاً على أهميتها، فإنها تسحقها فوراً. كما أنها تطرد الغيوم، وتمنعها من الامطار. واذا ما آذت الشمس النجوم الفتية فإنها تحيطها بالمياه.
الحصان (3)
كان يعيش أخوان معاً منفصلين عن أهلهما، وكانا صيادين ماهرين. كل نهار، كانا يتعقبان الغزلان واليحامير، وحين يكلّل تعقّبهما بالنجاح، يعودان بما اقتنصاه على الكتفين. وكان ذلك عملاً شاقاً. وأخيراً، قال الأخ الأكبر لأخيه، بكل طيبة قلب، وقد أخذته الشفقة عليه: “ستساعدني على تنفيذ خطتي، بأن أتحول الى شيء ما يكون ذا منفعة لك. أطلق عليّ سهماً يخترقني من جهة، وآخر من جهة، ثم قطّعني بالعرض قطعاً أربعاً وارمها في الماء، وبعد أربعة أيام يمكنك العودة لترى ما حدث لها“.
امتثل الأخ الأصغر لرغبة أخيه، في ذهول وحزن كبيرين، لكنه عند عودته وجد أربعة حيوانات غريبة، من تلك التي ندعوها اليوم أحصنة. وكانت ذكرين وأنثيين، أسودين وبيضاوين، كُميتين وصفراوين، أو بـ”لون الغزلان”. فلم يعترِه الخوف، إذ سبق لأخيه أن أخطره بذلك. وكان في حوزته حبل فعقده حول عنق أحدها، وأدخله في شدقه، ثم امتطاه وقاد الأحصنة الاخرى وراءه. ومنذ ذاك الحين، والأحصنة تتكاثر في مقاطعة بيما. وبعد مدة من الزمن، أصبح لكل فرد مطيته. وهذا لم يكن ممكناً لولا تضحية الأخ الطيب.
ألوان العصافير (4)
كان ثلاثة صبية يلعبون دائماً حتى وقت متأخر بعد منتصف الليل أمام منزلهم. وقد سمح لهم الأهل بذلك. وفيما كانوا يلعبون في إحدى الليالي، حتى ساعة متأخرة كالعادة، سقط من السماء حوض كبير من الفخّار، مغطّى بالرسوم، وكان مليئاً بالازهاء، واستقرّ في وسط الباحة.
ونحن نعرف كم يحب الاولاد الازهار. فهم لا يستطيعون أن يروها بدون أن يُسرعوا الى الاستيلاء عليها. ورأى الاولاد الازهار، فهبّوا للحصول عليها، ولكن ما إن مدّوا أيديهم للامساك بها، حتى هربت الى الجهة الاخرى من الحوض. وغطس الاولاد في الحوض ليلحقوا بها. وشاهدت ذلك إحدى النساء، فقالت لوالدة الاولاد: “تعالي انظري ما حدث في الباحة. فأولادك يلعبون في حوض جميل لم ترَ عيناك مثله”. ومضت الوالدة لترى. وما إن اقتربت، حتى بدأ الحوض يرتفع. لكنها أفلحت في القبض على ساق ولد لم يغص بكامله بعد في الحوض، وجذبت، فيما كان الحوض يرتفع بقوة. فأدّى ذلك الى بتر الساق. واستمر الحوض في الارتفاع ودم الصبي يسيل. لكن الدم كان يتكاثر، كما لو أنه دم ثلاثة ثيران أو اربعة. وهذا الدم الذي كان يسيل من الساق المقطوعة شكّل الرقعة الحمراء في السماء. وحتى الآن، لا تزال تظهر حين يسقط مطر خفيف قبل فصل الجفاف.
أحدث هذا الدم السائل على الارض بحيرة شديدة الحمرة، بالقرب من منزل أم الصبية.
راحت الأم تبكي وتولول متوسلة الى من خطف أبناءها، بأن يرعاهم، بما أنه ذهب بهم، وبأن يعاملهم كما لو كانوا ابناءه بالذات.
أقبلت في البدء ببغاء، من هذه الببغاوات الخضراء اللون في يومنا. إذ في ذاك الوقت لم يكن لأي طائر لون. كل الطيور كانت بيضاء. وحتى اليوم لا تزال أفراخها كلها بيضاء. ثم يتغيّر لونها في ما بعد.
دقّت الببغاء على باب الأم. وما ان اطلت، حتى قالت لها الببغاء، انها جاءت لتشاهد البحيرة الحمراء، وعرّفتها بنفسها كي تعلم من هي.
ومضت لتستحم في البحيرة، ثم خرجت منها حمراء كلياً. لكن دم الصبي أخذ يتسبب لها بالحكاك في كل أنحاء جسمها. وبما ان الدم كان حاراً جداً، راحت تحتكّ بالماسيغا (مادة معينة محلية). ولذا، ظلت حمراء وخضراء.
ثم جاءت ببغاء ثانية، وتبعتها اخرى فأخرى، وبعد ان تعرّف كل واحدة ام الصبية بنفسها، كانت تمضي لتستحم ثم تحتك في ناحية ما. وهكذا حصلت جميعها على الالوان التي تتمتع بها اليوم. ووصل بعد ذاك العقاب. كان ابيض كبقية الطيور. أَعلم المرأة باسمه لتعرف من هو، ثم ذهب ليستحم. لكنه لم يتحمل الحرارة، فاسرع يحتك بالرماد. ولذا ظل بدنه اسود. ونظر العقاب الى لونه فلم يعجبه. فأخذ قبضة من رماد الماسيغا وفرك بها ساقيه. وهكذا اصبح لونهما فاتحاً. وكذا فعلت كل طيور الارض. قد استحمت واحتكت بشيء ما. والتي لم تحتك منها، ظلت حمراء كلياً، والتي لم تذهب الى البحيرة ظلت بيضاء ¶
من كتاب Mitos, leyendas, y cuentos populares de la america indigena. ed. j. Martiz.
1- أحد الألغاز التي حاول الانسان أن يحلّها، كان تعاقب الليل والنهار، الشمس والقمر. ظلّ هذا اللغز همّا دائماً عند الشعوب البدائية في اميركا. وتخيّل هنود الجيفارو في أطراف البرازيل، والبيرو، وكولومبيا الحلّ كما ورد في هذه الاسطورة.
2- لأسطورة طائر الكستثالكواتل صيغ متعددة تتعلق بتصرفات الكاهن الأكبر لـ”الأفعى ذات الريش” في مقاطعة تولا. لكن نصوص المايا التي تتحدّث عن اختفاء هذا الطائر، متنوعة ايضاً، وانما تتفق جميعها على تحوّله الى كوكب فينوس.
3- الهنود الحمر من قبيلة بيما (أميركا الشمالية) لم يعرفوا الحصان إلا في وقت متأخر. وقد تخيّلوا انه جاءهم بهذه الاسطورة العجيبة.
4- هنود قبيلة كادييو في مقاطعة ماتو – غروسو البرازيلية تصوّروا ان الطيور اكتسبت ألوانها من طريق تدخّل خارجي خارق.
(التقديم والترجمة: هنري فريد صعب)