اللوحة عندما تستنطق التاريخ، قراءة في بعض لوحات الفنّأن التشكيليّ خضر عبد الكريم
هيثم حسين
هنالك نظرة سائدة عند الكثيرين من حولنا إزاء الفنّ التشكيليّ، وهي أنّ هذا الفنّ بعيد عنهم، متقوقع على نفسه، متعالٍ عليهم، له أناسه الذين لهم طقوسهم، وهو حكر عليهم دون غيرهم، وهم بدورهم يترفّعون عنه، يبادلونه التجافي،
ولا يحاولون أن يتكلّفوا التفاتة إليه، لأنّهم في موقع محصَّن ضدّ هكذا فنّ، متذرّعين بمقولة أنّ هذا الفنّ ليس فنّاً، لأنّه محايدٌ يحلّق في فضاءات وعوالم لا تمتّ إلى عالمهم بأيّ صلة، كما ينظرون بغرابة إلى الفنّانين الذين يحرص قسم منهم على التغرّب، أو التعالي وتكلّف المظاهر الغرائبيّة التي لا رابط بينها وبين الفنّ، حتّى كأنّ الفنّ يحتّم شعائره، ويرسم للفنّان خطّة عمل يجب أن يتقيّد بها، تبدأ باللحية والشعر، ولا تقف عند الملابس، التي يجب أن تكون بدورها منوّعة غير منسّقة، لتخلق تلك الفوضى هندسة، ومن ثمّ لتهندس لوحة مُتَسَرْيلة، مدّعية اكتشافَ مجاهيل في الفنّ غير مسبوقة، معلنة احتياز براءة الاختراع اللونيّ، وبراعة الاكتشاف الفنّيّ، ناسبة الجهل إلى الآخر على اختلاف ثقافته وانتمائه، وما يبقيه على صورته المسبقة والمراد إبقاؤها ثابتة، الرغبة في ممارسة العدميّة الفنّيّة والثقافيّة حياله، والمتفرّج كذلك يحتار حيال الغنى الذي يتمثّل أمامه، وهذا الغنى في رأي هذا المتفرّج غنىً مرابٍ مُعرٍّ يضاعف كسبه تجهيلاً واستغراباً وتمثُّلَ فانتازيّةٍ بريئة من نعوتها التي تلصَق بها..
وأنا بدوري لا أدعّي كثير اختلافي عن الكثيرين من المحيطين بي، لأنّ هذه النظرة لم تدمْ طويلاً، حتّى التقيت قبل سنوات بالفنّان خضر عبد الكريم، تأمّلت لوحاته، أمعنت التأمّل فيها، لاحظت أنّ هناك لوحات لا تدّعي كلّ تلكم الادّعاءات، لأنّها لا تبحث عن التعالي على الآخر، ولا تقمُّص حالات بعيدة عنها، ولا تحاول تمثيل ذلك، تقتحم عوالم المعاش، ترتقي به فنّيّاً، بالريشة واللون، لتخلّد لحظاتٍ عصيّة على التجسيد، تخلط ببراعة بين الأساطير والحكايا والتواريخ، بين الألم والأمل، تجمع النقائض في حلّة فنّيّة، لا تفرض عليها أُطراً بعينها، لأنّها تتأطّر بحدود هي القلوب حين تؤطّرها، لأنّ كلّ إطار عدا القلب زائف وممارٍ، كما تأكّدت أنّ سنوات سجنه قد حرّرت لوحته، وأطلقت لها العنان لتكسر قيودها، لتبحث عن الجمال في مرابعه، لتوقظ كوامنه، وتنبش في مكامنه، رابضة على تخوم غير مرسومة، لتوقفه وتؤشّر عليه، متحالفة مع مبدعها الذي يستجوبه حول أسباب تغيّبه، راسماً له سبل توجّهه، إذ أنّ الجمال بنسبيّته يتحاصر بها ويحاصرها، يطفو على سطحها، وفي أعماقها بين طبقات الألوان يترسّب، ويغور كذلك في أعماق المستنطِق، فيدور حوار بين الطرفين، اللوحة تجيب، والقادم، على اختلاف ثقافته، يستفسر، يؤوّل، ويرسم لها الصور والحكايات، وليست هذه اللوحات بالمدرسيّة، ليست بالمهادنة المسالمة، لأنّها تتحرّش، توقظ المخبوء، لا تستثني ركناً إلاّ وتقتحمه، لا تبتعد عن لحظة، خوفَ عدم التمكّن من تجسيدها، وإيقاف الزمن ملتقطاً لها الصورة المرتآة، المحكومة بذوق وريشة ولون مبدعها، دون أن تجافي أو تماري، هي لوحات مفتوحة على أفقٍ جديدة، كما هو النصّ المفتوح يتقدّم واثقاً متعدّد الخيارات متقبّلاً قراءات متنوّعة..
لا يخفى ولع عبد الكريم، بألوان بعينها، وهذه الألوان تجتاح عوالم لوحاته أغلبها، بمختلف تدرّجاتها، لتعبّر عن طريق كلّ تدرّجٍ عن حالة، كما أنّه يمتح من معين الأسطورة والتراث، حيث أساطير ما بين النهرين تُتداوَل ما بين لوحاته، فيها الحبّ والحقد والجنون والوشاية والخيانة والبحث عن اللامتناهي لتأطيره في لوحة وتخليده بوضع نقطة على لاتناهيه، أي إنهاء نقطة قوّته، بوضعِ نقطةٍ وتوقيعِ عليه، ليكمل ديمومته ولاتناهيه عن طريق اللوحة التي تنعتق من الزمان والمكان، لتحلّق في فضاء التأويل، دون أن تبهت ألوانها، أو تمحَى، والحكي الشعبيّ يجد له متنفّساً ومعبراً في لوحاته، حيث النعال، التي تستخدم لأكثر من غاية في منطقتنا، ليس أوّلها درء الحسد وردّه على أصحابه الحسّاد، وتلافي الضغينة برفعها في أوجههم، وهذا من الكلام الدارج، كما أنّ الظلال التي تستطيل، حيث ينظر صاحب الظلّ المستطيل ويظنّ أنّ طول الظلّ ذاك هو طوله، فيخدع نفسه، ويسعد لانخداعه بنفسه. تلك بعض تجسيدات فنّيّة، يركّز عليها الفنّان خضر عبد الكريم في لوحاته، منوّعاً في أسلوب تقديمها، بألوان تلائم الحالة التي يريدها..
لا أعتقد – وهذا انطباع – أنّ الفنّان يسعى إلى إشعال حرائق في معجم الألوان، أو قلبها لتنتج نقائض مدلولاتها، ولا إلى المزاوجة بين ألوان وأفكار تتلاغى فيما بينها، لأنّه يهدف إلى عمل تتآخى فيه أهدافه الفنّيّة والاجتماعيّة والسياسيّة، في قالب إنسانيّ يبتغي اقتراب المثال، وتمثّله، فالوجوه تظهر ذاهلة مسائلة كئيبة، ومع تلك الحالات الانفعاليّة تقتحم فضاء اللوحة حمامة تبثّ روح الأمل المنتَج عن قهرٍ لا يعرف الاستسلام..
اللون في لوحات خضر عبد الكريم، لا ينافق، ولا يَحول، الفكرة فيها لا تتضبّب خلف أشكال هندسيّة، إذا شتّى فيها ومعها غيم فإنّه يمطر، لا غيم خُلَّبيّ معها، لذا تراها دائمة الاستفزاز للمتلقّي، ودائمة التحدّي للسجّان، لا تسلم قيادها بسلاسة، كما أنّها لا تضيّع مفاتيحها، وهي تسعى إلى تدوين التاريخ واستنطاقه بوسيلتها، لتكون شاهداً آخر على زيف المصرَّح به من شعّارات برّاقة ناهبة مُعمية، تصرخ وتستصرخ، تشي بشيءٍ ما ولا تفشي بالكثير من الأشياء، تثوّر رغبة التنقيب والاكتشاف، تُوجِب أسئلة وتحرّضها، كما أنّ استيجاب تلك الأسئلة وتعدّد الإجابات، لا يعني أنّها تكتفي بها فقط، لأنّها لا تركد ولا تنغلق على بعدٍ بعينه، تضيف إلى كلّ بعدٍ أبعاداً، في حلقة استيلادٍ أبعاديّة.. فتكون بذلك لوحات غير مسوَّرة، لامناسباتيّة، متعالية عن البحث عن الجوائز أو استجدائها، لأنّ جائزتها الكبرى الإعجاب المتعاظم بها، كونها تستنطق تاريخاً مسكوتاً عليه، تثير قضايا بعينها، تتبنّى رأياً إنسانيّاً فيما تستعرضه وتعرضه..
إنّ لوحات خضر عبد الكريم لا تحايدُ ولا تتهرّب لتختبئ أو تختفي خلف أحجبة “الفنّ للفنّ” لأنّها تتبنّى نظرية الفنّ الذي يستمدّ كينونته وقيمته وديمومته من الإنسان الذي هو الوجهة والمصدر معاً..
– سوريا
خاص – صفحات سورية –