صفحات ثقافية

عندما يكون الحق هنا باطلا هناك

null


أمجد ناصر

نشرنا قبل أيام، لمناسبة الدعوي القضائية التي رفعها الجنرال ميشيل عون ضد الشاعر بول شاؤول، تحقيقا ضافيا حول علاقة الثقافي بالسياسي في لبنان أعده الزميل ناظم السيد، ورأينا كيف يضيق صدر السياسي بالنقد فيلجأ الي القضاء (وهذه رحمة لبنانية لا تتكرر كثيرا في باقي العالم العربي) بدل لجوئه الي الحوار وطرح الحجة مقابل الحجة. الحالات التي استعرضها تحقيق زميلنا ناظم ليست، للانصاف، كثيرة، وما وقع بحقها من منع او مصادرة او مقاضاة يكاد أن يكون، قياسا بالسجل العربي الاسود علي هذا الصعيد، اقرب الي المداعبة منه الي العقاب. ففي مقابل تعرض المثقف اللبناني لمصادرة كتاب او الذهاب الي القضاء بسبب تجاوز لخطوط حمر سياسية أو دينية او اخلاقية كان يمكن للمثقف العربي، في البلدان الاخري، أن يقاد، لنفس السبب، مخفورا الي السجن.. ومن دون محاكمة.

هناك مثقفون سوريون واردنيون ومصريون ومغاربة وعراقيون امضوا عشر او خمس عشرة سنة من اعمارهم في السجن بسبب آرائهم السياسية او مواقفهم، عموما، من انظمة بلادهم، ولم يحدث امر كهذا في لبنان.

ولكن مع ذلك لم تكن بيروت جنة حريات الا بالقياس الي جوارها العربي القريب والبعيد، وقد تكفل تحقيق ناظم السيد ببيان حالات المنع او المصادرة او المقاضاة التي تعرض لها المثقفون اللبنانيون منذ الخمسينات الي يومنا هذا، عدا قضية واحدة هي تلك التي رفعها الناشر العراقي فخري كريم ضد مجلة الآداب . عدم تطرق ناظم السيد الي هذه القضية يرجع الي ان الطرف الذي أقام الدعوي ليس لبنانيا. غير ان قضية الآداب بالذات سترينا الي اي حد اصبح الحق في التعبير ، في ظل الانقسام السياسي العمودي الراهن الذي يعرفه لبنان، مزدوج المعايير. وكيف يمكن للمثقف اللبناني ان يري التعبير هنا حقا مكفولا وهناك تجاوزا للحدود.

هذا ما يفعله، للأسف، انقسام البلدان الي كتل عرقية او طائفية او ايديولوجية متواجهة حيث وتتمترس الجماعات في خنادق لا تربط بينها سوي نظرات العداء المتبادلة.

السياسة اللبنانية قسمت البلد الي خطين متوازيين لا يلتقيان: الموالاة والمعارضة، وليس ثمة ارض ثالثة. هكذا انقسم، بالتالي، كل شيء هناك علي صورة الانقسام السياسي. اصبح التداخل والتشابك الذي هو من طبيعة الأمور مستحيلا أو شبه مستحيل. تحولت الحياة، علي غير صعيد، الي متاريس متقابلة. نظرة تحدّق بنظرة. وفكرة تحدّق بفكرة، وجسد يحدّق بجسد. هذا يحدث فعلا في بيروت. يحدث أن الانقسام السياسي بين زعماء الطوائف وأمراء الحرب السابقين حوّل حياة اللبنانيين الي خندقين متقابلين ومتراسين يواجهان بعضهما البعض، رغم أن الواقع المتداخل للناس ومصالحهم ومجال اجتماعهم وعيشهم ليس كذلك. لكن الفكرة، أحيانا، هي التي ترسم الواقع، بصرف النظر عن رثاثته، وليس العكس.

تشهد بيروت اليوم دعويين قضائيتين ضد الكلمة. الاولي قام بها الناشر العراقي فخري كريم ضد رئيس تحرير مجلة الآداب سماح ادريس، والثانية يرفعها الزعيم اللبناني الجنرال ميشيل عون ضد الشاعر والمسرحي اللبناني بول شاؤول. الاثنتان تتعلقان بـ حرية التعبير ، والاثنتان منظورتان أمام القضاء اللبناني، والاثنتان صنعتا جدلا ثقافيا وسياسيا حول حدود حرية الكلمة واجتذبتا أنصارا ومؤيدين.

ولكن في بيروت المنقسمة علي نفسها بهمّة زعماء الطوائف القدامي والجدد انقسم المدافعون عن حرية التعبير الي قسمين: قسم وقف الي جانب سماح ادريس في مواجهة دعوي فخري كريم، وقسم رفض حتي التوقيع علي العريضة التي حررها أنصار ادريس دفاعا عن حقه في التعبير. وعندما رفع ميشيل عون دعوي قضائية علي بول شاؤول انضم القسم الذي لم يؤيد سماح ادريس الي الاصوات التي طالبت برفض الدعوي واعتبارها عملا تعسفيا ضد حرية التعبير والكلمة. وعند مطالعة اسماء الموقعين علي العريضتين المتعلقتين بموضوع واحد نكاد لا نجد اسما مشتركا بينهما.

واضح، بطبيعة الحال، الخلفية السياسية للانقسام اللبناني وراء القضيتين. واضح كذلك ازدواج المعايير عند المثقف العربي حيال القضية الواحدة.

أنا لست لبنانيا، وإن كنت أدين لبيروت بأشياء كثيرة، لذلك لم أجد ضيرا في التوقيع علي العريضتين. وقعت ضد جر رئيس تحرير الآداب الي المحكمة وضد تجريم بول شاؤول ومحاكمته انطلاقا من مبدأ واحد لا يعنيه الانقسام اللبناني: حرية التعبير. حرية الكلمة. حق المثقف بمساءلة السياسي ونقده، علي نحو راديكالي إن لزم الأمر. ففي نظري يتحلي الثقافي بما هو بعيد المدي، بما هو أعمق وأشمل مما يتحلي به السياسي، العربي خصوصا، الذي يؤبد اللحظة الراهنة ويجعل ما يسمي التكتيك أرضا خصبة للتقلب والانتهازية والبهلوانية السياسية. لذلك لم اجد فرقا بين قضية سماح ادريس وقضية بول شاؤول. فالاثنان كتبا كلمات وكان يمكن لفخري كريم وميشيل عون (او احد الناطقين باسمه، وما اكثرهم) ان يردا علي الكلمات بالكلمات.

قضية سماح ادريس وقضية بول شاؤول ترياننا الي اي حد يمكن للقضية الواحدة، في واقع سياسي رث أن تكون موضع انقسام وان ينظر إليها، بالتالي، من زاويتين متقابلتين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى