محمود درويش: شاعر طروادة كولاج مسرحي لحسن الجريتلي في دمشق: قليل من المسرح، كثير من الشعر
راشد عيسى
»أنا متأكد أنه كان هناك شعراء في طروادة، ولكن صوت هوميروس، صوت المنتصرين، طغى حتى على حق الطرواديين في أن يحكوا جانبهم من القصة. أنا أحاول أن أكون شاعر طروادة«. من هذه العبارات استلّت فرقة الورشة المسرحية المصرية عنوان عرضها »محمود درويش: شاعر طروادة«، من إعداد وإخراج حسن الجريتلي، وقدمته احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية ٢٠٠٨ تحية إلى القدس عاصمة الثقافة العربية .٢٠٠٩
وصحيح أن العرض، المسمّى كولاجاً مسرحياً، لا يتطرق إلى هذه الفكرة بالذات، فكرة الشعر الذي يغنّي الهزيمة لا النصر، الشعر الذي يروي سير المهزومين، سوى أنه جمع، تقريباً، قصائد خفيضة النبرة من شعر درويش، حاولتْ أن تقول وتروي تاريخ العذاب الفلسطيني عبر محطاته البارزة. المشروع، الكولاج يشكل خطوة في مشروع كبير قادم، كما يقول المخرج الجريتلي، بعضه يأتي نتيجة حوار مع محمود درويش بدأ منذ أواخر العام ٢٠٠٦ وحتى رحيله. وحسب المخرج فإن درويش »قاوم فكرة كتابة النص مطولاً، ولكنه كان دائماً يلقاني عندما أطلب موعداً معه، ويترك الباب موارباً. وحكى لي أكثر من موقف وافق فيه على عمل أشياء بعد طول مقاومة، كالمشاركة في فيلم »موسيقانا« لجودار، وقراءة الشعر في حفل خيري في فندق في عمان. قلت له بعدها هل هذه رسالة غير مباشرة لي بألا أتنازل عن طلبي، فضحك. وفكرت أن تكون المــحاولة الأخـيرة هي أن أطلب منه أن يكتب بقايا نص لشاعر طروادي كان من الممكن أن نعثر عليها في أنقاض المدينة«.
استعاد العرض مقاطع من »خطبة الهندي الأحمر ما قبل الأخيرة أمام الرجل الأبيض«، و»البيت قتيلاً«، و»ذباب أخضر« وسواها. إلى جانب أغان معروفة ومتداولة عن قصائد درويش كـ»أحن إلى خبز أمي«، و»في البال أغنية«، و»ريتا والبندقية«. القصائد في معظمها قدمت بإلقاء الممثلين، وكانت غالباً من دون شغل مسرحي يذكر، كان الممثل يلقي قصيدته فيما يتحول باقي الممثلين إلى ما يشبه الجوقة، فوراء خطبة الهندي كنا نستمع إلى أنين الجوقة المكتوم، ووراء قصيدة مديح الظل العالي (المقطع الذي يغني صبرا وشاتيلا: صبرا تنام وخنجر الفاشيّ يصحو) كان الممثلون كومة من ضحايا المجزرة. في مرات أخرى كان الاشتغال المسرحي في حدوده الأولى، فقد تحولت قصيدة »أبد الصبار« إلى ثلاث شخصيات، الأب وابنه يمثلان رحلة الهجرة إلى الشمال، والراوي يحكي حكايتهما. حضرتْ أيضاً رسائل المنفيين إلى ذويهم، خصوصاً مع قصيدة »رسالة من المنفى« من ديوان »أوراق الزيتون«. من الواضح أيضاً أن انتقاء القصائد لم يقتصر فقط على تلك الخفيضة النبرة، أو تلك التي تجسد محطة في تاريخ الفلسطينيين، فالاعتبار الأقوى لقصائد فيها تعدد أصوات، حتى لو اقتصرت على صوتيْ الأنا والآخر، ففي »خطبة الهندي« سنجد صوت الهندي الأحمر قبالة الرجل الأبيض، وفي رسائل المنفيين، سنعثر على صوت المنفيّ أمام أمّ أو حبيبة. لكن ذلك وحده، أي العثور على أصوات عديدة في النص، لا يشكل بالضرورة إغراء مسرحياً، لأنه لا يعني العثور على ما هو درامي في القصيدة، ولم نعد نفهم كثيراً هذا الانشغال العربي بمسرحة القصيدة، في وقت تخلّى المسرح الحديث عن أدبية النص المسرحي وشعريته.
شهادة من لبنان
إلى جانب القصيدة والأغنية قدم العرض مشاهد أحدها يروي هجرة امرأة من قرية الكويكات (في عكا) إلى غزة، ومن ثم إلى مصر، وهي حكاية هجرة عادية من حكايات الرحيل الفلسطيني الكبير. كما قُدم مونتاج من خطابات الناشطة الأميركية التي دهستها جرافة إسرائيلية في غزة. كذلك انفرد مشهد لشخصية لبنانية يروي تجربته في القتل في مخيمي صبرا وشاتيلا إثر اجتياح العام ١٩٨٢ انتقاماً لمقتل بشير الجميل. الشهادة مأخوذة من فيلم تسجيلي ألماني بعنوان »مذبحة« سيناريو وإخراج مونيكا بوركمان. لكن الشهادة، حتى لو كانت شديدة الواقعية، فإن معادلها الفني غير ذي معنى، لا مغزى درامي له؛ لماذا يقول القاتل عن نفسه إنه قاتل رهيب ومغتصب وسفّاح، من غير أثر للندم أو الشعور بالذنب، وأيضاً من دون أن يسوق مسوغاته للجريمة؟ لا شك أن هذه الشهادة كان يمكن أن تكون أوجع على لسان الضحية.
لم يقدم العرض نفسه كعرض مسرحي مكتمل، واكتفى باسم كولاج مسرحي، لكننا لم نعثر على وشائج مسرحية تسوّغ قصائد محمود درويش، غير كونها تنتمي لشاعر واحد، أو لكونها تحتفي به. إن قصائد محمود درويش مؤثرة أينما حلّت، وكذلك الأغنيات التي لحّنها عن قصائده مارسيل، لكن لا ينبغي أن نعتمد على ذلك وحده. في العرض قليل جداً من المسرح، وكثير من الشعر، ومن الصعب أن نسوقه إلا في إطار الاحتفال بصوت محمود درويش.
(دمشق)
السفير