الأسد بين قمّة وأخرى: خطاب المقاوم أم المساوم؟
صبحي حديدي
رغم عشرات الأقوال المأثورة التي كرّرها والده حافظ الأسد حول الصراع العربي ـ الإسرائيلي ومسائل الحرب والسلام، شاء بشار الأسد الذهاب إلى ميراث الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، واختار العبارة الأشهر والأكثر جرياً على الألسن، فأعلن في قمة الدوحة أنّ “ما أخذ بالقوّة لا يسترد بغير القوّة”. قبل عبد الناصر، كان الأسد قد لجأ إلى الحديث النبوي (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)، ثمّ سفر “الخروج” في العهد القديم (العين بالعين والسنّ بالسنّ)، مشدّداً على أنّ البادىء أظلم…
والحال أنّ خطاب الدوحة هذا يذكّر بخطاب آخر، ألقاه بشار الأسد في قمة أخرى ـ عمّان، ربيع 2001 ـ ولم يكن آنذاك قد أكمل سنته الأولى في وراثة السلطة، حين استفاض في تقريع أخوته أصحاب السيادة والجلالة والسموّ لأنهم يسيرون بالأمّة العربية من ضعف إلى ضعف. ولقد حثّهم، وكان أصغرهم سنّاً وأحدثهم عهداً بالحكم، على “زيادة الإيجابيات على حساب السلبيات، وتعزيز نقاط القوة مقابل تقليص نقاط الضعف التي ما تزال كثيرة وعلى رأسها سوء التقدير وعدم قراءة الأحداث بشكلها الصحيح”.
ما هو البديل؟ هنا اقتراح الأسد، بالحرف: “نحن ثلاثمائة مليون عربي، وعندما نتخذ القرار الجريء والواضح فالثلاثمائة مليون سيدعموننا مادياً ومعنوياً، وعدا ذلك لن يقف معنا لا عربي ولا غير عربي، وسننتقل من ضعف إلى ضعف. فإذاً يجب أن نكون واعين لعدم الوقوع فى فخ ربط مواقفنا وسياساتنا تجاه قضايانا بالأشخاص فى إسرائيل، بل يجب ربط هذه المواقف والسياسات بالشارع الإسرائيلي الذي يظهر يوما بعد يوم أنه ضدّ السلام. نربط هذه المواقف بالشارع الإسرائيلي وهذا يعنى أن كلّ إسرائيلي مسؤول عن كلّ شبر من الأرض العربية. كلّ إسرائيلي مسؤول عن روح كل مواطن عربي أو عن روح كلّ مواطن عربي يمكن أن تزهق أو تزهق الآن. بالتالي فان الربط، ربط هذه المواقف بالأشخاص، هو ربط مؤقت، وهذا يعنى انه كلما أتى شخص نختلف على تقييمه وبالتالي علينا أن نلتقي أو نفترق حسب تبدل الحكومات والأشخاص، وهذا لا يجوز”.
لا يجوز، بالفعل، وينطبق على القائل قبل السامع، سيّما وأنّ أشهر معدودات كنت قد سبقت رهان النظام السوري على حكومة إيهود باراك، في البيت الأبيض كما في جنيف، قبل أن ينزل بالأخير عقاب الشارع الإسرائيلي دون سواه، فيأتي بجنرال مجزرة صبرا وشاتيلا، بيروت 1982، على حساب جنرال مجزرة فردان، بيروت 1973. ولم تكن الملايين العربية الثلاثمئة، وهي الآن تقارب نصف المليار بحمد الله، تنتظر أمراً قدر انتظارها ذلك “القرار الجرىء” من نظام أحلّ السلام في بطاح الجولان المحتلّ وهضابه، حتى قبل، ودون، توقيع اتفاقية سلام نهائية!
بيد أنّ خطبة الأسد كانت أقرب إلى كلمة حقّ يُراد منها ذرّ الرماد في العيون، كما برهنت الأشهر القليلة التي أعقبت هذا الخطاب، حين ذهبت مفرداته أدراج الرياح، سريعاً، بل أسرع ممّا انتظر أصحاب السيادة والجلالة والسموّ، ممّن أنصتوا إلى الوريث الشابّ يتلو عليهم مزامير سمعوها من قبل، وملّوا من اختراع أمثالها أو اجترارها. لقد بدأ بمزيد من إضعاف الداخل السوري، أو ما تسمّيه عقيدة حزب البعث “الجبهة الداخلية”، فبطش بـ “ربيع دمشق” وزجّ العشرات في المعتقلات، قبل إحالتهم إلى محاكم/مهازل قضائية؛ وأعاد طرائق القمع إلى أطوار بلغ بعضها في السوء درجات أشدّ ممّا كانت عليه أثناء حكم أبيه؛ وأطلق الذئاب الكاسرة، وليس القطط السمان وحدها، كي تعيث في البلد فساداً ونهباً. أمّا على صعيد “الجبهة الخارجية”، إذا جاز الإشتقاق من المصطلح البعثي، فإنّ مسلسل المفاوضات السرّية والعلنية، المباشرة أو غير المباشرة أو عن طريق الوسطاء، كان أكثر وضوحاً من أن يحتجب أو يُحجب.
فبأيّ قوّة، يسأل المرء أوّلاً إذْ يتابع حماسة الأسد في قمة الدوحة، يمكن للنظام السوري أن يستردّ الجولان المحتلّ؟ إنها، بالتأكيد، ليست القوّة العسكرية، إلا إذا كان الأسد يستغفل ملايين شعبه بادىء ذي بدء، ثمّ مئات ملايين العرب من المحيط إلى الخليج، وهذه تعرف البئر وغطاءه حول ما حلّ بالجيوش العربية عموماً، والجيش السوري خاصة، على أيدي أنظمة الإستبداد والوراثة والفساد. وفي كلّ حال، لقد خضعت “قوّة” النظام العسكرية إلى امتحانات عديدة في الآونة الأخيرة: الإنزال الأمريكي داخل العمق السوري في منطقة البوكمال، قصف موقع “الكبر” العسكري، تحليق القاذفات الإسرائيلية فوق الإستراحة الرئاسية في اللاذقية، قصف معسكر “عين الصاحب” غرب دمشق، لكي لا نعود بالذاكرة إلى اجتياح بيروت سنة 1982…
أم هي “قوّة” سياسية، عمادها أوراق النظام الراهنة في العلاقة مع إيران، ثمّ “حزب الله” و”حماس”، فضلاً عن الورقة الأهمّ المتمثلة في حرص الدولة العبرية، والولايات المتحدة أساساً، على عدم المساس بما يسمّونه “الإستقرار المجتمعي” في سورية الراهنة، تفادياً لفتح ساحة صراع جديدة لن تكون أولى عواقبها إلا فتح الأبواب على مصارعيها أمام انقضاض منظمات مثل “القاعدة” على أرض خصبة حتى إذا كانت اليوم في حال من السبات؟ غير أنّ هذه الأوراق، جميعها، هي للنظام مرّة، مثلما هي عليه مرّة أخرى، طبقاً لما يستجدّ أو يتبدّل من موازين قوى ومعادلات جيو ـ سياسية، ولأن السياسة في الشرق الأوسط، وفي إطارات إقليمية أوسع نطاقاً، لم تعد تقبل الكثير من الإصطفافات القصوى، البيضاء أو السوداء فقط، وغير الرمادية في المطلق.
وفي هذا السياق بدت المصالحات العربية وكأنها تجبّ ما قبلها بصدد خلافات اتضح أنها ليست في الجوهر إلا تكتيكات متباينة، وحدّتها سريعاً عمليات “تبويس الشوارب” كما في التعبير الشعبي البليغ، أو ردّتها إلى حجمها الطبيعي الذي لا يعلو على الشأن الأعلى للحاكم العربي: أي الإستقواء على شعبه، قبل الخصم أو العدوّ. وفي الجانب الجدلي من المسألة، كان لا بد أن يعكس البيان الختامي للقمّة زيف تلك المصالحات في ما يخصّ الشأن الراهن العاجل، أي الهمجية الإسرائيلية ضدّ أهل غزّة، وترحيل عجز النظام العربي الرسمي إلى المنطقة الوحيدة التي لا مراء في التوافق عليها: اللفظ الأجوف الطنّان الرنان!
ومن الثابت، في المنطق الحسابي البسيط قبل ذاك السياسي الذرائعي، أنّ ما تجنيه إيران أو “حزب الله” أو “حماس” من مغانم تكتيكية أو ستراتيجية جرّاء هذه أو تلك من آثار الإحتقان أو المقاومة أو الوفاق في المنطقة، لن يصبّ إلا جزئياً في رصيد النظام السوري، أو بالأحرى لن تكون حصّة النظام منه إلا ثانوية، لاحقة وجانبية بالقياس إلى الحصص الأصلية التي تصنعها الأطراف بنفسها، لنفسها. وهذه حصة لا تقيم أود النظام إلا مؤقتاً، واقعة بواقعة، واصطفافاً باصطفاف، وما هو مطلوب لا يقلّ البتة عن ضمان أمن النظام في المدى البعيد، وعلى غرار راسخ لا توفّره جهة إقليمية أفضل من الدولة العبرية، ولا قوّة كونية سوى الولايات المتحدة (ومن هنا إصرار الأسد على أن تكون أمريكا هي راعية المفاوضات السورية ـ الإسرائيلية).
ومن جانب آخر، ما الذي قدّمه النظام لحركة “حماس” على سبيل المثال، سوى الخطاب اللفظي، وإيواء خالد مشعل ورفاقه في إقامة ليست دائماً مأمونة العواقب (كما في اغتيال عز الدين الشيخ خليل في قلب دمشق، خريف 2004، لكي لا يقتبس المرء المثال الثاني الأوضح: اغتيال القيادي في “حزب الله” عماد مغنية)؟ ومَن الذي يضمن تلك الإقامة أصلاً، إذا توجّب أن يوقّع النظام اتفاقية سلام مع إسرائيل، تصرّ الأخيرة أنّ في رأس شروطها فصم العلاقات الراهنة بين النظام و”حماس”، إلى جانب “حزب الله” وإيران بالطبع؟ وهل يكفي أن يعلن الأسد أنه أوقف المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل (احتجاجاً على المجازر الإسرائيلية في غزّة، كما يفهم المرء!)، والكلّ يعلم انّ تلك المفاوضات كانت متوقفة أصلاً؟
وينبغي أن يكون رجالات “حماس”، أهل المقاومة على الأرض قبل أهل السياسة في القمم، فضلاً عن مئات ملايين العرب، على درجة إستثنائية في السذاجة لكي يصدّقوا أنّ بشار الأسد المؤمن بمبدأ “ما أخذ بالقوّة لا يُستردّ إلا بالقوّة” في قمّة الدوحة، هو نفسه بشار الأسد الذي قال قبل أيام قليلة إنّه يبني مع الإسرائيليين عمارة سلام. وكما يعلم الجميع، في مؤتمر صحفي مشترك مع الرئيس الكرواتي، قال الأسد بالحرف: “من الطبيعي أن ننتقل، في مرحلة لاحقة، إلى المفاوضات المباشرة. فنحن ليس بوسعنا تحقيق السلام عبر المفاوضات غير المباشرة فقط.” وشبّه عملية السلام بمشروع إشادة مبنى، قائلاً إن إسرائيل وسورية “تضعان الآن الأساس للسلام من خلال المحادثات غير المباشرة عبر الوسيط التركي”.
والذي يعتبر مبادرة السلام العربية في حكم الميتة، ويريد نقلها من سجلّ الأحياء إلى سجلّ الأموات، ماذا يقول عن مبادراته هو للسلام مع الدولة العبرية؟ هل يكتفي فقط بإيقاف مفاوضاته غير المباشرة، المتوقفة أصلاً، أم يعلن الإنسحاب النهائي من أيّ وكلّ مفاوضات مع دولة يصفها بنفسه هكذا: “هذا العدو الذي بنى وجوده على المجازر، وكرّس استمراره على الاغتصاب والتدمير ورسم مستقبله على الإبادة الجماعية، هو عدو لا يتحدث سوى لغة الدم، وبالتالي فهو لا يفهم سوى لغة الدم”؟ ولماذا فاوض هذا العدو أصلاً، وهو يقول التالي في توصيف المفاوضات: “كانت عملية السلام بالنسبة لنا مجرد محاولات لم تتطور لتصل إلى عملية سلام حقيقية، لأنّ الإسرائيليين يعانون من رهاب حقيقي تجاه السلام”؟
وقد يخال المرء أنّ الأسد قد غيّر مواقفه تلك، ولم يعد مؤمناً بالسلام، والتغيير سنّة الكون، وسبحان الذي يغيّر ولا يتغيّر. غير أنه، بعد قمّة الدوحة مباشرة، وفي حديث مع مجلة دير شبيغل” الألمانية، عاد إلى نقيض أقواله في فلسفة القوّة، فأكد مجدداً على خيار السلام (وهو، منطقياً، نقيض مقولة القوّة التي وحدها تعيد ما أخذ بالقوّة)، بل أوضح دون جلاء أنه ما يزال يعقد الأمل على حكومة أفضل في إسرائيل. والذي وبّخ أخوته أصحاب السيادة والجلالة والسموّ في قمّة عمّان سنة 2001، لأنهم يعقدون الآمال على الحكومات الإسرائيلية أو على الشارع الإسرائيلي، وقال بالأمس في قمّة الدوحة إن أرباب إسرائيل اعتبروا الدماء العربية بمثابة “الوقود الضروري لآلتهم في مراحل قيام الدولة اليهودية الصافية”، كيف يقول الآن: “نحن نريد طرفاً قوياً على الجانب الآخر من الطاولة لكي نصنع السلام”؟
أخيراً، الذي وصف بعض الحكام العرب بأنهم أشباه رجال، ذات يوم غير بعيد، كيف سارع إلى مقرّ إقامتهم في قمّة الكويت الإقتصادية، فتبادل معهم المصافحة والعناق والقبلات، هكذا… دون أي اكتراث بإبلاغ مئات ملايين العرب، الذين ينتظرون منه ومن سواه “القرار الجريء والواضح”، أنّ الأشباه عادوا رجالاً من جديد؟ وهل هذا، في الإجمال، بين قمّة وأخرى، خطاب المؤمن القويّ، أم المؤمن الضعيف، أم المقاوم، أم المساوم؟
خاص – صفحات سورية –