نافذة للقنص
سمير العيطة
الأزمات عندما تقترب من الاحتدام تخلق نافذةً لتطبيق ما كان يؤسّس له ببطء ورويّة. والفترات التي تسمّى “ضائعة” قبل استحقاق ما تخلق نافذةً لخلق واقعٍ جديد لا يمكن فكّه بعدها.
قراءة تطوّرات الحملة الانتخابية في الولايات المتحدة تشير إلى أنّ سيطرة المحافظين الجدد على الإدارة ستنتهي في آخر هذا العام. اللهم إلاّ إذا حدث عملٌ إرهابيّ كبير على أراضيها على شاكلة الحادي عشر من أيلول/سبتمبر أو إذا اندلعت حربٌ كبيرة في مكانٍ ما من العالم؛ وكان متوقّعاً أن تكون الضربة على إيران هي هذه الحرب، ولكن احتمالها أضحى اليوم ضعيفاً. إذاً هناك استحقاقٌ كبير أمام مهوسي الإدارة الحالية قبل أن يذهبوا إلى بيوتهم، سيقومون قبله بكلّ ما يستطيعون للاستعجال بخلق تغييراتٍ جوهريّة.
إحدى الأماكن الرئيسيّة المحتملة لإحداث هذه التغييرات الجوهريّة هي الشرق الأوسط. ولكن أين؟
لا يجب أن نُعِر اهتماماً إلى رغبة الرئيس جورج والكر بوش في تسجيل اسمه في التاريخ على أنّه صانع الدولة الفلسطينيّة. إذ أنّ المسار القائم على الأرض لا يبدو أنّه سيؤدّي إلى هذه النتيجة قبل الاستحقاق الحقيقي، ألا وهو خروجه الأكيد من الساحة السياسية. فاستلام السيد طوني بلير لهذا الملفّ لا يعطي مصداقيةً لنتائجٍ يمكن أن تراعي مطامح وكرامة الفلسطينيين. وما يجري على الأرض هناك يبدو أن موضوعه هو محاولة إعادة ربط قطاع غزّة مع مصر ووأد فكرة الدولة الفلسطينيّة في مهدها، أي في الأراضي الوحيدة التي يعيش فيه الفلسطينيّون بشكلٍ متماسك دون مستوطنات إسرائيليّة. إذ أن سباقاً دامياً (للفلسطينيين) يجري آتياً من معضلة السجّان الإسرائيليّ، أنّه لا يريد من ناحية حلاًّ على أساس الأرض مقابل السلام والتفاوض الحقيقي مع الأطراف الفلسطينيّة، كما لا يريد من ناحيةٍ أخرى أيّ بنيةٍ على الأرض تخلق تماسكاً يأتي بمقاومة، يمكن أن تصبح قاسيةً على مثال ما شهده مع جنوب لبنان. و بالتالي، لا يبدو أن التغيير الجوهري سيأتي في الملف الفلسطيني-الإسرائيلي، بل فقط مزيد من المآسي.
أمّا على طرفي الحدود العراقية الإيرانية، فهناك أيضاً سباقٌ مع الزمن بين التحوّلات الداخليّة في إيران، التي دخل أهلها في مرحلة ما بعد الثورة الإسلاميّة وينتظرون فقط أن تجسّد السياسة تطلّعاتهم الجديدة، وبين محاولة إعادة تركيب الصيغة العراقية في ظلّ الاحتلال والتلاعب الأمريكي وذلك لدول المنطقة، في مصائرها. المهمّ في هذا السباق أنّه يجعل بالياً الصورة التبسيطيّة عن “هلالٍ شيعيّ”، الذي لم يستخدم إلاّ لأنّ بعض الفرقاء العرب في الجنوب يحتاجون إلى مقولةٍ لخلقٍ تماسكٍ داخليّ ولعب دورٍ إقليميّ. والأهمّ هنا هو أن تعقيد الأمور وتورّط الإدارة الأمريكية الكبير لا يسمحا بإحداث خرقٍ كبير في الآليّات على المستوى المنظور.
الخرق كذلك لا يبدو في “الجبهة” الأخرى على طرفي الحدود بين تركيا والعراق. إذ هناك أيضاً سباقٌ مع الزمن بين حكومة “العدالة والتنمية”، التي أطلقت بقوّة تنمية المناطق الجنوبية الشرقيّة، وبين حكومة “كردستان العراق”، التي أضحت إعلاناتها للدعوة للاستثمار في مناطقها تغطّي حتّى الفضائيّات العربيّة. فتبدو الأمور وكأنّها سباقٌ بين رهانين، موضوعهما مشروع إقامة “الدولة الكرديّة”، أو استمرار دولة تركيّة قويّة متماسكة، كلاعبٍ اقتصاديّ وسياسيّ كبير في المنطقة. صحيحٌ أنّه، من حينٍ إلى آخر، يتوقّف هذا السباق ليتحوّل إلى مواجهة عسكريّة، عبر، أو بالأحرى ضدّ طرفٍ ثالث، هو حزب العمّال الكردستاني. ولكن هذا السباق لا يبدو أيضاً أنّه يمكن أن يشهد خرقاً جوهريّاً على المدى القصير.
يبقى الملفّ السوري اللبناني. فهناك أيضاً يجري سباقٌ بين جمود الأوضاع على الساحة الداخليّة اللبنانيّة وسرعة التحوّلات في الداخل السوري. إذ يَظهَر الجمود اللبناني مندفعاً نحو… الاستمرار على حاله؛ إذ أن الخروج منه يعني خسارة أحد الفرقاء، التي كان اتفاق الطائف وما تبعه قد أسّس أصلاً على الإبقاء على توازنها. وحتّى الحرب التي هدّت فيها إسرائيل بنى هذا البلد في صيف 2006 لم تأتِ إلى كسر هذا الجمود، بل على العكس. ويبدو مشروع 14 آذار منهَكاً… لأنّه لا يجد صيغةً يستطيع معها جلب الطرف الآخر إلى جانبه، أو على الأقلّ تحييده. أمّا في سورية، فقد انخرط هذا البلد في تحوّلات اقتصادية كبيرة، أتت أساساً كردٍّ على الضغوط الأمريكيّة، وظهر مشروعٌ اقتصاديّ نيوليبرالي يؤدّي في نهاية المطاف إلى إعادة إنتاج النموذج الاقتصادي اللبناني… في سورية، مع كلّ تداعيات ذلك نسبةً للتوازنات الداخليّة وللفعّاليّات الاقتصادية السورية واللبنانية على السواء. هذا في ظلّ مزيد من التحجّر للسلطة في سورية على الصعيد السياسي. وفي مقابل بوادر هذه الهشاشة الداخليّة، يبقى هناك ذلك التحالف العضوي القائم مع حزب الله في لبنان، الذي يشكّل الورقة الرئيسيّة في المعادلات الإقليميّة وخاصّة فيما سمّي تلازم المسارين (أي إمكانية إعادة سورية لجولانها المحتلّ من قبل إسرائيل من خلال حلٍّ متوازي سوري-لبناني للصراع مع هذا البلد). من هنا يأتي اغتيال السيّد عماد مغنيّة، المسؤول العسكري لحزب الله في قلب دمشق وعلى مقربة من قيادة الاستخبارات العسكريّة السورية. مهماً كانت المسؤوليات عنه فإنّ هدفه هو محاولة ضرب إسفين في العلاقة بين سورية وحزب الله، والانطلاق في آلية جديدة من التزام السيّد حسن نصر الله بالردّ عليه بالحجم المناسب، ومن الردّ الإسرائيلي على هذا الرد، وربّما على سورية مباشرةً هذه المرّة. هذا إذا ما استثنينا أمور المحكمة الدوليّة وقرارها الاتهامي الذي سيأتي بمفاعيله أيضاً.
إذاً يبدو أنّ الساحة السورية اللبنانيّة هي المرشّحة كي يُحدِث المحافظون الجدد اختراقاً يؤدّي إلى تغييرٍ جوهريّ، قبل أن يرحلوا. اللهم إلاّ إذا عصفت الأزمة الاقتصادية والمالية قاسيةً في العالم الغربي بحيث تلهيهم عن هذه المنطقة التي تستمرّ يوماً بعد يوم في لئم جراحاتها… قبل أن تدمى جراحات أخرى.
* اقتصادي، رئيس تحرير النشرة العربية من لوموند ديبلوماتيك ورئيس مجلس ادارة موقع مفهوم A Concept mafhoum, www.mafhoum.com