صفحات سورية

هل يبقى الدمُ المهدورُ مهدوراً..؟!

null


هيثم حسين

لم يخفَ في يومٍ ما، ولن يخفى أبداً أنّه لا يمكن لأحدٍ أن يحمل أرضه فوق ظهره ويرحل بها ليحطّ رحاله في مكان آخر يكون مهيَّأً لذلك، أي يكون فضاء فراغاً يستتبع الفراغ ويستولده، في فوضى فراغيّة لا تتهندس.. لذا فينجبر المرء في مثل هذه الحالة على الرضوخ للأمر الواقع،
وهذا الأمر الواقع هو الذي لابدّ من تقبّله ومعايشته ومسايرته، وهنا، لطالما لقينا أنفسنا، أو أُلقينا، في هذه البقعة من الأرض، فلابدّ لنا احتواء هذا الأمر، وتبديد كلّ فتنة تستهدف تواجدنا، تعايشنا، تآلفنا، إخوّتنا، شراكتنا، علاقاتنا الإنسانيّة، ولأنّنا متماسّون في كثير من النقاط التي تتداخل عندنا، فلابدّ لنا أيضاً من التماسات لبعضنا، درءاً لما يحاك لنا، في أقبية تسعى إلى تعمية الأبصار بنشر العتمة، وتمويت البصائر بالتحكّم بالمصائر، ورسمها وفق أجندات تفرّق فلا يكون جمع، وتدمّر فيستحيل التعمير.. ولأنّنا هنا، والتّماسُّ قد جمعنا، ولا نستطيع منه مهرباً، فالأجدى لنا وبنا التماس الأعذار غير المتهرّبة من توزيع المهام المنوطة بكلّ فرد، لتكون الرغبة في السلام والخير فرضَ عين لا فرضَ كفاية، ولتحلّ الوازرة محلّ أخرى، في المسؤوليّة الجماعيّة، في الجماعة المسؤولة، كي يُفضَح المتسلّلون الذين لا يريحهم أن يعيش الجميع بهناءة وسعادة، ويشهَّر بهم على الملأ، ومن ثمّ ليحاسَبوا وينالوا جزاء ما اقترفت أياديهم من سوء تخطيط وسيّئ تقديرٍ، كما يجب أن يطوَّط لهم، قبل أن يشمّعوا الخيط، ويهربوا بما أتوه من منكَر، وبما استحصلوه من دماء الشعب..

لأنّ الكلّ يلقي بالمسؤوليّة على الكلّ، يعمّم ليضيّع، يوسّع ليضيّق، يرفع الصوت بالضجيج ليغطّي على الحقيقة المنجلاة، هذه التي لا يخفيها التضبيب والتعامي والإعماء، ولا ينسيها تقادم الأيّام أو جرائم الإنساء..

إدانة الضحيّة:

دأب البعض في الفترة الأخيرة، كعادتهم، عندما يدأبون على نقطةِ تهرّبٍ بعينها، أو نقطةٍ تكون مرتكزاً للتندّم والتلاوم، بل والتجريم أيضاً، على إدانة الضحيّة، انطلاقاً من عقد نقصٍ غير قابلة للشفاء، وانطلاقاً من الخشية على فقد الامتيازات المستحصلة بالاستجداء والترجّي، وليس دأبهم المكروه هذا، إلاّ انسياقاً وراء غول متشكّلٍ من الجبن الذي ينهش الأعماق، ولا يترك إلاّ الأطلال التي لا تصلح لوقوف أو عويل، بل تصلح للهباء فقط، وتستهيأ للإمحاء والاختباء في الجحر كي لا تكون دريئة تصدّ الرياح العاتية، ولا مصدّاً لهجوم شرس يستهدف الوجود والمستقبل في نثر وضرب ما قد يزهر في يومٍ ما..

يتناهى إلى الأسماع بعض – (إن كان قليلاً فهذا مصيبة وإن كثر فالمصيبة أعظم)- من الأقاويل التقريعيّة المتمادية في جلد الذات لإرضاء الجلاّد، تلك الأباطيل التي لا تقل شناعة وبشاعة عن جرائم القتل العمد المرتكبة، ولا عن المجازر المدبّرة بكَيديّة أعمت مرتكبيها ومدبّريها، ذلك لأنّها صادرة ومنبثقة ومحفوفة بالحقد على الوطن؛ هذا الذي يتبجّح بالاستماتة في الدفاع عنه الكلّ ضدّ الكلّ، ومنها، ما هو صادر ممّن ينظر إلى نفسه على أنّه هو المخلّص الفادي، وأنّه هو الأذكى والأدهى، وأنّه لو تُرك الأمر له لحلّ القضيّة على البارد المستريح، ودون أيّة تضحيات، ذلك لأنّ الأمر بنظرهم لا يستحقّ ذلك، ولا يتحمّله أيضاً، ولم يحن الوقت بعد، حيث يكون التأجيل الدائم أمثل الحلول في ظلّ التأزيم المستمرّ عقوداً وعقوداً، وهؤلاء يحلو لهم اجترار مقولات تدين الشهيد وتبارك طلقة القاتل، وذلك بوصف الشهداء على أنّهم شلّة من الزعران، أو الصيَّع، أو المتسكّعون، أو الصعاليك، أو الجهلة، (sîpe mîpe, sakûl makûl, zarok marok) وبأنّ هؤلاء هم مَن تحرّشوا بالقوّات واستفزّوها، بل واعتدوا عليها بالضرب المبرّح، في حين وقفت تلك القوّات متفرّجة لا تحرّك ساكناً تُضرَب ولا تضرِب، إلاّ حين بلغ السكّين العظم، فاضطرّوا إلى حماية أنفسهم..

وكذلك من قائلٍ مسفّهٍ لحجم التضحية المقدَّمة، هذا الذي يعتبر القاتل الأوّل والفعليّ، والذي يرخّص الدم المراق، ويسيء إلى ذكرى الشهداء بالتمثيل بهم وأكل لحمهم لأنّهم كرهوا ارتضاء ما ارتضاه الآخرون..

ليس من شكّ أنّ كلّ شعب ينظر إلى نفسه على أنّه شعب متكامل، يحتاج إلى كلّ فرد من أفراده، حتّى المنبوذون والمشرّدون والصعاليك والزعران..إلخ، هنالك حاجة إليهم، فالوطن يحتاج إلى جهود الجميع، والبحث عن الجمهورية الأفلاطونيّة في واقعنا، هو اختباء خلف قناع الحلم الفردوسيّ الجميل، في حين هو الوهم والكابوس الجاثم على الصدور بعينه، حتّى ولو افترضنا جدلاً أنّ البعض قد أساء في جانب ما، فهل تعالج الإساءة بالقتل، وهل تُداوَى بالتصفية.. أليست هنالك سبل كثيرة للمعالجة والحيلولة دون ذلك، قبل اللجوء إلى جريمة الجرائم كلّها، هذه التي هي استهداف العزّل بالرصاص الحيّ المميت..

نتساءل: هل انعدمت الوسائل التي تعتمَد في مثل هذه الحالات، وهل فُقدت الهراوات، أم هل العلاج بالقتل صار خيراً من الوقاية من القتل باللجوء إلى القتل..؟ هل تقطر البنادق أم أنّ القلوب المفعمة بالحقد على الوطن هي التي تمطر وتستقطر اللهب وتنفث اللظى، وتحرق القلوب، في سعيها إلى تبديد المدن وتفتيتها.. وهنا نلاحظ أنّ المثل العربيّ القائل: “آخر العلاج الكيّ”، قد تحوّل بفعلٍ تعصّبٍ عروبويّ قاصر إلى فعل: “أوّل العلاج القتل”.. وتحوّل من جهة أخرى إلى قصور كرديّ ومثل يصحّ في مثل هذه الحالة: “أوّل العلاج وآخره المثَلُ والقول”..

إدانة الضحيّة عارٌ عظيم.. التماس الأعذار للقتلة عارٌ أعظم وأعظم..

الحصيلة شهداء ثلاثة، مواطنون سوريّون كُرد “محمّدون ـ مسلمون”، وأسر مغلوبة على أمرها منكوبة بجرحاها، وقتلة مجهولون بقدر ما هم معلومون، المطلوب هو البحث عن الآمر الفعليّ بالكبس على الزناد، وهذه مهمّة الجميع، وإلاّ فالإدانة من نصيب الجميع، وكلّ على مستواه..

heysem1@hotmail.com

خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى