نصر حامد أبو زيد: محنة التفكير في زمن التكفير والتحريم
خالد غزال
ليس من قبيل المبالغة إطلاق اسم “الشهيد الحي” على الكاتب المصري نصر حامد أبو زيد. دفع أبو زيد ثمنا غاليا لدراساته حول النص الديني من خلال اعتماد منطق ومنهج وتوجه مخالف للتقليد السائد. “أقيمت الدنيا عليه ولم تقعد” حتى الآن، وسخّر القضاء المصري نفسه في تلفيق التهم بالردّة والإلحاد ضدّه فأصدر قرارا تعسّفيا بتفريقه عن زوجته. وضع على لائحة المطلوب تصفيتهم جسدياً بعد أن أفتى رجال دين ينتمون إلى أزمان القرون الوسطى ومحاكم التفتيش بهدر دمه. صحيح أنّ “حكم الإعدام” الذي صدر بحقّه من خلال اتهامه بالهرطقة والزندقة لم يجد طريقه إلى إزاحة أبو زيد من هذه الحياة، لكنّ تطبيق هذا الحكم اتّخذ شكلا مؤلما لأبو زيد عندما أجبر على مغادرة بلده مصر والالتجاء إلى بلد أوروبي من أجل أن يدرأ الموت الذي كان محتّما فيما لو بقي مقيما في مصر، خصوصا أنّ مصير الكاتب فرج فوده وغيره من المتنوّرين كان لا يزال ماثلا وأنّ دمه لم يجفّ بعد. هكذا اختار أبو زيد تنفيذ الحكم ضدّه بنفي نفسه من بلده وارتضاء العيش في العالم الغربي، وهو أمر أتاح له أن يستمرّ في عطائه وفي مقارعة التخلّف الثقافي والفكري الذي تقبع فيه المجتمعات العربية بشكل عامّ، وأن يستكمل مقارعته للأصولية الإسلامية وفكرها الظلامي.
السياق التاريخي لزمن أبو زيد
برزت طروحات نصر حامد أبو زيد ودراساته في الربع الأخير من القرن العشرين، وهي فترة تميزت بخصوصيات في العالم العربي عموما وفي مصر خصوصا. عربيا كانت تلك الفترة تشهد ذروة انهيار مشروع التحديث العربي والبرنامج القومي والاشتراكي الذي ساد في أعقاب تحرر البلدان العربية من الاستعمار وإقامة الدولة الوطنية فيها. فشلت الأنظمة والسلطات والطبقات السائدة في إنجاز مشروع التحرر الوطني والقومي، وعجزت عن مواجهة المشروع الصهيوني بل تكبّدت خسائر إضافية في مواجهته، وعجزت أيضا عن إقامة مشاريع تنموية تسهم في نهضة المجتمعات العربية وانتشالها من الفقر المدقع، كما فشلت في وعودها بتحقيق الديمقراطية والعدالة والمساواة والحفاظ على حرية التعبير. فما حققته هذه الأنظمة جاء معاكسا لوعودها في جميع المجالات، فالقهر القومي والوطني تصاعد في ظلّ استسلام عربيّ أمام العدو الصهيوني والامبريالي، والتقدم الاقتصادي المنشود تحوّل إلى مزيد من البؤس الاجتماعي من خلال مستوى الفقر المدقع الذي يطال معظم الشعوب العربية، مضافا إليه أرقام خيالية في البطالة ومستوى الأمية. أمّا على صعيد إقامة الديمقراطية، فالفاجعة أكبر من أن توصف، فجرى قمع الحريات وفتحت السجون وعلّقت المشانق ضدّ المعارضات إلى أيّ نوع انتمت، ومن لم يكن في السجن كان مصيره القبر أو المنفى، بحيث أمكن لهذه الأنظمة إبادة قوى المعارضة بما سمح لها باسترخاء واطمئنان إلى سيادة سلطتها. في هذا المناخ من العجز تقدّمت الحركات الإسلامية الأصولية لتقدم نفسها جوابا عن فشل المشاريع القومية والاشتراكية وطرحت شعار “الإسلام هو الحل”، وتمكنت عبر ازدياد نفوذها من فرض تشريعات وسلوكيات ليس أقلّها فرض الأحكام التي تراها مناسبة بواسطة القوّة والتصدي لكلّ مخالف لرأيها في هذا المجال.
أما مصريا، فقد شهدت تلك الفترة حكم أنور السادات في أعقاب وفاة جمال عبد الناصر، حيث استحضر السادات الحركات الإسلامية، خصوصا منها حركة الإخوان المسلمين، وأعطاها دوراً كبيراً في الحياة السياسية والفكرية والثقافية في مصر، وذلك في سياق صراعه مع بقايا الناصرية واليسار. وأرفق السادات هذا التوجّه بعقد حلف مقدّس مع المؤسسة الدينية الرسمية تقوم هذه المؤسسة بموجبها بدعم سياسات الرئيس المصري، الداخلية منها والخارجية، مقابل إطلاق يد المؤسسة الدينية في فرض تشريعات تستند في رأيها إلى الدين الإسلامي، ومكافحة ما تراه يمسّ في دور هذه المؤسسة في الهيمنة على الحياة الثقافية والفكرية في مصر.
استفادت الحركات الإسلامية ومعها المؤسسة الدينية من الغطاء السياسي الذي وفّره لها نظام السادات في شنّ حملات متواصلة ضدّ الكتّاب والمفكّرين ورجال الصحافة من الذين ترى أنهم يناوئون سيطرة المؤسسة الدينية على الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية في مصر، أو من الذين يعارضون السياسة العامة للسادات خصوصا في مجال الصلح مع إسرائيل، حيث تبرع شيخ الأزهر آنذاك بإصدار فتوى تجيز هذا الصلح وتقرنه بما قام به الرسول محمد في زمن الدعوة الإسلامية. هكذا جرّدت حملة شعواء من رجال الدين واستحضرت دعاوى “الحسبة” ووضع القضاء في خدمة هذه الحملة منعا لبروز أصوات معارضة ضد النظام وسعيا لسيادة ما تقول به المؤسسة الدينية ومعها الحركات الإسلامية السائدة. في هذا المناخ انطلقت الحملة ضد نصر حامد أبو زيد، حيث كان هناك إجماع من المؤسسة الدينية والحركات الإسلامية على خطورة طروحاته التجديدية والتنويرية، وما يمكن أن تشكل من أثر إيجابي في الحياة الثقافية في مصر. جرى تصويره عدوا للدين وحاملا معول هدمه، فكان لا بدّ من وضع حدّ لهذا الرجل والتمثيل به عقابا له ودرسا لأمثاله في مصر وخارجها. فما هي مفاصل خطاب أبو زيد الذي استوجب هذا الحقد وهذا الانتقام في الوقت نفسه؟.
سلطة العقل في مواجهة سلطة النص
تركّز قسم كبير من عمل نصر حامد أبو زيد على قراءة النص الديني من جميع جوانبه التاريخية واللغوية والأهداف الدينية التي سعى إليها، وكان سلاحه في مقاربة هذا النص اللجوء إلى العقل ليمكن عبره وحده فصل الأمور المتداخلة عن بعضها بين ما هو ديني وما هو دنيوي. لذلك احتلت قراءته لمفاصل الخطاب الديني أولوية في مقاربة سائر المسائل التي يفرزها هذا النص على صعيد النظرية والممارسة. يحدد أبو زيد في كتابه :”نقد الخطاب الديني” هذه المفاصل بأربعة. يتعلق المفصل الأول بمقولة “التوحيد بين الفكر الديني وإلغاء المسافة بين الذات والموضوع” (ص14)، حيث يشير إلى إدراك مبكر لدى المسلمين أن “للنصوص الدينية مجالات فعاليتها الخاصة، وأن ثمة مجالات أخرى تخضع لفاعلية العقل البشري والخبرة الإنسانية، ولا تتعلق بها فعالية النصوص” (ص28). في هذا المجال كانت هناك تساؤلات عن مواقف النبي نفسه وتصرفاته وما إذا كانت محكومة بالوحي أم بالخبرة والعقل. لكن الخطاب الديني اتخذ منحى مختلفاً بعد رحيل الرسول تمثل في تحوله إلى سلطة خصوصا منذ العهد الأموي وما تلاه في العهود اللاحقة. سعى الخطاب الديني إلى التوحيد بطريقة آلية بين النص الديني وبين قراءاته وفهمه له. وبهذا التوحيد لم يعد الخطاب الديني يقوم “بإلغاء المسافة المعرفية بين “الذات” و”الموضوع” فقط، بل يتجاوز ذلك إلى ادعاء- ضمني – بقدرته على تجاوز كل الشروط والعوائق الوجودية والمعرفية والوصول إلى القصد الإلهي الكامن في هذه النصوص” (ص28). تكمن خطورة هذه الوجهة في القراءة من كون الخطاب الديني المعاصر يتحوّل إلى اعتبار نفسه “متحدّثا باسم الله” بكلّ ما يعنيه ذلك من تسليط سلطة هذا الخطاب على الفكر والاجتهاد واستخدام العقل في تحكيمه سلطانا على صحّة هذه القضية أو تلك.
المفصل الثاني في الخطاب الديني يتناول مسألة “تفسير الظواهر كلها بردها جميعا إلى مبدأ علة أولى، تستوي في ذلك الظواهر الاجتماعية والطبيعية” (ص14). تسود الخطاب الديني مقولة عن وجود إسلام واحد لا يبلغه إلاّ العلماء، تحوي هذه المقولة أبعادا خطيرة “تهدد المجتمع، وتكاد تشل فاعلية “العقل” في شؤون الحياة والواقع. ويعتمد الخطاب الديني في توظيفه لهذه الآلية على ذلك الشعور الديني العادي، فيوظفها على أساس أنها إحدى مسلمات العقيدة التي لا تناقش. وإذا كانت كل العقائد تؤمن بأن العالم مدين في وجوده إلى علة أو مبدأ أول – هو الله في الإسلام- فإن الخطاب الديني – لا العقيدة- هو الذي يقوم بتفسير كل الظواهر الطبيعية والاجتماعية، بردها جميعا إلى المبدأ الأول. إنه يقوم بإحلال “إله” في الواقع العيني المباشر، ويرد إليه كل ما يقع فيه. وفي هذا الإحلال يتم تلقائيا نفي الإنسان، كما يتم إلغاء “القوانين” الطبيعية والاجتماعية ومصادرة أية معرفة لا سند لها من الخطاب الديني أو من سلطة العلماء”(ص32). ترتبت على هذه المقولة نتائج خطيرة لدى وضعها موضع التطبيق وعلى الأخص منها نظرية “الحاكمية الإلهية” نقيضا لحاكمية البشر التي ازدهرت لدى الحركات الإسلامية في العالم العربي والأسيوي، خلال القرن الماضي، والتي عادت تتجدد بقوّة مع الإسلام الأصولي في شكله المتطرف خصوصا في فكر “تنظيم القاعدة” وغيرها من الحركات الدينية السياسية المشابهة. وهو منحى في القراءة كان من الطبيعي أن يصل بأصحابه إلى الهجوم على العلمانية القائلة بسلطة الإنسان وعقله، انطلاقا من اتهام هذه العلمانية بالانسجام مع الفكر الغربي الذي ينظر إلى الله على أساس خلقه للعالم ثم تركه لشؤون البشر لإدارته. فيما تقوم نظرة المسلمين إلى الله على ما يورد يوسف القرضاوي “بأنه خالق الخلق، ومالك الملك، ومدبّر الأمر، الذي أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا، ووسعت رحمته كل شيء، ورزقه كل حي. لهذا أنزل الشرائع، وأحل الحلال، وحرم الحرام، وفرض على عباده أن يلتزموا بما شرع، ويحكموا بما أنزل، وإلاّ كفروا وظلموا وفسقوا” (ص33-34).
يقوم المفصل الثالث في الخطاب الديني على “الاعتماد على سلطة “السلف” أو “التراث”، وذلك بعد تحويل النصوص التراثية – وهي نصوص ثانوية- إلى أولية تتمتع بقدر هائل من القداسة لا تقل – في كثير من الأحوال- عن النصوص الأصلية” (ص14). يحوّل الخطاب الديني أقوال السلف واجتهاداتهم إلى نصوص مقدسة يصعب فيها الاجتهاد، بل أن الأسوأ يكون عندما يوحّد الخطاب بين “اجتهاداته” نفسه وبين الدين. والبارز في الخطاب تغليب جانب من التراث المتوافق مع توجهاته، وتجاهل الجانب الآخر القابل لنقض مقولاته. يشير أبو زيد إلى تاريخ تبلور الخطاب الديني في محدداته الرئيسية فيعيده إلى الأمويين-لا الخوارج- الذين طرحوا “مفهوم “الحاكمية” بكل ما يشمل عليه من دعوى فعالية النصوص في مجال الخصومة السياسية وخلافات المصالح، وذلك حين استجاب معاوية لنصيحة ابن العاص وأمر رجاله برفع المصاحف على أسنة السيوف داعين إلى الاحتكام إلى كتاب الله” (ص38). وهو أسلوب ظل الحاكم المفتقد إلى الشرعية يلجأ إليه في كل التاريخ العربي والإسلامي حتى الزمن الراهن.
الأخطر في الخطاب الديني الموروث عن الزمن الأموي والمستمر في جوهر طرحه هو اعتماد مقولة “الجبر” التي تعيد كل ما يحدث في العالم، بما فيها أفعال الإنسان إلى قدرة الله وسلطته الشاملة، ليتحول هذا المبدأ إلى قانون عام مع تطور الفقه الإسلامي خصوصا على يد الأشعري الذي أوصلت أطروحاته إلى إهدار قانون “السببية”. في المقابل يتجاهل الخطاب الديني جانبا أساسيا من التراث وهو المتعلق بعلم الكلام وما قدمه على صعيد قراءة النص الديني والجدل حوله، وعلى الأخص ما قالت به المعتزلة وأقطابها من تفسير تطرقوا فيه إلى الجوانب الدينية وغير الدينية استنادا إلى المنطق القائم على العقل. لم يكتف الخطاب الديني بتجاهل التيارات العقلانية في التراث بل عمد إلى تسليط الهجوم عليها والنبذ لها وتصنيفها في إطار الهرطقة والزندقة، مقابل إضفاء القدسية على نصوصه، وهي إمور ترتبت عليها نتائج خطيرة في إعطاء مشروعية لاضطهاد أصحاب النزعات العقلانية في التراث العربي والإسلامي.
يتناول المفصل الرابع في الخطاب الديني قضية “اليقين الذهني والحسم الفكري “القطعي”، ورفض أي خلاف فكري، إلاّ إذا كان في الفروع والتفاصيل دون الأسس والأصول” (ص14). لا يتحمل الخطاب الديني الخلافات الجذرية انطلاقا من كونه ” متشبّعا” بعقيدة امتلاكه الحقيقة المطلقة واستيلائه على كل التفسيرات الخاصة بالدين والحياة. “يصر الخطاب الديني على أنه جهة الاختصاص الوحيدة، فلا قيمة لأي بيان أو حكم ما لم يكن مستندا إلى المفاهيم الإسلامية الأصلية، وإلى النصوص والقواعد الشرعية”. (ص44). يترتب على هذا الإلزام إعطاء مشروعية لما تقوم به حركات التطرف الإسلامي من تشدد وقمع خصوصا على مستوى السلوك الحياتي، حيث يرى المتطرف أن أعماله يسندها النص الديني وفتاوى العلماء، مما يعطيه “شحنة إيمانية” يرى بموجبها أنه ينفذ أوامر الله ورسوله.
أمّا المفصل الخامس فهو المتصل بـ”إهدار البعد التاريخي وتجاهله، ويتجلى هذا في البكاء على الماضي الجميل يستوي في ذلك العصر الذهبي للخلافة الرشيدة، وعصر الخلافة التركية العثمانية” (ص14). تتجلى هذه الآلية في مجمل الخطاب الديني ومعه منطلقاته الأساسية. فالتوحيد بين الفكر والدين يوصل مباشرة إلى التوحيد بين الإنساني والإلهي يدفع بالخطاب الديني إلى إهدار البعد التاريخي الذي يفصله عن زمان النص وصولا إلى إدعاء القدرة على معرفة القصد الإلهي. يشير أبو زيد إلى هذه المسألة بالقول :”يبدو إهدار البعد التاريخي في تصور التطابق بين مشكلات الحاضر وهمومه وبين مشكلات الماضي وهمومه، وافتراض إمكانية صلاحية حلول الماضي للتطبيق على الحاضر. ويكون الاستناد إلى سلطة السلف والتراث، واعتماد نصوصهم بوصفها نصوصا أولية تتمتع بذات قداسة النصوص الأولية، تكثيفا لآلية إهدار البعد التاريخي، وكلتا الآلتين تساهم في تعميق اغتراب الإنسان والتستر على مشكلات الواقع الفعلية في الخطاب الديني. ومن هذه الزاوية نلمح التفاعل بين هذه الآلية وبين الآلية الثانية :”رد الظواهرإلى مبدأ واحد”، خاصة فيما يرتبط بتفسير الظواهر الاجتماعية. إن رد كل أزمة من أزمات الواقع في المجتمعات الإسلامية – بل وكل أزمات البشرية- إلى “البعد عن منهج الله” هو في الحقيقة عجز عن التعامل مع الحقائق التاريخية، وإلقاؤها في دائرة المطلق والغيبي. والنتيجة الحتمية لمثل هذا المنهج تأبيد الواقع وتعميق اغتراب الإنسان فيه، والوقوف جنبا إلى جنب مع التخلف ضد قوى التقدم، تناقضا مع ظاهر الخطاب الذي يبدو ساعيا للإصلاح والتغيير، ومناديا بالتقدم والتطوير”(ص53).
التجديد في قراءة النص الديني
كان أبرز ما قدمه أبو زيد من جديد، وأثار عليه نقمة و”هياج” المؤسسة الدينية، الدراسات المتعلقة بالنص الديني وخصوصا منها قراءة القرآن وكيفية فهمه، بما يناقض المفهوم التقليدي السائد. اعتبر أبو زيد أن الفكر البشري بما فيه الفكر الديني إنما هو نتاج مجمل الظروف التاريخية المتضمنة جملة عوامل اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية لعصر محدد وفي مرحلة تاريخية محددة أيضا. يشير إلى هذا المدخل المنهجي الذي يحكم قراءته للنص بمجملها بالقول في كتابه “نقد الخطاب الديني” :”ليس الفكر الديني بمعزل عن القوانين التي تحكم حركة الفكر البشري عموما، ذلك أنه لا يكتسب من موضوعه-الدين- قداسته وإطلاقه. ولا بد هنا من التمييز والفصل بين “الدين”، والفكر الديني، فالدين هو مجموعة النصوص المقدسة الثابتة تاريخياً، في حين أن الفكر الديني هو الاجتهادات البشرية لفهم تلك النصوص وتأويلها واستخراج دلالتها. ومن الطبيعي أن تختلف الاجتهادات من عصر إلى عصر، بل ومن الطبيعي أيضا أن تختلف من بيئة – واقع اجتماعي تاريخي جغرافي عرقي محدد- إلى بيئة في إطار بعينه، وأن تتعدد الاجتهادات بنفس القدر من مفكر إلى مفكر داخل البيئة المعينة” ص185). يوضح منطق أطروحته مفسراً منهجه بأن “الوعي التاريخي العلمي بالنصوص الدينية يتجاوز أطروحات الفكر الديني قديما وحديثاً، ويعتمد على إنجازات العلوم اللغوية خاصة في مجال دراسة النصوص” (ص189).لذا تبدو مشكلة الفكر الديني عائدة إلى كونه ينطلق من تصورات عقائدية ومذهبية عن الإله وطبيعته مقارنة بالطبيعة الإنسانية، فيذهب هذا الفكر إلى معالجة وقراءة هذه النصوص الدينية “جاعلا إياها تنطق بتلك التصورات والعقائد”، مما يعني فرض التفسير الإنساني التاريخي من الخارج ، وهو تفسير يسعى الفكر الديني “أن يلبسه لباسا ميتافيزيقيا ليضفي عليه طابع الأبدية والسرمدية في آن واحد” (ص190).
انطلاقا من هذه المقدمات، تقوم الأطروحة المركزية لأبو زيد على اعتبار النصوص الدينية “ليست في التحليل الأخير سوى نصوص لغوية”، أي أنها تنتمي إلى بنية ثقافية محددة و”تم إنتاجها طبقاً لقوانين تلك الثقافة التي تعد اللغة نظامها الدلالي المركزي” (ص193).يذهب أبو زيد إلى أن الأصل الإلهي لا يحجب إمكان البحث فيها بل يفرض ضرورة درسها وتحليلها، وأن هذا الدرس لا يتطلب منهجيات خاصة تتناسب مع طبيعتها الإلهية. “إن القول بإلهية النصوص والإصرار على طبيعتها الإلهية تلك يستلزم أن البشر عاجزين بمناهجهم عن فهمها ما لم تتدخل العناية الإلهية بوهب بعض البشر طاقات خاصة تمكنهم من الفهم ، وهذا بالضبط ما يقوله المتصوفة. وهكذا تتحول النصوص الدينية إلى نصوص مستغلقة على فهم الإنسان العادي – مقصد الوحي وغايته- وتصبح شفرة إلهية لا تحلها إلاّ قوة إلهية خاصة. وهكذا يبدو وكأن الله يكلم نفسه ويناجي ذاته، وتنتفي عن النصوص الدينية صفات “الرسالة” و”البلاغ” و”الهداية” و”النور” …وإذا كنّا هنا نتبنى القول ببشرية النصوص الدينية، فإن هذا التبني لا يقوم على أساس نفعي أيديولوجي يواجه الفكر الديني السائد والمسيطر، بل يقوم على أساس موضوعي يستند إلى حقائق التاريخ وإلى حقائق النصوص ذاتها. وفي مثل هذا الطرح يكون الاستناد إلى الموقف الاعتزالي التراثي وما يطرحه من حدوث النص وخلقه ليس استنادا تأسيسيا، بمعنى أن الموقف الاعتزالي رغم أهميته التاريخية يظل موقفا تراثيا لا يؤسس –وحده- وعينا العلمي بطبيعة النصوص الدينية” (ص197-198). من هنا يمكن القول أنه إذا ما اعتبرنا النصوص الدينية نصوصا بشرية بحكم انتمائها إلى ثقافة ولغة في مرحلة تاريخية معينة، يصبح من لزوم الأمر أن”تمثّل اللغة ومحيطها الثقافي مرجع التأويل والتفسير، وتدخل في مرجعية التفسير والتأويل كل علوم القرآن، وهي علوم نقلية تتضمن كثيراً من الحقائق المرتبطة بالنصوص، بعد إخضاعها لأدوات الفحص والتوثيق النقدية” (ص198)
واستتباعا لهذه المسألة، يمكن النظر إلى خطورة الأفكار الراسخة التي تعتبر أن النص الديني التأسيسي أي القرآن هو نص أزلي وأبدي، وهو صفة من صفات الذات الإلهية. ولكون الذات الإلهية تتمتع بالأزلية يصبح كل ما يصدر عنها يحمل ذات الصفات، وبذلك يصبح القول بأن القرآن الصادر عنها مخلوق إنما يقع في باب الكفر بهذه الذات. يشير أبو زيد في كتابه “النص، السلطة، الحقيقة” إلى هذه القضية “الخطيرة” بالقول :”والحقيقة أن مسألة طبيعة القرآن – هل هو قديم أم محدث- مسألة خلافية قديمة بين المفكرين المسلمين. وقد ذهب المعتزلة مثلا إلى أن القرآن محدث مخلوق لأنه ليس صفة من صفات الذات الإلهية القديمة. القرآن كلام الله والكلام فعل وليس صفة، فهو من هذه الزاوية ينتمي إلى مجال “صفات الأفعال” الإلهية ولا ينتمي إلى مجال “صفات الذات”، والفارق بين المجالين عند المعتزلة أن مجال صفات الأفعال مجال يمثل المنطقة المشتركة بين الله والعالم، في حين أن مجال “صفات الذات” يمثل منطقة التفرد والخصوصية للوجود الإلهي في ذاته، أي بصرف النظر عن العالم، أي قبل وجود العالم وقبل خلقه من العدم” (ص68).
يستكمل أبو زيد أطروحته التي يشرح فيها ما قال به المعتزلة في شأن خلق القرآن بالقول :”إن سنة العدل الإلهي لا تفهم إلاّ في سياق وجود مجال لتحقيق هذه الصفة، وليس من مجال إلاّ العالم. وصفة “الرازق” تتعلق بالمرزوق، أي وجود العالم.. وإلى هذا المجال “مجال صفات الأفعال” تنتمي صفة “الكلام” التي تستلزم وجود “المخاطب” الذي يتوجه إليه المتكلم بالكلام، ولو وصفنا الله بأنه متكلم منذ الأزل – أي أن كلامه قديم- لكان معنى ذلك أنه كان يتكلم دون وجود مخاطب-لأن العالم كان ما يزال في العدم- وهذا ينافي الحكمة الإلهية”(ص68).
في تأويلات الخطاب الديني للنصوص الدينية يتم أحيانا كثيرة إغفال كل مستويات التفسير لصالح نص يفارق النصوص الإنسانية من كل وجه. ” إن التصورات الأسطورية المرتبطة بوجود أزلي قديم للنص القرآني في اللوح المحفوظ باللغة العربية ما تزال تصورات حية في ثقافتنا، وذلك لأن الخطاب الديني يعيد إنتاجها بشكل متكرر عبر قنواته التعبيرية، سواء في ذلك المسجد أو الصحافة أو البث الإذاعي والتلفزيوني، أو الندوات والمؤتمرات … وهذا التصور الأسطوري الذي يتجاهل في جوهره جدلية الإلهي والإنساني، المقدس والدنيوي، في بنية النص، يفتح الباب واسعاً أمام إمكانية اختراق النص تأويليا بالوثب فوق بعض مستويات السياق أو فوقها جميعا” (ص114) كما يقول في الكتاب نفسه.
ويعود أبو زيد إلى تقديم التفسير المنطقي الذي يراه لاستخدام المنهج اللغوي في قراءة النص الديني بالقول في كتابه المشار إليه :”وإذا كنا في تعاملنا مع النص الديني ننطلق من حقيقة كونه نصا لغويا، فليس معنى ذلك إغفال الطبيعة النوعية لخصائصه النصية. وليس مقصودنا هنا بخصائصه النصية الوقوف عند مستوى المرسل/قائل النص، فالنص القرآني يستمد خصائصه النصية المميزة له من حقائق بشرية دنيوية، اجتماعية ثقافية لغوية في المحل الأول. إن الكلام الإلهي المقدس لا يعنينا إلاّ منذ اللحظة التي “تموضع فيها بشريا”، وهي في تقديرنا تلك اللحظة التي نطق به محمد فيها باللغة العربية” (ص97).
القراءة العلمية – التاريخية للتراث
أولى أبو زيد قضية التراث العربي والإسلامي اهتماما إتخذ بعده من خلال النظرة التقليدية والسلفية المفروضة في قراءة التراث. ينظر الأصوليون والسلفيون إلى هذا التراث بوصفه نصوصا تقارب التقديس بما يجعلها مرجعا لقراءة الحاضر ومعطياته، ومنع التعرض إلى قراءتها نقديا في كونها نصوصا أنتجت في مرحلة معينة من التاريخ العربي الإسلامي ولم تعد تتلاءم مقاييسها ووقائعها مع الزمن الراهن. يتساءل أبو زيد عن السبب الذي يقرن التراث بالدين عند التطرق إليه، ولماذا يقدّم لنا هذا التراث مجلببا بالمهابة من الاقتراب إليه والتعرض إلى نصوصه رغم انتسابه إلى الماضي العريق؟ يقول في كتاب “النص، السلطة، الحقيقة” :”لماذا يلح علينا هاجس “التراث” هذا الإلحاح المؤرق، والذي يكاد يجعلنا أمة فريدة في تعلقها بحبال الماضي كلما حز بها أمر من الأمور أو مرت بأزمة من الأزمات وما أكثرها؟ فإذا كان التقدم يشير إلى المستقبل ويدل على الحركة، فإن التراث يشير إلى الماضي ويدل على السكون والخمود، وكأنّ العربي قد كتب عليه دون البشر كافة أن تسير قدماه إلى الأمام بينما يلتفت رأسه إلى الخلف، فلا هو يحقق التقدم ولا يقنع بالحياة التي ورثها عن الأسلاف. ويظل المشكل ماثلا :كيف نحقق التقدم دون أن نتخلى عن التراث”(ص13).
هكذا تحول التراث على امتداد التاريخ العربي والإسلامي إلى صنو الإسلام وجرى اختزالهما في مفاهيم موحدة، أي تحول التراث عمليا إلى هوية للمسلمين سيؤدي التخلي عنه إلى وقوعهم في العدمية والضياع. أدى هذا الوضع إلى شبه استحالة للتدقيق بهذا التراث وغربلته لتعيين ما تقادمه الزمن وبالتالي وضعه خارج الاستخدام، وما بقي حيا من هذا التراث الذي يمكن الإفادة منه في عصرنا الراهن، مما يعني لدى أبو زيد “إنجاز وعي علمي بالتراث يضعه في سياقه التاريخي، ويدرك إنجازاته التي أضيفت لرصيد الحضارة الإنسانية، مفرقا بينها وبين تلك الإنجازات المرهونة بسياقها الزماني والمكاني” (ص14). إنها دعوة لحرية في البحث تغوص داخل هذا التراث مسلطة منهج النقد التاريخي الذي يسمح وحده بفرز ما يحويه التراث من عناصر قابلة للنمو والتطور “وما فيه من عناصر جفت وصارت من شواهد التاريخ”.
التفكير تحت مقصلة التكفير
تثير المعضلة التي وجد أبو زيد نفسه داخلها والتي أوصلت أخصامه إلى تكفيره، مسألة تطور المجتمعات العربية والإسلامية خصوصا في علاقتها بالفكر المخالف ومن ضمنه الاجتهاد في قراءة النص الديني. سبق لمصر أن شهدت نزاعا حول ما أثاره علي عبد الرازق في كتابه “الإسلام وأصول الحكم”، وبعده طه حسين في كتابه “في الشعر الجاهلي”، ثم بعدهما محمد أحمد خلف الله قي كتابه “الفن القصصي في القرآن الكريم”. دار سجال يومها أي قبل نصف قرن من زمن أبو زيد، واستنفرت المؤسسة الدينية الرسمية ورجال الدين منوعات متعددة من التحريض ضد الرجال الثلاثة، لكن هذه الحملة لم تصل إلى حد إهراق دم المفكرين أو التحريض على قتلهم. وقبل هؤلاء تعرض بعض رواد النهضة من أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي إلى حملات مشابهة من دون أن يصل الأمر بقرار يودي إلى إعدامهم جسديا. بل الأدهى من ذلك أن العصور الإسلامية الأولى كانت تتيح حرية في الرأي والاجتهاد نفتقده اليوم، ومنه على سبيل المثال جدال المعتزلة وعلومهم خصوصا ما يتعلق منها بخلق القرآن، وهو الأمر الذي لا يجرؤ المجتهدون اليوم في طرحه بنفس القدر من الحرية التي أتيحت آنذاك للمعتزلة ، وبعدها للكثير من فلاسفة العرب ومنهم الكندي والرازي وابن باجه وابن رشد وغيرهم..
لا ينفصل هذا الارتداد الإسلامي والعربي عن مجمل انهيار مشاريع التحديث التي انخرطت بها هذه المجتمعات وأوصل مأزقها وفشلها إلى انحسار قواها لصالح قوى أكثر تخلفا. في هذا السياق يقرأ صعود الإسلام السياسي الذي يعود إليه هذا الحجر على الفكر وتسليط منظومة متحجرة من المفاهيم على العقول تمنع بموجبها النقاش خارج منظومتها. أتى صعود الإسلام السياسي تعبيرا صارخا عن أزمة المجتمعات العربية في علاقتها مع الحداثة والتقدم، وإذا كان هذا الإسلام قدم نفسه جوابا عن الأزمة وحلاّّ لمشكلات هذه المجتمعات، فإن الأمر في حقيقته لا يقع في هذا المجال بتاتا، بل إن هذا الإسلام السياسي شاهد على وصول الأزمة إلى أعلى ذراها، وهو بهذا المعنى يعتبر من تجلياتها وليس جوابا عنها. كان انهيار قوى التحديث وتراجعها بعد أن منيت بهزائم في كل الميادين العنصر الحاسم في ملء الإسلام السياسي هذا الفراغ واحتلال الساحتين السياسية والفكرية. لعبت الأنظمة الحاكمة دورا في هذا “التصعيد” لحاجتها إلى مشروعية مفتقدة ويصعب تأمينها شعبيا، فاستبدلت بالمشروعية الدينية عبر المؤسسة الدينية ومعها الفقهاء ورجال الدين.
من هنا تجب رؤية أزمة نصر حامد أبو زيد ومعه كل المتنورين في العالمين العربي والإسلامي، على أنها ليست معضلة مفكر أراد الاجتهاد لما فيه مصلحة النص الديني، بمقدار ما هي أزمة مجتمعية وحضارية تعبر عن تعثر هذه المجتمعات في تجاوز تخلفها والدخول في العصر والاحتكاك بالعلم وتحكيم العقل في حل معضلاته. لذا هي أزمة متواصلة، وإذا كانت اليوم تعاني معضلة الاستعصاء عن التجاوز، فإن حلولها ليست أقل من استعادة العالم العربي مشروعا نهضويا على جميع المستويات، يبدو شرطه الضروري في ولادة وتكوّن القوى الحاملة له. وحده هذا المشروع سينصف أبو زيد وأمثاله ويعيد لهم الاعتبار ويضعهم في موقعهم المتقدم الذي يستحقون الإقامة فيه.
المراجع:
نصر حامد أبو زيد:
نقد الخطاب الديني. دار سينا للنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1992
الاتجاه العقلي في التفسير، دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة. دار التنوير، بيروت، الطبعة الثالثة، 1993
مفهوم النص، دراسة في علوم القرآن. المركز الثقافي العربي للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الثانية،1994 .
الخطاب والتأويل. المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب. الطبعة الأولى، 2000.
النص، السلطة، الحقيقة. الفكر الديني بين إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة. المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء،
موقع الآوان