الرؤية السياسية والبرنامجية الشاملة للقاء اليساري التشاوري
اللقاء اليساري التشاوري
(مشروع للنقاش)
– I –
حول الأوضاع الدولية الراهنة
يشهد النسق الراهن للرأسمالية المعولمة انهياراً لم تكتمل فصوله منذ صيف عام 2008، وإن كانت ملامحه قد بدأت في البروز قبل فترة وجيزة، ربما تعود إلى أوائل الألفية الثالثة. وإذ تتركز معالم هذا الانهيار أساساً في أسواق المال والبورصات العالمية – عبر إفلاس أو تداعي أو اندماج عدد من كبريات المصارف والمؤسسات المالية وبنوك الاستثمار وشركات التأمين، تحت وطأة تفجُّر أزمة الرهن العقاري التي ضربت الاقتصاد الأميركي قبل نحو عام – إلا أن الوقائع المصاحبة للأزمة أو المتولدة عنها في غير بلد من العالم، تؤكد أن هذه الأزمة لا تختصر فقط بأزمة الفقدان المؤقت للسيولة أو بتعاظم المضاربات أو بهشاشة أنظمة الرقابة على الأسواق أو بالاختلال العابر في ثقة المودعين والمستثمرين ….. بل إن ما يجري اليوم من «تصحيحات» كونية ذات طابع عنيف ومكلف على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، واستطراداً على المستوى السياسي، هو تعبير كامن ومكثّف عن مرحلةٍ انتقاليةٍ بامتياز يعيشها العالم. إنها مرحلة الانتقال المتدرج لهذا العالم من حقبة من التطور الرأسمالي الذي ساده فلتان الأسواق والتطرف النيوليبرالي، إلى حقبة أخرى لم تتوضح فيها إلى الآن معالم التوازن الجديد الذي يفترض أن يعاد إنتاجه بين الدولة والسوق، ولم تتوضح فيها أيضاً المضامين الاجتماعية التي سوف يرتديها هذا التوازن. وغني عن البيان أن محدّدات هذا الانتقال ليست وليدة التطورات والأحداث الراهنة المتسارعة، بل هي تضرب جذورها العميقة في التناقضات البنيوية المعتملة في الطور الراهن من نمو النظام الرأسمالي العالمي، بحسب ما سيجري تناوله أدناه.
ويأتي هذا الانهيار، بغض النظر عن أسبابه الأساسية المرتبطة بالنظام الرأسمالي بحد ذاته، في طوره المعولم، في سياق تطورات سياسية بالغة الأهمية أعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي وظهور عالم القطب الأوحد، وانفلات نزعة الخوض في الحروب الإمبراطورية لدى هذا الأخير، ومشاريع تعميم الهيمنة على العالم بأسره، وبوجه أخص على المناطق التي تتجمع فيها النسبة العليا من احتياطي النفط والغاز، ولا سيما في المنطقة العربية،وحتى دول آسيا الوسطى وبحر قزوين. بيد أنه لا بد من التنويه بأن هذه النزعة قد منيت بهزائم حقيقية، كما يظهر بخاصة من نتائج الحربين الأكثر أهمية اللتين خاضهما البنتاغون الأميركي، في هذا العقد، في كل من أفغانستان والعراق، مع عواقب ذلك الوخيمة على الهيبة العسكرية للدولة الأعظم، وأهدافها السياسية. علماً بأن هذا الواقع يتلازم مع تراجعات ملحوظة للطرف عينه في أنحاء متفرقة من العالم: بدءاً بأميركا اللاتينية حيث يتقدم اليسار ويستلم الحكم في معظم دولها، ويصل في تحدي هيمنة واشنطن إلى حدود طرد السفراء، مروراً بباكستان – التي سقط فيها حصان سباقها الأساسي، برويز مشرف، ويتنامى رفض جيش هذه الأخيرة للعمليات الأميركية على الحدود بينها وبين أفغانستان إلى حد الاشتباك العسكري -، وصولاً إلى لبنان وفلسطين والسودان وحتى الصومال. ناهيكم عن تزايد التحدي الروسي للعجرفة الأميركية الذي عبر عن نفسه بالهجوم على جورجيا ودعم انفصال كل من أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا عن هذه الأخيرة، كرد على قرار نشر الصواريخ الأميركية في بولونيا وتشيكيا، والتمهيد لدخول أوكرانيا وجورجيا الحلف الأطلسي، وعلى الدعم الغربي، قبل ذلك، لانفصال كوسوفو عما تبقى من يوغسلافيا القديمة. وهذا غيض من فيض يكشف تراجع الهجمة الأميركية، والمسار الواضح نحو وضع حد للقطبية الواحدة في اتجاه تعددية قطبية تطالب بها بوضوح دول كبرى عديدة في مقدمتها روسيا والصين، وليست أوروبا الموحدة ضدها، في الواقع، وإن كانت رغبتها في بلوغها لا يزال يشوبها الكثير من التردد و….الحياء! نقول ذلك، من دون أن نعتبر أن الوحش الإمبريالي المترنح قد فقد كامل أنيابه. على العكس، ففي حالة التراجع هذه، يمكن أن يندفع في مغامرات يائسة مدمِّرة جديدة، ولا سيما، كما يعتقد كثيرون، في الأشهر الأخيرة من ولاية بوش التي ستنتهي في كانون الثاني/ يناير القادم. وهو ما تتحسب له، وتعد نفسها لمواجهته، الدولة الإيرانية في الفترة الراهنة.
***
– لقد فتح انتهاء الحرب الباردة المجال أمام حقبة جديدة على مستوى العلاقات الدولية: انتقال الإمبريالية عموما من استراتيجية الردع والاحتواء إلى استراتيجية الهجوم والتوسع والهيمنة (على الأصعدة كافة، العسكرية والسياسية والاقتصادية وخصوصا الثقافية والإعلامية) ، إلى الحد الذي شجّع على ترويج فكرة انتهاء التاريخ، أي انتهاء التناقض الأساسي مستقبلا بين الرأسمالية وأيّ من أنماط الإنتاج البديلة. فقد بات العالم أكثر من ذي قبل يدار من “المركز” الرأسمالي، عبر ما يقرره هذا الأخير من آليات (تحرير الأسواق، توسيع مبادلات السلع والخدمات، تعميم ثورة المعلومات، تنميط وتوحيد المقاييس والمواصفات في غير مجال….) وما يقرره كذلك من نظم تشريعات واتفاقات دولية جديدة في شتى الحقول (التجارة، الاستثمار، التحويلات المالية والمصرفية، الملكية الفكرية، انتقال التكنولوجيا،….) متوسّلا تطبيقها بالترغيب والترهيب بواسطة مؤسسات دولية تدور في فلكه (صندوق النقد الدولي، البنك الدولي، منظمة التجارة الدولية، وكالة الطاقة الدولية، النظام المصرفي والمالي العالمي، شبكة أسواق البورصات والمال العالمية، المؤسسات القطاعية المتخصصة…). وبذلك يكون العالم قد اتجه، تحت ستار تحقيق المزيد من الليبيرالية، نحو أشكال من “دكتاتورية السوق” التي يتولى ادارتها والتحكم بمسارها كبار “اللاعبين”.
– بيد أن “المركز الرأسمالي” يشهد هو الآخر تحولات. فاخلاء الساحة الدولية من قبل قوى “الاشتراكية المحققة” خلق واقعا جديدا أمام آليات تقاسم العالم من جانب التشكيلات السياسية-الاقتصادية العالمية المختلفة. فبعد زوال القطبية الثنائية بين “المعسكرين” اتجه العالم، وسط اشتداد التنافس المتعدد الأشكال، نحو مسار محكوم بمنطقين: منطق يدعم استمرار الغلبة الحاسمة للقطبية الأحادية التي تختزلها الولايات المتحدة راهنا، ومنطق آخر يدعم تنويع هذه الغلبة لصالح قطبية متعددة الأطراف تتشارك فيها الكتل السياسية-الاقتصادية الدولية الأساسية، ويضمن على الأرجح دورا ما لتلك الكتل التي بدأت تفد حديثا من خارج “المعسكر الغربي” التقليدي (الصين والهند مثالا) والتي بات يحسب لها حساب. ومع أن هذين الاتجاهين قد لا يختلفان كثيرا من حيث جوهر الفكر الاقتصادي الذي يحكمهما – والذي يتغذى من المصالح العضوية المشتركة للشركات العملاقة العابرة للقارات – الا أن التشكيلات العالمية المعنية بهما قد لا تعدم وسيلة، بما في ذلك الاقتصادية منها، لمحاولة التاثير أوالتحكم في مجرى التقدم أوعدم التقدم على طريق الانتقال من نظام دولي الى نظام دولي آخر. وفي هذا الاطار من الطبيعي أن يعمد كل من تلك التشكيلات الى محاولة الاستفادة قدر المستطاع مما انطوى عليه تعاظم ظاهرة العولمة وتشعّبها على غير صعيد، من تفاوت في عناصر القوة والضعف وفي حجم ونوع المخاطر والتحديات التي تخصّه، وصولا الى تحسين شروطه في عملية اعادة تقاسم العالم. وهذا ما سوف يخلّف مفاعيل سياسية شديدة الأثر على المستوى الكوني.
– وفي إطار تفاعلات ظاهرة العولمة وما ينجم عنها من ازدياد كبير في حدّة المنافسة على المستوى الدولي، من الواضح أن يتجه العامل الاقتصادي نحو الاضطلاع بدور أكبر فأكبر في إعادة صياغة منظومة العلاقات الدولية عموما وتوازنات القوى بين التشكيلات المختلفة بصورة خاصة، حتى لو استمر العامل السياسي طاغيا على السطح. بيد أن دلائل عدّة تشير إلى أن إحدى أهم السمات المميزة لواقع العلاقات الاقتصادية الدولية الراهن، تتمثّل في تراجع الوزن النسبي لاقتصاد الولايات المتحدة الأميركية في شبكة المصالح الدولية، أو على الأقل اتجاه هذا الوزن بصورة متزايدة نحو عدم التناسب مع الوزن السياسي-العسكري لهذه الدولة. وهذا ما تؤكده المقارنات الدولية لمعدلات التراكم الرأسمالي وتطور حجم وبنية المبادلات الخارجية وكذلك تطور معدلات نمو الإنتاجية وغيرها من المؤشرات. وهذا على الأرجح ما دفع ويدفع الولايات المتحدة إلى السعي المحموم للتعويض من تراجعها الاقتصادي النسبي عبر هجوم سياسي شامل ذي طابع وقائي واستباقي، مستندة في ذلك إلى ما ينطوي عليه هذا الهجوم من تصعيد في عسكرة العلاقات الدولية. وليس خافيا أن هذه العسكرة تخدم المصالح الاستراتيجية والبعيدة المدى للمجمع الصناعي-العسكري-النفطي الأميركي وتبرّر مسوّغات الاستمرار في تركيز الاستثمارات الرأسمالية في النشاطات التي يغطيها هذا المجمع.
– إن المجمّع الصناعي- العسكري- النفطي الذي يلعب دوراً حاسماً في اقتصاد الولايات المتحدة، قد وجد – بعد انتهاء الحرب الباردة – أن وقف تراجع الوزن النسبي للاقتصاد الأميركي، يستوجب استيلاد أعداء جدد على المستوى الكوني وبالتالي استحداث تناقضات جديدة من النوع الذي يبرر استمرار استقطاب العالم سياسيا لصالح الولايات المتحدة. هكذا تمّ الترويج لحرب الحضارات تارة وللحرب الشاملة على الإرهاب تارة أخرى، من دون التحديد الدقيق لحيثيات هذا النوع من الحروب التي تنطوي على مصالح سياسية وطبقية بعيدة المدى. وقد ظلّ الهدف واحدا في جميع الأحوال: إعادة إحكام النفوذ السياسي والعسكري على عالم يتغير – وتميل بعض مكوناته وكتله نحو الانعتاق النسبي مستفيدة من فرص كامنة ومتناقضة أتاحتها ظاهرة العولمة – والحرص بالتالي على استمرار الإمساك بقرارات العالم الأساسية بما يتيح الفرصة أمام استعادة زمام المبادرة على الصعيد الاقتصادي، عبر تعزيز وإعادة تجديد مقوّمات هيمنة المجمّع الصناعي-العسكري- النفطي داخل الولايات المتحدة وخارجها.
– إن النسق الجديد لليبيرالية الرأسمالية في زمن العولمة قد انطوى على تداعيات سياسية واجتماعية عميقة وشاملة طاولت بلدان “المركز” الرأسمالي نفسها كما طاولت معظم بلدان العالم الأخرى. ففي الفئة الأولى من البلدان، تعاظم الدور السياسي للتشكيلات اليمينية بأطيافها المختلفة وبخاصة اليمين المحافظ، وتعزّز الهجوم على مكاسب الطبقة الوسطى والفئات الفقيرة وسط سعي محموم لتحجيم دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي وإطلاق العنان أمام حرية رأس المال. وقد شهدت معظم تلك البلدان تراجع معدلات التراكم والاستثمار المنتج وانتفاخ وزن الاقتصاد المالي الريعي والمضارب على حساب الاقتصاد الحقيقي، الأمر الذي انعكس تراجعا في الأجر الوسطي وارتفاعا في الأرباح الرأسمالية وفي معدلات البطالة والتضخم وبالتالي في معدلات الاستغلال….مما يشير بما لا لبس فيه إلى أن “التسوية” الطبقية التاريخية التي صيغت في الغرب غداة الحرب العالمية الثانية عبر انشاء وتطوير تجربة “الدولة-الراعية” أصبحت متجهة نحو التلاشي والسقوط. أما في البلدان الأخرى من العالم فان الليبيرالية المعولمة قد أثمرت مجموعة من التناقضات العصية على المعالجة: تعايش جزر من النمو مع بحار من الفقر والتهميش والاستبعاد، تعزيز آليات التبعية بأشكالها المختلفة، تدمير بنى الإنتاج المحلي وفرص العمل المنتج، تقليص الحيّز الفعلي لممارسة السيادة الفعلية على القرارات والموارد الوطنية لصالح “الراعي” الدولي الذي يفتي بالوصفات الجاهزة عبر المؤسسات الدولية الدائرة في فلكه… وهذا ما جعل نسق الليبيرالية الجديد يذكّر بتلك الأشكال من الليبيرالية “التايلورية” التي ازدهرت قبل نحو مئتي عام، مما يسهّل وصف الرأسمالية المعاصرة بالرأسمالية “النيو-تايلورية”.
– إن موضوع الطاقة وبخاصة النفط يشكل بالنسبة للمجمّع الصناعي-العسكري الأميركي حقلا استراتيجيا بامتياز لمحاولة كسب معركة تجديد السيطرة الاقتصادية والسياسية على العالم في زمن العولمة. ففي وقت تؤكد فيه كبريات مراكز الأبحاث الدولية أن النفط سوف يبقى لعقود عدّة ومن دون منازع مصدر الطاقة الأول في العالم ، وأن الجزء الأهم من احتياجات النفط العالمية الجديدة (المقدرة بنحو 50 مليون برميل إضافي يوميا خلال العقدين المقبلين) سوف يتأمن من البلدان العربية المنتجة تحديدا ، فانه من الطبيعي في مثل هذه الظروف أن لا يتخلى هذا المجمّع عن خططه وبرامجه الدؤوبة لمواصلة السيطرة بل الوصاية الشاملة على هذا المورد الحيوي حيثما وجد سواء في دول العالم الأول أو العالمين الثاني والثالث. والهدف الأساسي بالنسبة للإدارة الأميركية لا ينحصر فقط في ضرورة تأمين سلامة إمدادات النفط العالمية من زاوية مصلحة النظام الرأسمالي العالمي ككل. بل هو يتعداها الى محاولة استخدام النفط العربي من جانب هذه الإدارة بالذات – وعبر الشركات الأميركية العملاقة التي تعمل في القطاع النفطي منذ البدايات الأولى لإنتاج النفط – كرافعة أساسية للتأثير في آليات التنافس بين الكتل الاقتصادية الدولية ولتوظيف هذا التأثير في خدمة عملية إعادة إنتاج التفوق الاقتصادي الأميركي في إطار الاقتصاد العالمي. وبالنسبة للولايات المتحدة تهون إزاء مثل هذا الهدف الاستراتيجي البالغ الأهمية كل أنواع المجازفات والمراهنات العدوانية التي قد تقدم عليها راهناً ومستقبلاً.
– إن هذه الأهداف ليست جديدة بالنسبة للولايات المتحدة، ولكن ما يكسبها مزيدا من الأهمية في الظرف الراهن يتمثّل في حاجتها الملحة والاستثنائية إلى مثل هذه الرافعة كي تساعدها في تغيير اتجاه تطور موازين القوى الاقتصادية الدولية في مصلحتها. ومما شجّع ويشجع الولايات المتحدة على المضي في هذا السبيل اصطفاف العديد من البلدان المنتجة، وبخاصة المملكة العربية السعودية، إلى جانبها أو بالأحرى خلفها. ومن المؤكد أن هذا الاصطفاف التبعي للسعودية وراء “اللاعب” الأميركي يعود إلى عهود مضت وبالتحديد إلى أواسط الأربعينيات من القرن المنصرم، التي سُجِّل فيها الخروج المنتصر للولايات المتحدة من الحرب العالمية الثانية بالتزامن مع بدء الاكتشافات النفطية الواعدة في المملكة. وقد شكّل التحالف التبعي العضوي بين الأسرة السعودية الحاكمة والإدارات الأميركية المتعاقبة إحدى الثوابت الأكثر تأثيرا في صياغة معالم الخارطة الجيوسياسية للمنطقة، خصوصا بعد هزيمة الرئيس جمال عبد الناصر عام 1967 . وقد احتلت السعودية منذ ذلك التاريخ سدّة رئاسة النظام الرسمي العربي واستخدمت كل وسائل الترغيب والترهيب السياسي والاقتصادي والديني والإعلامي لإسباغ نوع من الديمومة على وظيفتها هذه (استمالة النخب السياسية في بلدان المنطقة تارة وتمويل حركات المعارضة في هذه الدول تارة أخرى، إنشاء الصناديق الإنمائية وإصدار الهبات والأمانات والقروض والتسهيلات وإطلاق الاستثمارات البينية وتدفقات العمالة المهاجرة والتدفقات السياحية…). وراهنت السعودية طوال هذه الفترة على الدعم المكثّف والمتعدد الأشكال الذي حصلت عليه، في مقابل أكلاف هائلة، من جانب الولايات المتحدة في وقت كانت هذه الأخيرة لا تعدم فرصة الا وتؤكد فيها بشكل علني وسافرعلى أولوية تحالفها المطلق مع اسرائيل كوكيل اقليمي رئيسي وكنقطة ارتكاز أساسية للسياسة الأميركية في المنطقة. وعبر امساكها بمفاصل النظام الرسمي العربي وتوظيفها لهذا الأخير في مصلحة المجمّع الصناعي- العسكري الأميركي، اضطلعت المملكة العربية السعودية بدور مؤثّر في مجمل التطورات السياسية البارزة التي شهدها التاريخ العربي المعاصر. فما من حدث ذي أهمية في أي من ساحات المشرق العربي الا وكانت لهذا اللاعب السعودي بصمات واضحة فيه.
– إن الدور السعودي – المرتبط بتحالف عضوي مع الولايات المتحدة من جهة والممسك بالنظام العربي الرسمي من جهة أخرى – قد مال نحو التعاظم عربيا في السنوات الأخيرة بفعل عاملين أساسيين: أولهما ازدياد الاستقطاب السعودي السياسي والاقتصادي لبلدان الخليج عموما عبر آليات تعاون وتنسيق متنوعة؛ وثانيهما تعاقب صدمات أسعار النفط ولا سيما الصدمة الثالثة التي ما برحت مفاعيلها مستمرّة منذ عام 2002، الأمر الذي ضاعف القدرات المالية للمملكة على نحو غير مسبوق . ومن الواضح أن ما يجري منذ سنوات على هذا الصعيد قد كرّس انقسام العالم العربي – اقتصاديا – إلى ثلاث مجموعات متباينة: المجموعة الأولى هي المجموعة الغنية بالموارد والمستوردة لليد العاملة وتضم بلدان الخليج ، والمجموعة الثانية هي التي تتميّز كذلك بوفرة الموارد ولكنها ذات كثافة سكانية عالية (العراق، الجزائر، سوريا، اليمن…)، والمجموعة الثالثة هي التي تفتقد إلى الموارد مع تميزها هي أيضا بثقل ديموغرافي مرتفع نسبياً (مصر، المغرب، الأردن، تونس، لبنان..). ومن خلال تحليل مقارن لتطور أوضاع هذه المجموعات الثلاث منذ أوائل السبعينيات يتبيّن أن المجموعة الأولى قد ضاعفت حصتها من إجمالي الناتج العربي القائم إلى نحو 55% عام 2007 مع العلم أن وزنها الديموغرافي النسبي ظل في حدود 8% من إجمالي سكان المنطقة. في المقابل تراجع نصيب المجموعة الثالثة من الناتج المحلي العربي بصورة حادة خلال هذه الفترة بالتزامن مع ميل حصته من إجمالي المقيمين نحو الارتفاع على نطاق واسع. ومع توقع استمرار زيادة إنتاج بلدان الخليج من النفط، ولا سيما المملكة العربية السعودية، واستمرار الارتفاع المطرد في فوائضها النفطية، من الطبيعي أن يعمل هذا البلد على تعزيز دوره كقاطرة سياسية واقتصادية للعالم العربي، مدعوما في ذلك من قبل الولايات المتحدة التي تطمح لاستخدام تلك القاطرة كأداة لإحكام السيطرة المتعددة الأشكال على المجموعتين الثانية وخصوصا الثالثة عبر علاقة التحالف التبعي الذي تفرضه على المجموعة الأولى.
– إن الموارد الضخمة التي تزخر بها المنطقة العربية (الموقع الجغرافي، الثروات النفطية والغازية، الكثافة السكانية، الموارد البشرية الفتية، المساحات الزراعية….) كان يفترض أن تؤمن لشعوب هذه المنطقة قدرا أكبر من التنمية الاقتصادية والرفاه الاجتماعي، وهذا ما لم يحصل. ويشهد على ذلك واقع الأوضاع المعيشية البائسة أو الصعبة التي تعاني منها معظم تلك الشعوب. وتثبت المقارنات الدولية أن العديد من البلدان التي كان مستواها الاقتصادي والاجتماعي في الخمسينيات يقل بكثير عن مستوى البلدان العربية، باتت في الوقت الحاضر تتجاوز هذه الأخيرة بشكل حاسم، بالرغم من تسجيل المنطقة العربية معدلات نمو وسطية مرتفعة نسبيا في السنوات الخمس المنصرمة. ويطرح هذا الواقع إشكالية أساسية تتعلق بحجم ونوع المخاطر التي ارتبطت تاريخيا بوجود الثروة النفطية في هذا الجزء من العالم، وتتعلق كذلك بنسق تعاطي وإدارة الأنظمة العربية لهذه المخاطر على مدى العقود المنصرمة. فقد تمّ تدمير أو تبديد جزء أساسي من هذه الثروة عبر استجلاب وتكرار الغزوات والحروب الخارجية أو التواطؤ معها (الحروب العربية-الإسرائيلية، حرب الخليج الأولى ومن ثمّ الثانية، التدخلات الأميركية والأطلسية الموضعية، …)، وعبر تعميم وتمويل العديد من الحروب والنزاعات الأهلية في غير بلد من بلدان المنطقة. وينطبق هذا البعد التدميري والتبديدي كذلك على واقع انتشار أنساق نمو وتقسيم عمل يغلب عليها الطابع الريعي في معظم تلك البلدان، ما ساهم في إنتاج مجتمعات هجينة تحتكر فيها القلة من أمراء السلطة والمال والمنتفعين من العائلات الحاكمة الجزء الأعظم من الموارد والثروات الوطنية المتاحة فيما تنحسر رقعة الطبقات الوسطى وتتوسع جيوش الفقراء والمهمَّشين والمتعطلين عن العمل والمستبعدين.
– II –
الوضع العربي في ظل الهجوم الكولونيالي ومهام اليسار
يصعب الحديث عن المنطقة العربية في هذا العصر، من دون النظر الى واقعها الراهن في ضوء مشاريع السيطرة الكولونيالية عليها. فقد شهدت هذه المنطقة منذ الحرب العالمية الأولى حدثين أساسيين لعبا دوراً حاسماً في تشكيل معالم هذا الواقع: اتفاقية سايكس- بيكو التي كرّست البنية التقسيمية للوطن العربي من جهة، ووعد بلفور الذي أدى إلى قيام دولة إسرائيل من جهة أخرى. وانطوى هذان الحدثان على نتائج كارثية سواء بالنسبة الى هدف استعادة وحدة هذا الجزء من العالم، أم بالنسبة الى هدف استعادة السيطرة على ثرواته وتوظيفها في التنمية والتحوّل الديمقراطي الثوري على طريق الانتقال إلى الاشتراكية.
وإذا كان التدخل الكولونيالي الكثيف لأجل تغيير خارطة المنطقة والتحكم بمصيرها، قد حدث على أيدي الدولتين الاستعماريتين الأوروبيتين الأساسيتين، إنكلترا وفرنسا، فانه سرعان ما بدأ يتحول عملياً منذ أواسط القرن الماضي، لصالح الولايات المتحدة الأميركية. وسوف تلعب هذه الأخيرة دوراً كبيرا في قيام دولة إسرائيل عام 1948، كثكنة أمامية في خدمة مشاريعها في المنطقة، كما سوف تبذل بعد ذلك مساعي محمومة للسيطرة على هذه المنطقة وما حولها. وسوف تنعكس هذه المساعي في مجمل التطورات والصراعات التي شهدها الوطن العربي آنذاك – في مرحلة صعود النزعة القومية العربية وحركات التحرر الوطني والاجتماعي – مرتدية إما شكلاً مباشراً أو متوسّلة الدولة الصهيونية الغاصبة، وأحياناً حلفاءها من الأنظمة العربية – ولا سيما المملكة العربية السعودية – من أجل فرملة تلك النزعة التحررية وإفشالها.
وهذا ما تجلى بوضوح في الفترة التي سبقت حرب الخامس من حزيران 1967، ثم بوجه أخص غداة تلك الحرب التي انتهت بهزيمة تاريخية ليس فقط لنظام رجعي كالنظام الأردني بل أيضاً لنظامين برجوازيين قوميين كانا يناديان بمثل التقدم والاشتراكية. وتعتبر تلك الهزيمة تاريخية لأنها شكّلت بداية انكفاء التطلعات القومية والتقدمية لدى حركة التحرر العربية، ولا سيما ما يتعلق منها بتحرير فلسطين وإنجاز الوحدة العربية والسعي لبناء الاشتراكية؛ ناهيك عن تمكّن إسرائيل من الاستيلاء على كامل الأرض الفلسطينية، وتمكّن الولايات المتحدة الأميركية من توسيع هيمنتها في المنطقة بعد وفاة جمال عبد الناصر عام 1970، وارتقاء الممثل الفعلي للبيروقراطية البرجوازية المصرية الفاسدة،ذات الميول اليمينية الاستسلامية، أنور السادات، إلى سدة الحكم في الدولة العربية الأقوى والأهمّ. بيد أن هذه الهزيمة أدت في الوقت عينه إلى نقيضها، ولو جزئيا، عبر إحداثها تجذرات على صعيد العديد من قوى التحرر العربية، ولا سيما في الساحة الفلسطينية، حيث تلازم صعود المقاومة حتى صيف عام 1970 مع تضامن شعبي معها في العديد من الأقطار العربية الأساسية. ولكن سرعان ما ستظهر حدود هذه الظاهرة بعد نجاح الأنظمة العربية النفطية – التي تعتمد على اقتصاد ريعي تتحكم بمفاتيحه الشركات الإمبريالية، وعلى عمالة أجنبية رخيصة تخضع لشتى أنواع الاستغلال والحرمان من الحقوق – في ” ثلم نصلها الثوري”، متوسّلة العطاءات السخية التي أغدقتها على قياداتها وعلى جهاز بيروقراطي شديد الفساد وهمّه الأساسي الحفاظ على هذه “النعمة”. وسوف يساهم هذا الواقع في انفراط التضامن العربي الواسع والتمهيد لهزائم متلاحقة أحاقت بظاهرة المقاومة بدءا من أيلول 1970 في الأردن وصولا إلى الاجتياح الصهيوني للبنان صيف عام 1982 . وهذا الانهزام العسكري والسياسي سوف يتواصل مذاك، بدءاً من التنازلات المتمثلة في التراجع عن الميثاق الوطني الفلسطيني الأساسي والاعتراف بإسرائيل عام 1988، مروراً باتفاقيات أوسلو، ووصولاً إلى قيام السلطة الحالية اللاهثة خلف الإدارة الأميركية وإسرائيل. وهذا ما جعل الوقوف عملياً في وجه تنازلات هذه السلطة، ينحصر في الحركات السلفية المسيطرة راهنا في غزة وذات النفوذ أيضا حتى في الضفة الغربية بالذات، والمزوّدة ببرنامج اجتماعي متخلف وعاجز عن تحفيز الجماهير الفلسطينية الواسعة، وبالتالي العربية ضد الاحتلال الصهيوني.
لقد شكّل انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991 مقدمة لانهيار متدرج للبقية الباقية من مقومات الصمود الشكلي للعديد من الأنظمة البرجوازية القومية، في مواجهة الهجمة الأميركية التي لعبت حرب تشرين 1973 دوراً هاماً في تسهيل مسارها الزاحف، وقضمها المتسارع للإنجازات التي سبق أن تحققت في غير بلد عربي، ولا سيما في مصر، وصولاً إلى خروج هذه الأخيرة من الصراع العربي – الإسرائيلي عبر اتفاقية كامب ديفيد. وهذا ما شجّع واشنطن على ممارسة هيمنة أحادية على الساحة العالمية، في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية أيضاً، مع تركيز على المنطقة العربية والشرق الأوسط ككل.
اولاً: الهجمة الأميركية الجديدة، الأهداف والوسائل
لم تنتظر الإدارة الأميركية اكتمال سيرورة الانهيار المتسارع للمعسكر الشرقي كي تفصح علانية عن استعدادها لخوض حروب مباشرة بهدف تأكيد هيمنتها الأحادية على منابع الطاقة في المنطقة العربية، كمدخل أساسي للسيطرة على الاقتصاد العالمي. وهو ما سيتبدّى منذ حرب الخليج الثانية عام 1991، التي أطلق خلالها الرئيس الأميركي الأسبق، جورج بوش الأب، حملة عسكرية على العراق اثر غزو صدام حسين للكويت، وحشد لها جيوشاً من عشرات الدول، من ضمنها العديد من الدول العربية. وسيتعزّز هذا النهج مع وصول المحافظين الجدد، بقيادة بوش الابن، إلى موقع القرار في الإدارة الأميركية، لا سيما بعد عملية 11 أيلول 2001، التي نفذتها منظمة القاعدة ووفّرت لواشنطن الحجة لتحقيق أهدافها الإمبراطورية عبر الغزو والاحتلال المباشر.
1 – الأهداف
إذا كان هدف واشنطن الأهمّ هو تعزيز هيمنتها العالمية، فبالنسبة الى المنطقة العربية وجوارها تبرز أهداف محدّدة، بين أهمها استكمال استتباع الأنظمة العربية، وتصفية القضية الفلسطينية والصراع العربي – الإسرائيلي والمقاومات التي لا تزال قائمة هنا وهناك، وبوجه أخص في فلسطين ولبنان والعراق. وتندرج هذه الأهداف في اطار العمل على اقامة شرق أوسط جديد، كشكل أمثل لتحقيق مصالح أميركا الاستراتيجية وكذلك مصالح إسرائيل.
2 – الوسائل والأدوات
وتحقيقا لهذه الاهداف لجأت الادارة الاميركية الى مجموعة من الوسائل، بين اهمها:
أ – الاحتلال المباشر: فبعدما كانت الامبريالية، التي تلت الاستعمار المباشر، هي الشكل الذي اتخذته الهيمنة الكولونيالية على بلدان العالم الثالث، والذي تميّز باستنزاف مواردها الطبيعية والبشرية واستتباع السلطات السياسية والتحالف الطبقي المسيطر فيها، تستعيد الامبريالية اليوم سمات أساسية للاستعمار التقليدي، عبر الاحتلال المباشر كما حصل في العراق في الحرب الاميركية الثانية عليه، التي تمت في شتاء 2003، وقبل ذلك في افغانستان.
ب – استكمال عملية التجزئة التي بدأت مع اتفاقية سايكس – بيكو، بمساع جديدة لتفتيت العديد من دول المنطقة على أسس عرقية وقومية ودينية وطائفية، كما يحدث حالياً في العراق، وكما يتم التخطيط له في لبنان والسودان وبلدان عربية أخرى، وذلك بغرض تسهيل السيطرة عليها، وضرب إمكانات مقاومتها للمشاريع الاميركية والصهيونية.
ج – تحويل الصراع القائم في المنطقة، ولا سيما الصراع العربي– الإسرائيلي، إلى صراع يضع هذه الدول أو معظمها، وبخاصّة ما بات يُعرف بدول الاعتدال ذات الغلبة الطائفية السنية، في مواجهة ما سمّاه الملك الأردني الهلال الشيعي، ومن ضمنه إيران. ولا ينعكس هذا المسعى فقط في محاولات تأجيج الصراع المذهبي، بل ينعكس أيضاً في محاولات تأجيج صراع قومي مقيت كان بدأه صدام حسين حين شن حربه على إيران عام 1980، وتريد كل من الإدارة الأميركية وإسرائيل، بالتعاون مع الأنظمة العربية الضالعة المتهافتة، أن يتجدد بأشكال شتى، تسهيلاً لإسقاط النظام الإيراني، الذي يربك المخططات الأميركية والإسرائيلية. فطهران التي تنفذ برنامجاً طموحاً جداً لتخصيب اليورانيوم وتتطلع إلى موقع إقليمي متقدّم، تدعم العديد من المقاومات الوطنية (الإسلامية) في المنطقة العربية. وهذا ما يطول سلباً المشروع الأميركي للهيمنة على المنطقة، كما يطول تطلعات إسرائيل للإبقاء على جبروتها العسكري، الذي هزته مواجهة حزب الله الظافرة في حرب تموز 2006، إضافة إلى صمود المقاومة في غزة، بقيادة حركات إسلامية حاظية بالدعم الإيراني. كذلك فانه يربك حسابات الأنظمة العربية المستسلمة لواشنطن، والتي باتت موضوعيا في حالة تحالف مع إسرائيل.
بيد أنه في موازاة هذا الدور الإيجابي النسبي الذي يضطلع به النظام الإيراني في مواجهة الإدارة الأميركية وإسرائيل، يبرز في المقابل دور سلبي لهذا النظام الذي سهَّل الاجتياح الأميركي لكل من أفغانستان العراق، ضمن حساب المصالح الخاص به، ودعم ولا يزال قوى وأحزاباً سياسية عراقية متعاونة مع الاحتلال. وتضاف إلى ذلك غلبة الطابع الديني (الرجعي) على ذلك النظام الذي لا يتوانى عن قمع الحريات الديمقراطية والتعددية السياسية، وإعاقة تحرر المرأة وحرمانها من مكاسب كانت حظيت بها، حتى في ظل النظام الرجعي الإمبراطوري السابق. كذلك فان النظام المذكور يحافظ على الطبيعة الطبقية للسلطة، بما هي سلطة برجوازية تابعة، مع ما لذلك من تبعات على الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء وباقي الفئات الاجتماعية المهمَّشة، ناهيكم عن قمعه للتطلعات القومية المشروعة للقوميات غير الفارسية. وانطلاقاً من ذلك، يمكن إدراك ضرورة اتخاذ موقف متحفظ ونقدي ليس فقط تجاهه، بل أيضاً تجاه الحركات والأحزاب الإسلامية الحاظية بدعمه في وطننا العربي. وفي الوقت عينه ينبغي تدارك المخاطر الأشدّ أثرا لأحصنة طروادة الأخرى في المجتمعات العربية، المتمثلة في الحركات الإسلامية السلفية، على اختلافها، وبخاصة منظمة “القاعدة” التي تسهِّل، موضوعياً، المخطط الأميركي-الإسرائيلي، وتلقى الدعم المالي واللوجستي من أجنحة أساسية في النظام العربي، ولا سيما داخل النظام السعودي.
ثانياً: دور اليسار ومسؤولياته
إن شراسة الهجمة الأميركية الحالية ومخاطرها على المنطقة وشعوبها الرازحة تحت نير أنظمة التبعية والاستسلام، تتطلب تعبئة أوسع الفئات والقوى الاجتماعية والسياسية الوطنية والتقدمية وتنظيم جهودها في إطار برنامج شامل للمواجهة. والتناقض الأساسي الذي يفترض أن تتصدى له هذه القوى إنما هو التناقض مع المشروع الإمبريالي الأميركي والصهيونية العالمية، ومع النظام الرسمي العربي في تركيبته الراهنة. وهذا التناقض، إذ يحدد الأعداء المباشرين فانه يحدد معهم طبيعة البرنامج النضالي وأولوياته، ومن ابرز عناوينه:
1 – مقاومة الهجمة الأميركية – الصهيونية
ولأجل ذلك لا بد من الالتزام بالخطوات التالية:
أ – أن يتخذ اليسار موقعه الطبيعي في مقاومة الهجمة الأميركية – الصهيونية المتمثلة اليوم بالاحتلال المباشر والتهديد بالاحتلال والحرب، وأن تأخذ هذه المقاومة كل الأشكال الممكنة، عسكرياً، وسياسياً، واقتصادياً وثقافياً، الأمر الذي يؤكد تلازم النضالين الوطني والاجتماعي، كوجهين للصراع الطبقي في بلادنا.
ب – أن يبلور صيغة ملموسة للعمل المقاوم تستند الى جبهة تضم شتى قوى اليسار في لبنان، وتعمل بالتنسيق الوثيق مع المقاومة الإسلامية متمثلة بحزب الله.
ج – أن يطوّر الآليات المناسبة لتنسيق العمل المقاوم على المستوى العربي وتوحيد النضال في ما بين شتى أطرافه ضد الأعداء المشتركين، بما يساعد في عزل وحصار القوى الدخيلة عليه التي تخدم عملياً المشروع الأميركي – الصهيوني، ولا سيما تلك المحسوبة على منظمة القاعدة الإرهابية المشبوهة وأشباهها.
د – أن ينشر ثقافة المقاومة بما يؤمن أوسع انخراط شعبي فيها وأوثق التضامن المدني معها، والتوجه الجدي الحثيث نحو تأمين أقصى درجات التعاون والتضامن مع حركات المقاومة والنضال المعادي للإمبريالية، عبر العالم.
إن مواجهة المشروع الأميركي – الصهيوني تقتضي النضال الدائب من اجل: تصفية القواعد العسكرية الأميركية من كامل المنطقة العربية والدول المجاورة، بما فيها تركيا؛ وإزالة الاحتلال الأميركي للعراق وإحباط التهديدات بالمزيد من الاحتلال؛ ووقف الهجمة الإسرائيلية المتمادية ضد الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية، ومواجهة الأشكال المختلفة لاضطهاد فلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1948، وصولا إلى تحرير الأراضي المحتلة في حزيران 1967، كخطوة على طريق ممارسة الفلسطينيين لحقهم في تقرير مصيرهم على كامل أرضهم في فلسطين التاريخية.
2 – الوحدة العربية مجدداً وقضية الأقليات
بالتلازم مع التراجع الخطير للوعي القومي العربي بسبب الهزائم المتعاقبة، تظهر تجزئة الأمة العربية اليوم – واكثر مما في أي وقت مضى – كتجزئة معاكسة للتقدم التاريخي. فهي تقف عائقاً في وجه التطور الاقتصادي للمنطقة العربية، ولا سيما في ظل أنساق العولمة الراهنة، عبر منعها قيام سوق عربية موحدة وحيلولتها دون مواجهة الآثار السلبية لهذه العولمة على الاقتصادات العربية. فالتوحيد القومي العربي يبرز كضرورة تاريخية واقتصادية: فهو الشرط الذي لا غنى عنه لإنجاز تصنيع حقيقي للبلدان العربية ضمن شروط دقيقة لحماية البيئة، ولإنضاج إصلاح زراعي جذري يؤّمن الاستخدام السليم للأرض وترشيد الاستثمار للموارد المائية، والتفاعل بشكل أعمق مع الثورة التقنية والعلمية. وتتطلب عملية التوحيد هذه طاقات ثورية هائلة، حيث أن ضرورات المجابهة لا تقتصر على أطر قطرية أو محلية وحسب، بل هي تشمل مواجهة الإمبريالية العالمية أيضاً. ويجب التمييز بوضوح تام بين المهام القومية الثورية من جهة والنزعة القومية “الماضوية” التي تشكل من جهة ثانية عائقاً على طريق التغيير الثوري، وتؤخّر تشكّل الوعي الطبقي لدى الجماهير العربية.
وينبغي الاعتراف أن مشكلات قومية أخرى قد أضيفت إلى المسألة القومية العربية ، من جراء التقسيم الإمبريالي للمنطقة العربية، ومن ضمنها مشكلة الجماعات البربرية غير المعربة ومشكلة الأكراد، فضلاً عن مشكلة السكان اليهود في دولة إسرائيل. إن اللقاء اليساري ينظر إلى توحيد الأمة العربية من وجهة نظر أممية بحتة، إذ لا يمكن أن يكون التوحيد مفروضاً ضد إرادة أحد الشعوب. وعلى هذا اليسار أن يقرّ بحق الجماهير البربرية في تقرير مصيرها، في الوقت نفسه الذي يشجعها فيه على الاندماج في المنطقة العربية مع احترام خصائصها الثقافية. وينطبق هذا الأمر أيضاً على الأقليات القومية المضطهدة في موريتانيا وجنوب السودان وكردستان العراق، والمناطق الكردية في سورية، حيث ينبغي احترام حقّ هذه الأقليات في تقرير مصيرها بنفسها.
أما الوضع الإسرائيلي فمختلف تماماً. فالأغلبية اليهودية في دولة إسرائيل الحالية أقامت اضطهادها أساساً على طرد السكان الأصليين العرب. وبهذا المعنى فان الموقف الثوري الوحيد هو الاعتراف بالحق الكامل وغير المشروط للشعب العربي الفلسطيني في تقرير مصيره، أي حقه في العودة إلى مجمل الأراضي التي طرد منها وفي العيش متحرراً من كل اضطهاد قومي، واستيفاء الشروط التي تمكّنه من الممارسة العملية لهذا الحق. ويقتضي هذا تفكيك الدولة الصهيونية القائمة على أسس عنصرية، بالتلازم مع معالجة مسألة حقوق الأقلية القومية اليهودية في فلسطين. وترتبط هذه المعالجة بإنجاز المهمة التاريخية الضرورية للثورة العربية، ونجاحها في إطلاق سيرورة قادرة على استقطاب الجماعات اليهودية بعيدا عن الصهيونية. ولا يمكن تصوّر إنجاز هذه المهمّة بمعزل عن تحول ثوري في عموم الشرق الأدنى، مع توفير موازين القوى التي تسمح بتحرير فلسطين من السيطرة الصهيونية والإمبريالية؛ وقد يعني هذا اقتران عملية تفكيك الدولة الإسرائيلية بزوال دول عربية أخرى، باتجاه خلق دولة عربية موحدة. هكذا فان الطابع القومي للثورة في الشرق الأدنى لا تحدده قضية الشعب الفلسطيني فحسب ، بل أيضاً وبالأخص المشكلة العامة للوحدة العربية، وذلك ضمن سيرورة يفترض أن تدمج المهام الوطنية الديمقراطية بمنظور التحوّل نحو الاشتراكية.
3 – المهام الوطنية الديمقراطية والمنظور الاشتراكي
لقد شهدت العقود الثلاثة الأخيرة تراجعاً واسعاً في وزن اليسار العربي، وفي القلب منه الأحزاب الشيوعية العربية، التي فوّتت – بسبب ضخامة مشكلاتها العضوية الذاتية وتقيّدها بتوجيهات المركز الستاليني وبنظرياته حول مسألة المراحل والتحالفات الطبقية – فرصاً ذهبية في اكثر من بلد عربي لطرح برامج متقدمة وفرض تحقيق أجزاء أساسية من تلك البرامج، خصوصا على مستوى المهام الوطنية الديمقراطية. وفي مرحلة أولى حصل هذا التراجع في مصلحة القوى القومية البرجوازية الصغيرة التي تنطحت، هي بالذات، لتنفذ على طريقتها، وبالقدر الذي تسمح به حدودها الطبقية، بعضاً من تلك المهام، منتجة ثورات ناقصة وفارضة على تلك الأحزاب عموما اللهاث خلفها والالتحاق بقيادتها . وحصل التراجع في مرحلة ثانية، ولا سيما في العقدين الأخيرين، لصالح قوى إسلامية استفادت من إخفاق تلك الأحزاب كي تتموضع في واجهة النضال الوطني. إن هذا الأمر يستدعي من اليسار اللبناني، بوجه خاص، واليسار العربي عموما، العمل على اكتشاف الطرق والآليات المناسبة لتجاوز هذا العجز وتجسيد ما تطرحه من مهام، بالتلازم في الوقت نفسه مع محاولة الإفادة من الجانب الإيجابي من عمل تلك القوى الإسلامية في إطار مقاومتها للاحتلال. والمقصود هنا بوجه أخص ما يضطلع به حزب الله من دور متقدم في مواجهة الدولة الصهيونية، وما تضطلع به ضمن حدود أدنى، القوى الإسلامية الفلسطينية، كحماس والجهاد الإسلامي، من دور إيجابي نسبياً في مواجهة العدو عينه، ومناهضة سياسة الاستسلام لدى السلطة الفلسطينية. وينبغي أن لا يؤدي هذا التوجه إطلاقاً إلى خلط الرايات أو الامتناع عن نقد الحليف الموضوعي المؤقت، على الصعيد الإيديولوجي والاقتصادي والاجتماعي والممارسة السياسية. ذلك أن هذه الإيديولوجيا المحكومة برؤية سلفية، تبقى معرضّة لاستجرار أشكال من الظلامية والتأثير سلبا على قضية المرأة وعلى المسألة الديمقراطية عموما، إضافة إلى واقع تخلّف برامجها الاقتصادية – الاجتماعية، العاجزة عن الخروج عن الإطار الرأسمالي التابع. إن هذه المخاطر هي من النوع الذي لا يكتفي بإعاقة التغيير الجذري للبنى المتحجرة لمجتمعاتنا العربية، بل يعرقل أيضا سيرورة التحرر من الهيمنة الإمبريالية على منطقتنا، ومن الدور الموكل إلى إسرائيل في هذا الإطار.
إن ذلك يستتبع ضرورة حرص اليسار على الالتزام ببرنامج واضح يتضمن مهام وطنية ديمقراطية أساسية، بين أهم بنودها قضايا التحرر القومي وإزالة الاحتلالات والقواعد العسكرية من الأرض العربية، وإطاحة الديكتاتوريات وإطلاق الحريات الديمقراطية، وإلغاء قوانين الطوارئ، وفرض انتخابات نزيهة في كل مواقع السلطة، على أساس النسبية والمساواة الكاملة بين المواطنين والدفاع عن التعددية ودولة القانون وتحرير المرأة، وإحداث إصلاحات اقتصادية جذرية تحدّ من غلبة اقتصاد الريع والتبعية للشركات والأسواق الأجنبية وتضمن تنمية مستدامة للقدرات الوطنية والموارد البيئية، وتفعّل استعادة الأدمغة المهاجرة. وينبغي أن يتلازم هذا المسعى مع بلورة وتنفيذ استراتيجية اجتماعية تحمي مصالح العمال والفئات الوسطى والمهمّشة، عبر سياسات نقدية ومالية وضريبية وتوزيعية تسترشد بمثل العدالة والتنمية الاجتماعية والتقدم الاقتصادي، ويكون من ضمن أهدافها تحسين وزيادة القيمة الحقيقية للأجر وتعزيز الطابع التصاعدي للنظام الضريبي وتوسيع حجم ونوع الضمانات الاجتماعية، ومكافحة الفقر والبطالة والتهميش والتمييز الاجتماعي واحترام حقوق العمال الأجانب. ويجب أن تكون هذه التوجّهات جزءا لا يتجزّأ من برنامج الانتقال نحو الهدف الأساسي لليسار أي بناء الاشتراكية.
إن الوطن العربي مرشّح لأن يشهد في المدى المتوسط وربما القريب مواجهات شرسة من النوع الذي من شأنه تسريع أفول الإمبراطورية الأميركية. وهذا ما سوف يضعف هيمنة واشنطن وقدرتها على حماية حلفائها في الخليج ومصر وباقي الوطن العربي، ويشجع انعتاق الجماهير العربية التي تضامنت مع المقاومة اللبنانية خلال مواجهتها لعدوان تموز 2006، مفسحاً في المجال أمام تحرير الثروات والموارد العربية من شبكات المصالح الإمبريالية. ونحن نؤكد على ذلك، بوجه أخص، في مرحلة نشهد فيها كيف يجري تضييع هذه الثروات والموارد هباءً، وفي حين نرى آلاف المليارات من دولارات النفط العربية – ثلاثة آلاف مليار بحسب بعض التقديرات – توضع في مصارف الغرب، وتوظف في البورصات الأميركية وتتعرض لعواقب الإنهيارات المالية على شاكلة تلك التي حدثت أخيراً في الولايات المتحدة، وانعكست سلباً وإلى أبعد الحدود على العالم الرأسمالي بأسره، ومن ضمنه الدول العربية، وبوجه أخص المملكة السعودية وباقي الممالك والإمارات الخليجية. علماً بأنه وحدها الخسائر التي منيت بها هذه الأخيرة في تلك الانهيارات – وقد قُدِّرت بعد مرور أقل من أسبوع على بدئها، بأكثر من مئتي مليار دولار – لو وظفت في تنمية المنطقة العربية لأمكن أن تلعب دوراً حاسماً في تصنيعٍ متقدمٍ لها وفي تطوير قدراتها الزراعية الكامنة، إلى الحد الذي قد تُحَلُّ معه مشكلة العوز والبؤس لمئات الملايين من أبنائها، وتتم استعادة أعداد غفيرة من الأدمغة المهاجرة، مع وقف هجرة المزيد من هؤلاء، ما يسهم بصورة حاسمة في استكمال شروط لحاق الوطن العربي بالعالم المتقدم. ونحن نقول الخسائر المعترف بها في الأيام الأولى للانهيار، فكيف لو تحول التوظيف، عربياً، ليشمل الجزء الأكبر من الإيداعات والتوظيفات الخليجية في الغرب!
إن تطورات كتلك الواردة أعلاه، فيما لو حدثت، سوف تجعل قضية الاشتراكية قضية راهنة في وعي الجماهير العربية الواسعة، ولا سيما إذا نجح اليسار العربي، ومن ضمنه اليسار اللبناني، في أن يضطلع بشكلٍ حيّ بالمهمات والإصلاحات البرنامجية الملقاة على عاتقه.
وكما اضطلع الشعب اللبناني بدور ريادي في مواجهة إسرائيل – لم يسبق لأيّ من الدول العربية أن لعبته – سوف يكون على اليسار اللبناني أن يضطلع هو الآخر بدور ريادي، ليس فقط في قيادة الشعب اللبناني نحو إحداث التغيير الجذري في البنى اللبنانية المتحجرة، بل كذلك في تفعيل اليسار العربي وإعداده لاستقبال تطورات الحقبة القريبة القادمة، انطلاقا من توازنات للقوى تتيح له تجاوز مسار الهزائم القاتلة، التي أنتجتها قيادة طبقية محكومة بالتجزئة القطرية والتبعية للمركز الإمبريالي والاستسلام أمام إسرائيل، ناهيكم عن انحيازها ضدّ مصالح الجماهير الشعبية العربية ووعيها. وسوف يشكّل الفشل أو النجاح في الارتقاء بهذا الوعي مستقبلا، حلقة مفصلية وحاسمة على مفترق يؤدي إما إلى المزيد من الانهزام أو إلى التأسيس لحقبة جديدة تنجز خلالها مهمات “العملية الثورية التاريخية” في الإطار العربي.
– III –
لبنان في نظامه السياسي الطائفي المترهل وواقعه الاقتصادي – الاجتماعي المأزوم
لا يمكن الفصل بين النظام السياسي الطائفي المترهل في لبنان، وواقع هذا الأخير الاقتصادي – الاجتماعي المأزوم. فثمة ارتباط وثيق بين استمرار النظام الطائفي المذكور وطبيعة السلطة الطبقية المهيمنة، من حيث هي سلطة برجوازية تابعة استعصى عليها التحوّل الى برجوازية وطنية حقيقية ضمن شروط عصر الإمبريالية، وتفاقم هذا الاستعصاء في الطور الحالي لذلك العصر، المتمثل بالعولمة الرأسمالية، في وقت لم يفلح فيه اليسار المحلي في قيادة تحالف اجتماعي متقدم نحو الانخراط في سيرورة قادرة على إنجاز المهام الوطنية والديموقراطية.
ان مناقشة هذه المسائل ترمي الى الاحاطة بالوضع اللبناني المعقّد والمتأزم، وما ينطوي عليه من احتمالات متفجرة ومخاطر كامنة، مع التأكيد أن الحؤول دون هذه الأخيرة بات رهناً، اكثر فأكثر، بقيام يسار جماهيري يمتلك برنامجاً متقدماً للتغيير الديمقراطي الجذري.
أولاً: النظام السياسي الطائفي المترهل
يعيش لبنان، منذ نشأته في اطار كيانه السياسي الحديث، أزمة متمادية تنفجر احياناً ثم تنتقل أحياناً أخرى الى مرحلة من الكمون المتفاوت، لتعود فتنفجر مجدداً كلما احتدمت تناقضات النظام السياسي وانعقدت على تناقضات إقليمية ودولية تحفز هذا الانفجار او تسرّعه. وتكمن الازمة المتمادية هذه في عجز النظام القائم عن مواجهة مواطن الخلل البنيوية التي تنخر مرتكزاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، عبرآليات ثلاث أساسية:
أ – البنية الطائفية الموروثة من أيام المتصرفية ومجلس الإدارة الذي أقرت قيامه الدول الخمس الكبرى في الستينيات من القرن التاسع عشر، وكان “ينتخب أعضاءه ويعينهم رؤساء طوائفهم بالاتفاق مع كبراء الطائفة”، بحسب المادة الحادية عشرة من بروتوكول العام 1861، التي تعدلت بموجب بروتوكول 1864 بحيث بات ينتخب هؤلاء مشايخ القرى، ولكن مع الحفاظ على التمثيل الطائفي في مجلس الادارة المشار اليه. وهذه البنية تكرّست، في الواقع، في ظل الانتداب الفرنسي، سواء عرفاً، عبر التقاسم الطائفي للرئاسات الثلاث الأساسية، أو دستورياً وبنص مكتوب، بخصوص الوظائف والمناصب الإدارية، وفقاً للمادة 95 من دستور العام 1926، الصامد إلى الآن، في جوانب أساسية منه، على الرغم من تأكيد تلك المادة مذاك على الطابع المؤقت لما ورد فيها. ولم يفعل الاستقلال عام 1943، وما سمي بالميثاق الوطني الذي تم التوافق عليه بين ممثلي الطائفتين الأكثر بروزاً وغلبة في تلك الحقبة، غير تثبيت هذا الواقع، علماً بان البيان الوزاري الذي على أساسه حصلت الحكومة الاستقلالية الأولى على ثقة المجلس النيابي، أشار بوضوح إلى مكامن الخطر التي ينطوي عليها استمرار الأخذ بالتقاسم الطائفي لمواقع السلطة السياسية، بقوله إن الطائفية “كانت في معظم الأحيان أداة لكفالة المنافع الخاصة كما كانت أداة لإيهان الحياة الوطنية في لبنان إيهاناً يستفيد منه الأغيار. ونحن واثقون انه متى عمر الشعب الشعور الوطني، الذي يترعرع في ظل الاستقلال ونظام الحكم الشعبي، يُقبل بطمأنينة على إلغاء النظام الطائفي المضعف للوطن”، ليعود فيضيف: “إن الساعة التي يمكن فيها إلغاء الطائفية هي ساعة يقظة وطنية شاملة مباركة في لبنان. وسنسعى لكي تكون هذه الساعة قريبة بإذن الله!!” بيد أن حساب الحقل لم يكن ليتفق مع حساب البيدر وهذه الساعة لم تأزف على رغم مرور 65 عاماً على صياغة ذلك البيان!
ب – الهشاشة الداخلية والوزن الطاغي للتأثير الخارجي
لقد كان لبنان، عبر تاريخه الطويل، جزءاً من إمبراطوريات متلاحقة تعاقبت في السيطرة على المنطقة العربية الحالية، منذ أيام الرومان، مروراً بالإمبراطورية العربية الإسلامية ووصولاً إلى السلطنة العثمانية التي كانت بدأت تشهد تدهوراً واضحاً في القرن التاسع عشر، مشجعة الدول الكبرى الصاعدة آنذاك للانقضاض عليها في الوقت المناسب. وفي فترة الانتظار هذه بالذات، تكثفت التدخلات الأجنبية في شؤون هذه البقعة الصغيرة جداً، التي جرى تقليصها في مرحلة أولى إلى حدود ما كان يعرف بجبل لبنان أيام المتصرفية، والتي لم يؤد إطلاق تسمية “لبنان الكبير” عليها – من قبل القائد العسكري الفرنسي الجنرال غورو القادم منتصراً إلى المشرق العربي غداة الحرب العالمية الأولى جنباً إلى جنب مع حليفه الإنكليزي- إلى التخفيف من الهشاشة الفعلية لهذا الكيان اللبناني الناشئ الذي فرضه الفرنسيون بصيغته الجديدة بالاتفاق مع الرجعية المارونية، على حساب الوحدة السورية التي كانت تنشدها الغالبية الشعبية. على العكس، فلقد بات «لبنان الكبير» أشد هشاشة من جبل لبنان، نظراً للتوازنات الطائفية التي عمّق الانتداب الفرنسي اختلالها في مرحلة سيطرته المباشرة على البلد، وجعلته عرضة مذاك لتجاذبات إقليمية ودولية تتفاوت قوة وتأثيراً وفقاً للظروف.
ج – التطور الاقتصادي المشوّه (الذي سيتم التوسّع فيه لاحقاً) والهيمنة الطبقية المأزومة لبرجوازية تابعة. وهما واقعتان تسهلان انعقاد زمام السيطرة السياسية لتحالف هجين بين ممثلي هذه البرجوازية، من جهة، والرموز القيادية الطائفية، من جهة أخرى.
الآليات الثلاث هذه تدخل في علاقة سببية معقدة، وتتوالى في عملية إنتاج وإعادة إنتاج أحدها للآخر، الأمر الذي يفسح في المجال واسعاً أمام تسهيل تزييف الصراع الأساسي في المجتمع وتشويهه، تحت غطاء الصراعات الطائفية والمذهبية. وهذا ما يحول بالتالي دون إعمال مفاعيل هذا الصراع في اتجاه التغيير الجذري على مختلف المستويات. والمقصود هنا بالتحديد هو الصراع الطبقي الذي لم تنقطع المساعي لأجل ضربه وإضعافه وشلّ الأدوات الأهم لتنظيمه وتوجيهه في المسار الذي يخدم مصالح الغالبية الساحقة من الجماهير الشعبية، أي مسار الإصلاح الجذري والثورة الاجتماعية. ولا تتمثل هذه الأدوات فقط بأحزاب الطبقة العاملة ومنظماتها السياسية، بل تشمل أيضاً النقابات والاتحادات العمالية وسائر الأطر النقابية والشعبية.
“الثورة المجهَضة” والإصلاح المعاق
في إطار بنية النظام السياسي اللبناني المحكوم بطغيان التناقضات الطائفية، بات خطر شبه دائم يهدد، في تواريخ اكثر تقارباً، باندلاع انفجارات أهلية مدوية. هذا ما شهدنا ملامحه ونتائجه على مدى حقبة طويلة نسبياً في النصف الثاني من القرن الماضي. ولكن إذا كان الانفجار الأول عام 1958 لم يعمّر طويلاً وأعقبته محاولة إصلاحية “متنوّرة” نسبيا هي المرحلة الشهابية ، فان الانفجار الثاني قد استغرق زمنا متماديا بحيث يئس الكثير من اللبنانيين من إمكانية الوصول إلى نهايته، ودفع نسبة عالية منهم إلى الهجرة الدائمة أو المؤقتة. والمفارقة الكبرى أن هذا الانفجار قد بدأ متلازما ً مع مشروع إصلاحي اكثر جذرية بوضوح من المشروع الشهابي، هو ذلك الذي أعلنت عنه الحركة الوطنية اللبنانية بقيادة كمال جنبلاط، في 18 آب 1975، ضمن ظروف اعتبرتها مؤاتية للتغيير الديمقراطي الجذري، وتميزّت بتنامي الصراعين الوطني (نتيجة الوزن الذي اتخذته المقاومة الفلسطينية المسلحة آنذاك في لبنان، وحلفاؤها اليساريون والقوميون المحليون)، والطبقي (مع تعاظم تجليات الأزمة الاقتصادية – الاجتماعية للنظام اللبناني). وهذا ما دفع بكمال جنبلاط إلى وصف المسعى المذكور بأنه شيء يشبه، لبنانياً، ثورة عام 1789 الفرنسية، ولا سيما عبر ما دعا إليه من فصل للدين عن الدولة واعتماد قانون مدني اختياري للأحوال الشخصية، إلى غير ذلك من المطالب والطروحات على صعيد القضية الوطنية وقضية الديمقراطية والحريات والعدل الاجتماعي. بيد أن المعركة لأجل هذا المنظور سرعان ما توقفت، ولكن ليس بسبب عدم وجود المقاتلين – faute de combattants – بحسب عبارة الشاعر الفرنسي، بل لأن الحركة الوطنية تلك، التي كانت تضم بين صفوفها الغالبية الساحقة من يسار تلك الفترة، عجزت عن الاحتفاظ بجوهر مشروعها الديمقراطي والسياسي الإصلاحي وعن الحؤول دون تحوّل المواجهة إلى صراع طائفي دموي مقيت، ساهم تدخل دمشق العسكري آنذاك إلى جانب قوى اليمين الرجعي المحلي في تسعير حدّته.
إن الإخفاق المدوي الذي عرفه مشروع يسار السبعينيات في حرب السنتين سوف يسّهل التطورات البائسة اللاحقة، وفي مقدمتها الاجتياح الصهيوني للبنان عام 1982، وخروج المقاومة الفلسطينية مهزومة من لبنان، والتراجع الخطير لوزن قوى اليسار والتقدم أمام نمو القوى الطائفية والدينية، فضلاً عن إطالة أمد الحرب الأهلية وانعكاساتها الوخيمة على أوضاع الشعب اللبناني (والفلسطينيين المقيمين في لبنان) وعلى وعيه وتوجهاته الفكرية والسياسية.
ومع أن اليسار قد عرف كيف يجد لنفسه موقعاً طليعياً رائداً، في تلك الفترة، في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي ودحره عن جزء أساسي من الأرض اللبنانية، لقاء تضحيات جسيمة، إلا أنه فشل في المحافظة على موقعه هذا حتى النهاية، ووجد نفسه مضطراً لمغادرته أواخر الثمانينيات، وذلك لأسباب شتى، أهمها القمع الذي تعرض له على يدي القوى الدينية والطائفية، بتشجيع من النظام السوري الذي استعاد عام 1987 ما كان خسره من مواقع عسكرية في لبنان نتيجة اجتياح عام 1982. وهو ما ستكون له عواقب وخيمة على وزن هذا اليسار ودوره اللاحق، وإن كان يجب الاعتراف، مع ذلك، بأن حزب الله الذي أريد له احتكار قضية المقاومة العسكرية للاحتلال مذاك، نجح في إجبار إسرائيل على الانسحاب من الشريط الحدودي في العام 2000، كما نجح بعد ذلك بإفشال الحرب الشعواء التي شنتها إسرائيل على لبنان عام 2006 بهدف تصفية مقاومته ووجودها المسلح. وهو نجاح لا يلغي واقع أن الوزن الفعلي، الذي بات يتخذه الحزب المذكور في الحياة السياسية والاجتماعية-الاقتصادية اللبنانية، ومعه شتى القوى الدينية والطائفية السلفية، التي يطلق عليها البعض تسمية الإسلام السياسي، سوف يشكل دائماً عائقاً هاماً دون تحقيق تطلعات اليسار إلى مجتمع ودولة علمانيين ديمقراطيين، ويهدد بصورة أو بأخرى بتسهيل انفجار حروب طائفية ومذهبية تدخل بامتياز في مشاريع إسرائيل والإدارة الأميركية للسيطرة على المنطقة.
إن اتفاق الطائف في خريف عام 1989 قد جاء ليشكل تتمة منطقية لهذا الواقع، وان كان سجل بعض النقاط الإيجابية النسبية المتمثلة بوقف الحرب وبإقرار نصّ حول إصلاحات دستورية، وإن جزئية، كان يفترض أن تؤدي في مدى زمني معقول إلى إلغاء الطائفية السياسية. والواقع أنه لا يمكن فهم هذا الاتفاق انطلاقاً فقط من المعطيات والمسببات الداخلية، بل انطلاقا كذلك من علاقته الوثيقة بصفقة أميركية-سورية محدّدة أعطت دمشق، للمرة الثانية في العقود الأخيرة، اليد الطولى في ترتيب الواقع السياسي اللبناني بالتنسيق مع العراب السعودي، الذي كان دوره يتنامى طوال الحرب الأهلية اللبنانية، وأصبح أكثر وزناً وفاعلية بكثير، منذ البدء في تطبيق هذا الاتفاق، ولا سيما مع صعود الحالة الحريرية الشديدة الارتباط به. وقد صبّت النتائج الملموسة لهذا الاتفاق ضمن موازين القوى الفعلية المحكومة بالسيطرة السورية – حتى خروج الجيش السوري من لبنان في ربيع العام 2005 – في اتجاه آخر معاكس يغلب عليه الطابع السلبي، ويتلخّص كما يلي:
أ– الاكتفاء من الإصلاحات الدستورية التي نص عليها الاتفاق بالجانب الذي كانت قد نصت عليه الوثيقتان اللتان سبق أن لعبت دمشق الدور الأساسي في إنتاجهما بخصوص الوضع اللبناني، أي الوثيقة الدستورية التي عاد بها من العاصمة السورية الرئيس الأسبق سليمان فرنجية أوائل العام 1976، ثمّ مشروع الاتفاق الثلاثي الذي أُقر في دمشق عام 1985. ويتمثل هذا الجانب بالمناصفة في عدد النواب والوزراء، والتكريس الفعلي لطائفية الرئاسات الثلاث، إضافة إلى تحجيم سلطات الرئاسة الأولى لصالح رئيس الوزراء، ومجلس الوزراء مجتمعاً. وهذا ما أبقى الانقسام الطائفي والمذهبي كالنار تحت الرماد، وإن جرى تعديل مواقع الهيمنة على حساب البرجوازية المارونية ولمصلحة نظيرتها السنية بوجهة أخص.
ب– تشجيع المحاصصة الطائفية بين شتى رموز السلطة، ولا سيما على صعيد الرئاسات الثلاث، مع ما لازم ذلك من تعزيز للفساد وتسعير فعلي للعصبيات المذهبية والطائفية. أي بالضبط عكس ما كان يفترض أن يحصل فيما لو جرى التطبيق الدقيق لنص الاتفاق، الذي كان سيشكل مدخلاً لضبط تلك الظاهرات، وان كان البعض يعتقد أن الاكتفاء بإلغاء الطائفية السياسية، من دون علمنة الأحوال الشخصية والتعليم، قد يؤدي إلى عكس ما يفترض منه إنتاجه على صعيد وعي الناس ومشاعرهم ومواقفهم وبالتالي على مستوى الواقع السياسي.
ج– إن الشكل الذي اتخذه التطبيق الفعلي (الجزئي جداً والمشوّه) لاتفاق الطائف، وما لازم ذلك من مشاعر الغبن المستجدة لدى الكثير من المسيحيين، سيفاقم في ما بعد تشويه قضية الديمقراطية البرجوازية (الممكنة في مجتمع رأسمالي). وهذا ما لمسناه بقوة، في السنوات الأخيرة، ولا سيما بعد صدور القرار 1559 عن مجلس الأمن واغتيال الرئيس الحريري وإخراج القوات السورية من لبنان. فوسط تغير موازين القوى السلطوية لصالح إحلال هيمنة أميركية محل هيمنة دمشق – وهو تغير جوبه بممانعة شديدة من جانب أنصار هذه الأخيرة الذين سعوا إلى إحباط مشاريع واشنطن في إطار ما يوصف بالشرق الأوسط الكبير – اندرج تشويه الديمقراطية تحت ستار تسمية الديمقراطية التوافقية، المبرّرة بالتعددية الطائفية والمذهبية في المجتمع اللبناني. وقد خيضت على أساس ذلك معركة المعارضة لأجل المشاركة السلطوية على امتداد السنتين الأخيرتين، وهي المعركة التي توّجت بانتصار هذه المعارضة وباتفاق مؤتمر الدوحة المشهور، الذي فك الحجز أخيراً عن انتخاب رئيس للجمهورية، وأعطى حزب الله وحلفاءه سلة المطالب التي كانوا ينادون بها.
ثانياً: الوضع الاقتصادي-الاجتماعي المأزوم
1- لا يمكن النظر إلى الوضع الاقتصادي-الاجتماعي بمعزل عن سياقه العام الذي شهد في العقود الأخيرة تعرض البلد لحرب مديدة مركَّبة، أهلية وخارجية في آن معا، أدت، فضلاً عن الخسائر البشرية الهائلة، إلى دمار كبير جداً، طال المدن الكبرى والقرى والأطراف. وقد أوصلت هذه الحرب إلى السلطة، بعد أن وضعت أوزارها، خليطاً من القوى الطبقية، بعضها الأهمّ قادم بشكل أساسي من عالم المال والمصارف المدعوم بتدفقات الرساميل الخليجية النفطية، وبعضها الآخر يتشكّل من قوى الأمر الواقع التي أفرزتها تلك الحرب. وحمل الطرف المهيمن في هذا الخليط برنامجاً لإعادة الإعمار يتبنى بالكامل السياسات النيوليبرالية المنفلتة من عقالها والمستوحاة من تعاظم آليات العولمة الرأسمالية التي تعكس توجّه رأس المال الكبير لتصفية كل الحواجز الوطنية والقومية التي تعترض سيطرته أو تحدّ من قدراته على عبور الأسواق، عبر تسويق اتفاقات الغات وفرض الالتحاق بمنظمة التجارة العالمية والالتزام الدقيق بوصفات المؤسسات الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وغيرها.
2- هذا الواقع عبّرعن نفسه عموماً بسياسات مدمِّرة لاقتصاد البلد، الواهن أصلاً بنتيجة الإعاقات التاريخية التي كانت تحول دون نموه وازدهاره، ولكن كذلك بسبب الحرب المتمادية الطويلة التي أنهكته. وقد أدت هذه السياسات عملياً إلى تراجع كبير في القطاعين الإنتاجيين الأساسيين، الصناعة والزراعة، لصالح المضاربات المالية والعقارية، وإلى إمساك البرجوازية المصرفية والمالية عموماً بالخيوط الأساسية لفروع النشاط الاقتصادي المختلفة، وذلك في جو من الهدر في موازنات الدولة، وتعميم في حالة الفساد والإفساد، بالترافق مع انخراط متزايد في سياسة استدانة داخلية و”خارجية” شرسة عبر الإفراط في بيع سندات الخزينة والتلاعب بقيمة الفائدة لصالح المصارف الدائنة، وبوجه أخص تلك التي يمتلكها أو يمتلك الجزء الأكبر من أسهمها النافذون من أهل الحكم. علماً بأن الجزء القليل فقط من هذه الديون، التي وصلت رسميا إلى ما يزيد عن 45 مليار دولار، قد أنفق فعلا على الإعمار (يقدره الخبراء الاقتصاديون بما لا يزيد على السبعة مليارات من الدولارات)، فيما ذهب الباقي، في معظمه، هدراً ونهباً، وفوائد ذات طابع جرمي.
3- إن ذلك قد تزامن مع تراجع مشهود وخطير في وزن القوى الاجتماعية والسياسية القادرة على مقاومة الهجوم النيوليبرالي الرأسمالي، والمتمثلة في أحزاب اليسار والحركة النقابية عموما. وقد ساهم في إضعاف هذه القوى خضوع البلد إجمالاً للسيطرة الخانقة للنظام السوري. يضاف إلى ذلك إصرار الحكومات المتعاقبة، بصورة واعية ومقصودة، على توجيه مزيد من الضربات لكل الأدوات الطبقية القادرة على تشكيل سد في وجهها، الأمر الذي سهّل تحميل أوسع الطبقات الشعبية المتوسطة والفقيرة وزر تلك السياسات وأعباءها وتكاليفها. ولم يطل ذلك فقط الأحزاب والمنظمات السياسية اليسارية، إجمالاً، بل كذلك وبوجه خاص الاتحاد العمالي العام والحركة النقابية، بصورة عامة، وذلك بالتنسيق والتوافق الوثيقين مع سلطة الوصاية وأدواتها المحلية. وقد كان من بين نتائج تلك السياسات تراجع مشهود في معدلات نمو الاقتصاد المحلي ككل، وانحسار الاستثمارات المنتجة وفرص العمل، والازدياد الكبير في التفاوت الاجتماعي والمناطقي، مع انتشار ظاهرات الفقر والتهميش إلى حدودها القصوى، بالتلازم مع هجرة كثيفة، على صعيد الكفاآت العلمية والتقنية وخريجي الجامعات.
4- كل ذلك كان يكشف حقيقة أن الأزمة هي أزمة نسق تاريخي للتطور الاقتصادي، أي أزمة نموذج زادته تفاقماً السياسات الاقتصادية-الاجتماعية لمرحلة ما بعد الحرب الأهلية، وهو نموذج لا يمكن إصلاحه في ظل التحالف الطبقي-الطائفي الحالي. وأبرز سمات النموذج تتحدد على الشكل التالي:
– إنه نموذج اقتصرت محددات النمو فيه على رافعتين تقليديتين أساسيتين هما الاستهلاك، من جهة، والاستثمار في المضاربات العقارية والمالية، من جهة أخرى، فيما أهملت إجمالاً الرافعات القطاعية الأخرى، ولا سيما تلك المرتبطة أساساً بالعلم والثقافة والأنشطة المولدة للقيمة المضافة العالية.
– وهو نموذج أدى إلى فتح الأبواب على مصراعيها أمام تصدير الموارد البشرية، ولا سيما المؤهلة وعالية التأهيل بينها، وبوجه أخص على صعيد العناصر الشابة، وذلك بدلاً من تصدير السلع والخدمات التي تتمتع بميزات عالية الجودة.
– وهو نموذج قام في الجوهر، في خلفيته الاجتماعية والسياسية،على تحالف طبقي ضيق يجمع حيتان المال والمصارف، بوجه أخص، إلى زعماء الطوائف وأمراء الحرب، بحيث يلعب كل من هؤلاء دوره، مع محاولة إسباغ شرعية رسمية وشعبية طائفية على خيارات اقتصادية-اجتماعية يحاولون تصوير أنها تخدم مصالح أوسع المواطنين، فيما هي تخدم أساساً مصالح القوى التي يتشكل منها هذا التحالف وشبكة المنتفعين من الأزلام والأتباع.
– وهو نموذج أخضع السياسة المالية لأغراض السياسة النقدية، وكرَّس بنية للإيرادات الضريبية متحيزة بشدة ضد مصالح غالبية المواطنين، في شكل ضرائب غير مباشرة تقتطع مما تبقَّى من مداخيل شحيحة للسكان المحليين، بعد أن كان قد قوّض منذ عام 1993 مرتكزات الضريبة التصاعدية.
– وهو نموذج تعامل مع المسألة الاجتماعية كحقل للهدر بامتياز ولتبادل المنافع بين مكونات التحالف الطبقي، والتشكيلات المذهبية والطائفية التي يدعي تمثيلها، بعيداً عن أي رؤية استراتيجية للتنمية الاجتماعية يتساوى إزاءها المواطنون، انطلاقاً من حقهم في العلم والصحة والسكن والعمل، والمساواة الاجتماعية، والشروط البيئية الفضلى، والتقاعد والضمانات وسائر أوجه الحماية الاجتماعية.
ثالثاً – بعض الخلاصات والتوجهات الإجمالية
إن التنمية الاقتصادية-الاجتماعية لا يمكن أن تكون مستعارة أو مستوردة (مؤتمرات باريس 1 و2 و3 وما شابهها)، وهي لا تتحقق فقط عبر تدفقات أموال النفط، أكانت عربية خليجية أو إيرانية أو غيرها. فأقصى ما يمكن أن يترتب على ذلك تقديم منعشات مؤقتة جداً لا تؤمن أي حل جدي لمسألة تزايد الفقر والبؤس. لا بل إن الأسوأ من ذلك أنها تجعل الفقراء المتزايدين باستمرار، ولا سيما في الأطراف، مطية لحيتان السلطة السياسية والمال، بتسهيل من تدفقات الأموال تلك. والسعي الجدي لإيجاد حلول دائمة للمعضلات الاقتصادية والاجتماعية يتم بالضرورة عبر إعادة بناء أسس الدولة والإصلاح السياسي الجذري، وكسر نظام التوافقات الفوقية للقوى السياسية والطبقية المسيطرة. وتشكّل هذه السيرورة عملية مركبة، وهي تتطلب خوض كل أشكال النضال الطبقي والاجتماعي من جانب أصحاب المصلحة في التغيير، عبر حركة شعبية ونقابية كفاحية تتجاوز أطر الاصطفافات الطبقية-الطائفية السائدة. ويفترض بهذه العملية ألا تسهم فقط في تقريب المواطنين عموماً من العدل الاجتماعي والتحرر والمساواة، بل أن تشمل أيضا بتلك الأهداف كل الشغيلة والمنتجين والفقراء من شتى الجنسيات والأجناس، ومن ضمنهم العمال والعاملات الأجانب، ولا سيما الخادمات اللواتي يتعرضن لاضطهاد مركّب مشين يجب أن تحول الدولة والقوانين اللبنانية دون استمراره. وذلك من دون أن ننسى الفلسطينيين، بوجه أخص، الذين يجب ضمان حقوقهم في شتى المجالات الإنسانية، بما في ذلك شمولهم بالحق في العمل والتملك وسائر الضمانات الاجتماعية طالما هم فوق الأراضي اللبنانية. إن إعادة بناء الدولة ضمن هذا المنظور، توفّر الأساس الموضوعي للربط العضوي ما بين مقاومة الشعب اللبناني، بشتى أشكالها، ضد إسرائيل والقوى الإمبريالية، من جهة، ومقاومة هذا الشعب للسياسات الاقتصادية الرجعية الموصوفة، من جهة ثانية، وللإسهام جدياً في تحرير لبنان من مخاطر الارتهان السياسي والاقتصادي للخارج.
1 – البديل المطلوب ودور اليسار على المستوى السياسي
إذا كان البعض يرى أن الرد على الواقع الراهن المفتوح باستمرار على احتمالات الصدام العسكري والانفجار الأهلي، يتمثل في التطبيق السليم والكامل لاتفاق الطائف، خصوصاً في المسائل المؤجلة إلى الآن والتي قد تكون لها سمة ديمقراطية، إلا أن ذلك يبقى قاصراً عن تأمين المعالجة الجذرية لأزمة النظام اللبناني، من دون إجراء جملة من التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والثقافية. وهذه المهمة تبدو في ظروف بلادنا اليوم مهمة تاريخية، ومن دون إنجازها سوف يكون من الصعب بل من المستحيل العبور بالشعب إلى مناخ مختلف جذرياً قوامه وحدة شعبية راسخة ومؤسسات ديمقراطية عصرية، وامتلاك للقدرات الذاتية التي تتيح مواجهة التحديات المستجدة في الداخل والخارج، فضلاً عن التحديات التي يطرحها وجود إسرائيل العدواني ومخططاتها ضد لبنان وأرضه ومياهه ودوره المقاوم، ومشاريع الإدارة الأميركية بخصوص المنطقة العربية ككل ومن ضمنها لبنان.
هذا ولقد كان اتفاق الطائف – مثله مثل الميثاق الوطني، وأي اتفاق آخر في تاريخ الدولة والمجتمع اللبنانيين، يعيد تنظيم الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمواطنين، ويحدد الخيارات المستقبلية بخصوصهم – عملاً فوقياً يتم في كواليس السلطة، أو في اجتماعات رموز الطبقة السائدة ومؤتمراتهم، وفي أحيان عديدة بإسهام أساسي للقوى النافذة الإقليمية والدولية، وتحت تأثيرها. وهو الأمر الذي يجعل من بين المهام التي يفترض أن يضطلع بها اليسار اللبناني تنظيم حملة شعبية حول مطلب انتخاب جمعية تأسيسية تضع دستوراً جديداً للبلد ينتقل به من نظامه السياسي الطائفي الراهن إلى نظام علماني ديمقراطي.
وعلى الطريق نحو إنضاج السيرورة النضالية لفرض هذه التحولات الديمقراطية المتقدمة، لا بد من أن ينخرط اليسار اللبناني بكل ما أوتي من إمكانات في النضال لأجل المهام الأساسية التالية:
أ – إقرار قانون جديد للانتخابات النيابية يعتمد التمثيل النسبي غير الطائفي ولبنان دائرة واحدة، مع خفض سن الاقتراع إلى الثامنة عشرة، واعتماد مبدأ الحصة النسائية في التمثيل النيابي، وإلغاء رسم الترشيح واستبداله بعريضة التواقيع الشعبية، وضبط النفقات الانتخابية تحت سقف يصبح تجاوزه سبباً لإبطال الانتخاب، وتنظيم عادل وعصري لاستعمال الإعلام وقمع الرشوات على اختلافها .
ب – استكمال الإصلاحات التشريعية بما يشمل: تطبيق التمثيل النسبي في الانتخابات البلدية؛ استحداث قانون مدني اختياري للأحوال الشخصية يكون مَعْبراً نحو قانون مدني إلزامي؛ إنشاء قانون ينظّم مفهوم الإقامة وفقا لمعايير عصرية محددة في بلد يعيش معظم سكانه في غير أماكن تسجيلهم؛ إقرار وتنفيذ قانون للامركزية الإدارية يتيح الاستثمار الأمثل للموارد المتاحة في المناطق في ضوء ما خلص إليه المخطط التوجيهي لاستعمال الأراضي اللبنانية؛ إقرار قانون عصري للأحزاب السياسية يطلق حرية تشكيلها على قاعدة العلم والخبر…. هذا بالإضافة إلى تشريعات متقدمة لحماية الحريات العامة والخاصة ووقف تدخل السلطة في شؤون الحركة النقابية وإطلاق الحقوق والحريات النقابية كافة التي نصت عليها اتفاقات منظمة العمل الدولية، بما يشمل إقرار حق التنظيم النقابي للقطاع العام.
ج – فتح ملف الإصلاح الإداري، الذي هو في جانب أساسي منه إصلاح سياسي، والشروع الفوري في تنفيذ هذا الإصلاح، ولا سيما عبر تعزيز آليات المحاسبة والمساءلة وتقييم الأداء وإصلاح وتحديث هياكل الإدارة العامة ومواردها البشرية وإخضاع عمل المؤسسات العامة للحساب الاقتصادي ومعايير الكفاءة المهنية والخدمة الاجتماعية، بالتلازم مع قمع الفساد والإفساد السياسي والمالي للإدارة، ومساعي تطييفها ومذهبتها. وهذا يتطلب وقف التدخلات السياسية في الإدارة العامة وضمان استقلالها وتعزيز أجهزة المحاسبة والمراقبة (مجلس الخدمة المدنية والتفتيش المركزي وديوان المحاسبة وهيئات الرقابة والمحاسبة الأخرى).
د – وضع استراتيجية دفاعية تضمن قيام جيش شعبي ووطني في رأس مهماته الدفاع عن الوطن ضد العدوان الخارجي، وبوجه أخص الإسرائيلي والأطلسي، بالتلازم مع تكريس وجود مقاومة وطنية تنخرط في إطارها المقاومة الحالية، ويتاح لكل المواطنين المهتمين بالالتحاق بها أن يفعلوا ذلك بحيث تصبح مقاومة شعبية من كل الطوائف والمذاهب، ذكوراً وإناثاً، وذلك من ضمن سياسة دفاعية وطنية شاملة.
ح – النضال من أجل رفع مستوى معيشة اللبنانيين جميعاً، وعدم تحميل كادحي البلد ومهمشيه فواتير الحروب الأهلية المتكررة، والسياسات المالية الكارثية للحكومات المتعاقبة ، ولا سيما منذ العام 1992، مع إرثها من الديون التي يجب إيجاد حل لها على حساب الفئات والطبقات والقوى السياسية والاقتصادية والمالية المسؤولة عنها أو التي استفادت منها. على أن يشمل هذا المسعى أيضاً جملة من المهام الاقتصادية والمالية، في مقدمتها اعتماد السلم المتحرك للأجور والضريبة التصاعدية وما إلى ذلك من عناصر سياسة اقتصادية واجتماعية متقدمة ، مهتمة حقاً وبالفعل بمطلب العدالة الاجتماعية. وهو ما سنعود إليه في البند التالي ، المتعلق بالواقع الاقتصادي – الاجتماعي المأزوم الذي يعيشه بلدنا.
2- البديل المطلوب ودور اليسار على المستوى الاقتصادي- الاجتماعي
أ- تغيير السياسات الاقتصادية-الاجتماعية التي ثبت فشلها، والتوجّه الصريح والمستدام نحو تعزيز القطاعات المنتجة، وبخاصّة الزراعة والصناعة والخدمات الطليعية ذات القيمة المضافة العالية والقابلة للتبادل والتصدير، بما في ذلك أساسا خدمات التربية والتعليم والصناعات الإلكترونية والسياحة البيئية والثقافية، التي لا يشترط تطويرها وجود موارد طبيعية. وتتطلب عملية التغيير هذه إقرار وتنفيذ جملة تدخلات وحوافز تطول توفير البنى التحتية المؤاتية والإطار التشريعي الملائم وتحسين إعداد وتدريب الموارد البشرية وإعادة هندسة سياسات التسليف والتسويق والنقل إضافة إلى الدعم الجدي للعمل التعاوني.
ب- السعي لتنفيذ برنامج متقدم لحماية الطبيعة والبيئة ومصادر المياه والغابات والأراضي الزراعية، بالاستناد إلى مقاربة كابحةٍ لنهج الاستباحة المطلقة والعشوائية التي ميّزت ممارسات الرأسمال الجشع في هذا المجال. ويندرج ضمن هذا السعي وقف المرامل والكسارات نهائياً، وإيجاد حل جذري للنفايات الصلبة والسائلة، والحؤول دون التلوث الناجم عن الصناعة ومياه الصرف، وبوجه خاص ذلك الذي يصيب الأنهار والبحيرات والشواطئ. كما تندرج في هذا الإطار إعادة بناء صناعة نفطية تكريرية متقدمة واستعادة الأملاك البحرية وغيرها من الأملاك العامة من تحت سيطرة مستثمريها غير الشرعيين، ومنع الحرائق ومكافحتها الفورية ومعاقبة مفتعليها ، واستكمال بناء السدود المدروسة وحماية حقوق البلد في مياهه، ولا سيما في الجنوب، والعمل على الاستفادة القصوى منها.
ج- وقف الاستدانة إلا لغرض الاستثمار المنتج اقتصاديا واجتماعيا في مشروعات إنمائية مدروسة بشكل مهني وذات أولوية مطلقة، ولا سيما في مجال توفير البنى التحتية والخدمات العامة الأساسية (كهرباء، ماء، صحة، تعليم، هاتف، مواصلات، محروقات، الخ…) كحق للمواطنين على الدولة تأمينه بأقل كلفة ممكنة وبنوعية جيدة؛ وفرض تحقيق شامل لكشف الحقائق الملموسة حول صرف عشرات المليارات من الدولارات المستدانة في العقدين الأخيرين، مع ما رافق ذلك من إعادة توزيع قسري للثروة والدخل ومن عمليات نهب وهدر لم تستفد منها الا قلّة من اللبنانيين؛ وتحديد القوى المسؤولة عن تلك العمليات واستحداث تشريعات لاستعادة الأموال المنهوبة مع فوائدها. وبهذا المعنى فانه ينبغي اعادة النظر جذرياً في أولويات ورقة باريس 3 وبرامج البنك وصندوق النقد الدوليين، التي لا تركّز الاهتمام عمليا إلا على الجوانب المتصلة أساسا بقضية إدارة الدين العام واستدامة تسديد خدماته، وتهمل مسائل الاقتصاد الحقيقي والإفقار المتزايد الذي تتعرض له غالبية الشعب اللبناني.
د- إبراز أولوية تطوير وحماية القطاع العام من ضمن إخضاعه لعملية إصلاح شاملة تتزامن مع تقدّم الإصلاح السياسي المنشود، وهذا ما من شأنه أن ينزع الحجج والذرائع التي يستخدمها العديد من أهل الحكم، القديم منهم والجديد، للمضي من دون هوادة في سياسة الخصخصة. وإذا كانت ثمّة دواع لخصخصة ما في هذا المرفق أو ذاك – ولا سيما في تلك المرافق التي هي ليست بالضرورة جزءا من الحقل العام ولكنها آلت “صدفة” إليه إما بفعل إفلاسات سابقة في القطاع الخاص أو بفعل الإرث الذي خلّفه الانتداب الفرنسي – فان مثل هذه الخصخصة ينبغي أن تخضع لشروط محددة تتعلق بطبيعة الحكم والتوازنات فيه وبحماية مصالح المستهلكين ومنع حلول احتكار خاص مكان احتكار عام، ناهيك عن حماية الحقوق المكتسبة للعاملين.
ه – إعادة صياغة السياسة الضريبية المتبعة منذ أوائل التسعينيات والتي لم تخفف من أوجه عدم المساواة الاجتماعية في البلاد، بل فاقمتها على غير صعيد، بالرغم من مروحة الإعفاءات الضريبية المعمول بها ومن انخراط الدولة المتزايد – كماًً وليس نوعاً- في تمويل نفقات الصحة والتعليم وبعض الخدمات الاجتماعية الأخرى. وفي إطار الإصلاح الضريبي المنشود ينبغي الاتجاه نحو قدر أكبر من التصاعدية في النظام الضريبي واستحداث ضرائب على أرباح التحسين العقاري وفرض ضرائب عالية على المضاربات المالية، وعلى سندات الخزينة وأرباح الشركات الكبرى، هذا بالإضافة إلى إخضاع بعض عناصر الثروة للضريبة.
و- بلورة وتنفيذ سياسة اجتماعية لا تصطنع “نفخ” مسألة مكافحة الفقر ومسألة الفئات الفقيرة والمهمّشة بهدف التملّص من معالجة المرتكزات الأساسية للسياسة الاجتماعية التي تتمثّل في تجسيد حقوق المواطنة في الصحة والتعليم والشيخوخة والعمل والسكن والضمانات الاجتماعية الأساسية الأخرى، لأوسع فئات المجتمع اللبناني وفي طليعتهم الفقراء والمعوّقون والمتعطلون عن العمل والنساء ربّات البيوت وأطفال الشوارع وغيرهم من الفئات المهمشة. ويندرج في هذا الإطار إرساء قاعدة واضحة لسياسة الأسعار والرواتب والأجور بما يحفظ ويعزّزعلاقة الأجر الحقيقي بكلفة المعيشة.
ز- تعديل وتطوير القوانين التي لها علاقة بوضع المرأة، ومن ضمنها قوانين الإرث، والعمل، والعقوبات، والجنسية، بحيث تحصل المرأة على مساواة فعلية مع الرجل في كل الميادين، بما في ذلك فتح كل مجالات العمل التي يحتكرها الرجال أمامها وتأمين روضات أطفال مستوفية كل شروط السلامة والصحة. وفي الإطار ذاته الاهتمام الأقصى بأوضاع الشبيبة من الجنسين، ولا سيما على صعيد تحسين نوعية التعليم الرسمي وضمان فرص العمل، وحل مشكلة البطالة حلاً جذرياً، وتأمين المشاركة الحقيقية من جانب الشبيبة في الحياة السياسية وفي القرارات المصيرية التي تتعلق بحياتهم، وحياة البلد ككل.
إن هذا البرنامج الذي تطرحه قوى اليسار والذي يهدف إلى إحداث تغيير حقيقي في طبيعة السلطة الحالية – باتجاه سلطة شعبية ديمقراطية أقرب إلى الهموم والمصالح الأساسية للغالبية الواسعة من اللبنانيين – يتطلب تعبئة تحالف واسع من القوى الاجتماعية الخارقة للاصطفافات الطائفية التقليدية، وفي طليعتها النواة الأساسية للطبقة العاملة وللفئات المتوسطة والفقيرة إضافة إلى شرائح من المثقفين المستقلين عن أركان النظام والطوائف. ومن شروط بلورة هذه الكتلة الشعبية، تبرز مهمة إعادة بناء الحركة النقابية من جذورها واستحداث هيكلية جديدة لها تضمن انغراسها في الوسط العمالي وقطاعات الإنتاج، والتزامها النضالي بالقضايا الشعبية والوطنية.
– IV –
لأجل أن يتجاوز اليسار اللبناني أزمته المتمادية
في ضوء ما تقدم من قراءة للوقائع والتطورات والاحتمالات المطروحة، يستعاد طرح السؤال حول دور اليسار في مجابهة هذه التحديات. ويأخذ هذا النقاش أبعاداً تصل إلى حدّ المساءلة حول مدى جهوزية القوى اليسارية لتحمل أعباء هذه المواجهة المفروضة عليها وعلى الشعوب العربية عموماً، ومدى استعدادها لإجراء قراءة نقدية جدية لتجاربها السابقة. وينطوي هذا النوع من القراءة النقدية على همٍّ نضاليٍّ وطنيٍّ لدى فئات واسعة من اللبنانيين، مناضلين سياسيين يساريين وشبابا عاشوا تكراراً تجارب مرتبكة، في غياب الأطر والمشاريع السياسية التي تلبي طموحاتهم.
لقد بدأ اليسار اللبناني نضاله منذ بدء تبلور الدولة المعاصرة في عشرينيات القرن الماضي. وأرسى هذا اليسار القاعدة لخوض معارك الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، عبر سعيه الى تنظيم الطبقة العاملة اللبنانية وتأسيس الاتحادات النقابية وخوض معاركها، بهدف حماية حقوقها وتحسين شروطها المعيشية وتطوير وعيها الطبقي. كما لعب دوراً كبيراً في تطوير قطاعات التربية والتعليم، وبخاصة الجامعة الوطنية، وفي إرساء أسس نظام التأمينات الاجتماعية، ولا سيما الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. وقد اضطلع اليسار بدور طليعي في قيادة نضال العمال والفلاحين والطلاب والمثقفين الثوريين وفي ترسيخ مفاهيم الديمقراطية، ونجح في تحقيّق اختراقات ملموسة على صعيد تعزيز اندماج الشعب اللبناني حول قيم المساواة ونبذ الطائفية، وتجاوز الحدود الضيّقة للعلاقات الاجتماعية الموروثة (الزواج المتعدد، الدمج السكاني، الخ…). ولم يكن الصراع مع القوى الطائفية يوماً بالشيء السهل، حيث اصطدم على الدوام كلُّ انفتاح محتمل للبلد على واقع اجتماعي أو شعبي جديد بمواجهة عاتية من جانب تلك القوى، التي ظلّت محكومة بهاجس الحفاظ على مواقع سيطرتها الطبقية-الطائفية على حساب القضايا الوطنية الشاملة.
وكما في المجال السياسي والاجتماعي، كذلك كان للقوى اليسارية دور كبير في المعارك الوطنية من أجل الاستقلال، وصولاً إلى التأسيس الأول للمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي والدفاع عن القضية الفلسطينية ومواجهة الغزو الإسرائيلي عام 1982 وإعلان جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية. إن آلاف الشهداء قد سقطوا دفاعاً عن لبنان ومن أجل وحدته وتطوره الديمقراطي، في نضالات خيضت في أعقد الظروف الداخلية والإقليمية، في مواجهة نظام البرجوازية الكولونيالية الطائفي والهجمة الإمبريالية-الإسرائيلية التي لم تتوقّف.
أما في الظروف الراهنة فان بلدنا بات يعيش مرحلة الهزيمة الشاملة لمشروع الحركة الوطنية، الذي تضافرت على إسقاطه ليس فقط القوى الطائفية والطبقية المهيمنة والمرجعيات العربية الملتحقة بالخطة الأميركية، بل كذلك ما برز من تشوّهات وارتباكات في السياسات والتحالفات التي حكمت مواقف الحركة الوطنية (كما سنوضح لاحقاً). وقد شهدت مرحلة التراجع هذه انتقال قوى وأحزاب – كانت قد حملت مشروع الحركة الوطنية – إلى داخل بنية السلطة (باستثناء الحزب الشيوعي، بوجهٍ أخص)، وتحولّها إلى شريك فعلي لهذه الأخيرة في مواجهة الحركة الشعبية وفي إضعاف الحالة الديمقراطية والعلمانية ومحاصرة المؤسسات الأهلية والنقابية. وبتواطئها موضوعياً مع القوى البرجوازية والطائفية، سهَّلت هذه القوى عملية استنبات تشكيلات نقابية وهمية وتكتلات عمالية وفلاحية وطلابية وشبابية ذات طابع مذهبي، وإعطاءها غطاء شرعياً رسمياً، ما ساهم في تفتيت الحركة النقابية والعمالية وفي تحويل العمال، الموحدّين في معاناتهم وفي خضوعهم للاستغلال، إلى “شلل” منقسمة على ذاتها ومعبأة خارج منطق المصالح الحقيقية التي تجمعها.
ثمّ أن هذه القوى شكّلت، عبر وجودها في السلطة، جزءاً من مشروع الوصاية السورية الذي عمل بصورة حثيثة على تكريس مواقع قوىً طائفية، أو رموز محددة لها، في لعبة “توازن” قائم على نظام المحاصصة في غير مجال. وفي مقابل بعض المغانم، في البرلمان كما في بعض الوزارات والإدارات العامة، ضحّت تلك القوى بنظام القيم التي كانت تعلن إيمانها بها، على حساب الشعب الذي بقيت تدَّعي تمثيل مصالحه.
وجاء سقوط الاتحاد السوفييتي وما رافقه من خلل فاضح في ميزان القوى لصالح الإمبريالية الأميركية، ليضيف تأثيرات مدمرة على حركة التحرر العالمية والعربية. فغياب “المركز” السوفييتي وضع الأحزاب الشيوعية واليسارية في “الأطراف” أمام مشكلات وصعوبات وتعقيدات، على المستوى الإيديولوجي والفكري كما على الصعيد السياسي. ومع انقضاء نحو عقدين من الزمن، لم يتبلور لدى غالبية اليسار اللبناني (والعربي) إلى الآن تقييم نقدي واضح ومحدّد بشأن التجربة الاشتراكية، ودور الأحزاب الشيوعية. ولم ينجح اليسار حتى الآن في مواجهة الأسئلة الكبيرة المطروحة، تحت ضغط أنساق من الممارسة السياسية – البراغماتية، المتزامنة مع تركيز مفرط للنقاشات على مسائل تكاد تكون محصورة في البنية التنظيمية. ومثل هذه المقاربة لا يساعد على تجاوز الأزمة، التي تفاقمت على مدى عقود، وساهمت في تفاقمها أخطاء وتقصيرات، وأحياناً انحرافات من جانب قوى اليسار، سواء في نمط علاقاتها مع الاتحاد السوفييتي السابق، أو مع الأنظمة «الوطنية»، أو في تحالفاتها الداخلية. وبفعل هذه الأخطاء، بالغت بعض أحزاب اليسار، وبخاصة الأحزاب الشيوعية، في التصادم مع الأنظمة «الوطنية»، في شروط غير مؤاتية، وأحياناً بتأثير من تحالفها مع المركز؛ ثم بالغت في التحاقها بتلك الأنظمة أو مهادنتها لها، بعد تحالف هذه الأخيرة مع الاتحاد السوفييتي، وصولاً إلى الذوبان الكامل، كما حصل عندما قرر الحزب الشيوعي المصري حل نفسه والانضمام إلى الاتحاد الاشتراكي الحاكم. وهذا ما حرم الطبقة العاملة من التمثيل والفعل السياسيين، وسهّل للأنظمة الالتحاق بالمشاريع الأميركية للمنطقة أو التقاطع معها، وأطاح الجزء الأكبر من المكاسب الاجتماعية التي كانت قد تحققت في تاريخ سابق.
وما حصل في مصر ارتدى أشكالاً أخرى في المشرق العربي، ولا سيما في سوريا والعراق، حيث انخرط الحزب الشيوعي السوري في السلطة القائمة في بلده، فيما وصل الأمر بالحزب الشيوعي العراقي إلى حد الرضوخ لسلطة الاحتلال الأميركي والتعاون معها.
ماذا عن لبنان؟!
لم يشهد لبنان، تحديداً، تحولات شبيهة بتلك التي حصلت في البلدان المذكورة أعلاه، وبقي نظامه محافظاً على بنيته التقليدية، من حيث هو نظام برجوازي طائفي تابع. وتموضع اليسار في هذه الحالة لم يعبِّر عن نفسه بالانخراط في بنية السلطة، بل خارج هذه الأخيرة، وفي المسعى طويل الأمد لإحداث التغيير الديمقراطي، الذي شكّل البرنامج الإصلاحي لصيف عام 1975 أبرز تجلياته. وقد اندرج هذا المسعى، بصورة أو بأخرى، في شبكة من التناقضات، أشار إلى جانب منها الزعيم الراحل للحركة الوطنية كمال جنبلاط قبل اغتياله بوقت قصير، عندما أكّد (في كتابه بعنوان من أجل لبنان Pour le Liban)، على الالتباس الجوهري القائم بين مطالبة القوى الوطنية اللبنانية للدول العربية بتقديم الدعم السياسي والمعنوي لها من جهة، ورفض البلدان العربية كافّة من جهة ثانية لمبادئ الديمقراطية وإلغاء الامتيازات الطائفية وعلمنة القوانين ومؤسسات الدولة، التي كانت تناضل من أجلها الحركة الوطنية. وفي الواقع، لم تحصل الحركة الوطنية، ومن ضمنها اليسار اللبناني، على الدعم السياسي والمعنوي للدول العربية، بالشكل الذي تتمناه ووفقاً لبرنامجها الإصلاحي، بل حصلت على الدعم المادي المشروط (المال والسلاح، الخ…). وكانت هذه إحدى نقاط ضعفها، خلال مرحلةٍ شكَّلت بحق فرصةً للتحول من بنية مؤسسات مطيّفة ومتصدعة في اتجاه «بنية مؤسسات علمانية وديمقراطية حقاً».
وينسحب هذا النسق على العلاقة الملتبسة أيضاً مع منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات. فقد تعاملت الحركة الوطنية مع المنظّمة من موقع الحليف الضعيف وغير النقدي، خلال حرب السنتين، ثمّ خلال الاجتياحين الإسرائيليين عام 1978 وخصوصا عام 1982، الأمر الذي أثَّر إلى أبعد الحدود، على مستويين اثنين:
أ- في التسهيل الموضوعي لعملية تحوُّل نضال مسلَّح لأجل التغيير الديمقراطي إلى حرب أهلية طائفية، سواء بسبب الامتناع عن قمع القوى المشبوهة في صفوف الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية، والمتواطئة، عن وعي أو بدونه، في أحيان كثيرة، مع اليمين الفاشي في ارتكاب الجرائم والمذابح ذات الطبيعة الطائفية ضد اللبنانيين، كما ضد المخيمات الفلسطينية؛ أو في الامتناع عن دمج المعركة لأجل الإصلاح السياسي والتحرر الوطني بالمعركة لأجل القضية الاجتماعية، مع الإشارة إلى أن هذا الامتناع جاء أحياناً من داخل اليسار نفسه.
ب- عدم المواجهة الجدية لتوغُّل الجيش الإسرائيلي داخل الأرض اللبنانية، لا سيما في صيف عام 1982 ، ضمن ظروف أتاحت لعرفات – في إطار العلاقة المختلّة بين الحليفين اللبناني والفلسطيني – أن يتحكم بمسار المواجهة مع الاجتياح، وان يمعن في ارتكاب الأخطاء في ادارتها وتنظيمها وفي تعاطيه مع تكرار حالات وقف النار وشروط الخروج العسكري الفلسطيني من لبنان. وكذلك التقصير والإخفاق في تعبئة دعم الشعوب العربية والقوى العالمية المعادية للعدوان الصهيوني، وعدم فضح الحكام العرب الذين كانوا في معظمهم اما متآمرين أو متواطئين أو عاجزين.
حول المقاومة الوطنية وانكفائها
بالرغم من انصياع معظم أحزاب اليسار (لا سيما الأساسية بينها آنذاك) لسياسة ياسر عرفات الملتبسة أمام الضغوط الإسرائيلية والأميركية والرجعية العربية، فان هذه الأحزاب سرعان ما عمدت بعد انسحاب المقاتلين الفلسطينيين من لبنان، إلى تنظيم مقاومة جدية للاحتلال الإسرائيلي، ما أتاح إجباره على الانسحاب من الجزء الأكبر من لبنان، وصولاً إلى الشريط الحدودي، في غضون سنوات ثلاث. لكنّ هذه المقاومة وجدت نفسها بعد حين مضطرةً، عند درجة محددة من الضغوط الإقليمية، للانكفاء وإخلاء الساحة أمام قوىً أخرى أريد لها أن تحتكر، عملياً، العمل المقاوم، تحت مسمّى المقاومة الإسلامية. وقد ساهمت عوامل عدة في إحداث هذا التحوّل: غياب الدعم المادي (بما في ذلك تسليحاً وتدريباً) بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، لا بل حتى قبل ذلك الانهيار؛ وغلبة النهج الرامي إلى ضبط إيقاع المقاومة بما يتناسب مع الوجهة السياسية العامة للنظام السوري وتحالفاته الإقليمية (إيران تحديداً). وهذا ما حصرها ضمن فئة من اللبنانيين، وسهّل إسباغ سمات مذهبية وطائفية قاتلة عليها، وحال دون إبراز دورها الوطني – بالقدر الذي تستحقه – في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية اللبنانية. وقد وصلت هذه الضغوط إلى حدود التصفية الدموية والاعتقال والتعذيب، كما حصل مع العديد من المقاومين اليساريين وكوادر أحزاب اليسار، في النصف الثاني من الثمانينيات.
إن إخراج (أو خروج) قوى اليسار اللبناني من إطار المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي خلّف أضراراً جسيمة في البنية الداخلية لهذه القوى وانعكس سلبا على علاقة التقاطع بين نضالها من أجل التحرر الوطني ونضالها من اجل التغيير السياسي والاجتماعي-الاقتصادي. فحركة التحرر الوطني، في مسار معركتها من أجل التحرير ضد العدو الخارجي، ينبغي أن تتصدى في الوقت عينه للمهام الديمقراطية والاجتماعية وتعمل على إنجازها، مسترشدة بقيم العدالة والمساواة واحترام حقوق الإنسان والحريات العامة وعدم التمييز الاجتماعي على أساس الانتماء الديني والطائفي والإثني وعلى أساس النوع الإجتماعي والمناطق وفئات الأعمار…. وهذا ما حرمت منه أو افتقدته حركة المقاومة اللبنانية، من خلال ما خلّفه انكفاء قواها العلمانية من التباس في العلاقة بين المقاومة والشعب. وفد سهَّل هذا الانكفاء استخدام الواقع الطائفي الداخلي للتحريض ضد المقاومة في مراحل لاحقة.
إن تضافر هذه العوامل لا يعفي قوى اليسار من المسؤولية. وتتجلى أزمة اليسار الفعلية راهنا في غياب برنامج سياسي موحَّد للتغيير، واضح المعالم والخيارات ويستند إلى قاعدة تحالفات متوافقة حقاً مع موجبات الإصلاح السياسي والاقتصادي. إن النهج السياسي غير الفاعل وأسير الخطاب العام تجاه السلطة وغياب البرنامج الإعتراضي الواضح، قد شكّلا أساساً لتغييب اليسار عن ساحة الفعل الحقيقية، ولانكفائه عن المشاركة في المعارك السياسية الكبرى، وبالتالي ابتعاده عن جمهوره الواسع.
إن اليسار، بما يمثل من قيم سياسية وثقافية (فهو ديمقراطي، علماني، ثوري، منحاز للتحديث والتطوير، وللتحرر الكامل للمرأة، ولضمان حقوق الإنسان، وحماية البيئة؛ كما هو على ارتباط دائم بالتطور الحضاري للمجتمعات كجزء من مسيرة البشرية من أجل العدالة، والتطور الثقافي والعلمي)، بات بحاجة الى إعادة تأسيس على قاعدة هذه القيم. وإعادة التّأسيس هذه تتطلب نمطاً من التنظيم أكثر عصرية، ومرونة، وديمقراطية، وقدرة على تنظيم الاختلاف في داخله، بصفته مصدر غنى، وينطوي على تعزيز فاعلية اليسار في المجتمع، وتطوير قدرته على التغيير الجذري للبنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المسيطرة فيه. وبهذا المعنى لا يعود التنظيم هدفاً بذاته، بل يصير أساساً لإنتاج الأفكار وبلورتها، وصياغة برامج النضال العملي، وفقاً لمبادئ الديمقراطية التنظيمية الحقيقية، وبخلاف ما هو حاصل إلى الآن، في الأطر الحزبية الراهنة، التي تحول معظمها إلى أطر تشدها العصبية والروح الفئوية، وتتيح ظهور الممارسات الانتهازية لدى الأفراد والجماعات.
هذا وإن إعادة التأسيس هذه لا بد من أن تقوم على أساس المنطلقات التالية:
1- نقد للإيديولوجيا، يوصل إلى القراءة النقدية لتراث الفكر الاشتراكي العلمي في علاقته بالواقع، وصياغة برنامج نضالي موحد لليسار، من ضمن أولوياته استعادة المبادرة على مستوى تنظيم الطبقة العاملة وقواها النقابية والسياسية – إلى جانب باقي الشرائح الاجتماعية المتضررة من النظام الطائفي الطبقي القائم –، والتبني الحاسم لمعركة إسقاط النظام الطائفي وبناء نظام مدني يرسخ بناء دولة القانون والمؤسسات، والمواطنية الحقة.
2- إن تجديد الفكر النقدي المتلازم مع إعادة الاعتبار لمنهج البحث العلمي، يشكل شرطاً أساسياً لاستعادة الآلاف من المناضلين وبخاصة المثقفين الذين انكفأوا لسبب أو آخر عن مسيرة اليسار. وإذا كان جانب من هذا الانكفاء مبرّراً بسبب تراجع وهج الحلم الاشتراكي الكوني وأخطاء اليسار، ناهيك عن تعقيدات الحقبة السياسية المعاصرة، فإن جانباً آخر منه لا يمكن تبريره قط. ويتعلق هذا الأمر بأولئك الذين غادروا مواقعهم ليلتحقوا طواعية، وأحياناً تحت ضغط المصالح الشخصية، في ذيل “النخب” الطائفية وأمراء السلطة والمال، وقد استحوذت على عقولهم وقلوبهم وأنماط عيشهم الريوع المتغذية من شبكات الأعمال المرتجلة وإمبراطوريات الإعلام والترويج “الثقافوي” الرخيص والمموّل في معظمه عبر وكلاء وأجهزة ملوك النفط وأمرائه. أما بالنسبة إلى تلك الفئة الواسعة من الكوادر والشباب التي انكفأت في اتجاه مؤسسات ما يصطلح على تسميته بالمجتمع المدني، فإنه يتوجب التمييز بين صنفين منها: أحدهما، وهو الغالب، محفوز بالرغبة الصادقة في العمل الاجتماعي وكسب العيش المشروع والارتقاء المهني واكتساب المهارات، وعلى اليسار أن يكافح لاستعادته والاستفادة من خبراته وقدراته لإغناء قاعدة اليسار الضحلة؛ والثاني بات من الناحية الموضوعية جزءاً لا يتجزأ من مشاريع سياسية وطائفية وحتى تجارية لا تمتّ إلى اليسار بصلة بل هي باتت في معظمها احتياطاً للقوى الطائفية والطبقية الداخلية المسيطرة ولدوائر المصالح الأجنبية المستهدفة للبلد والمنطقة، وعلى اليسار أن يعمل على فضح زيفه والتصدي له فكرياً وثقافياً وسياسياً ومهنياً.
3- صياغة تحالفات على أسس سياسة أكثر جذرية، مستفيدين من قراءة نقدية للحرب اللبنانية وموقع اليسار فيها، وطبيعة التحالفات التي حكمت مسارها مع القناعة بأنه لا يمكن التحالف مع قوى طائفية فيما نحن نخوض معركة الديمقراطية والعلمانية في لبنان؛ كما لا يمكن من ناحية ثانية التحالف الاستراتيجي مع قوى طبقية برجوازية، فيما نحن نخوض معركة العدالة الاجتماعية دفاعاً عن الفئات المستغلّة والمهمّشة في مجتمعنا. وفي الحالات الوحيدة التي يحصل فيها التحالف مع قوى من هذا النوع، ينبغي أن يتم ذلك على أساس مطالب محددة، وانطلاقاً من المبدأ المعروف: الضرب معاً والسير على حدة. بمعنى آخر، أن يتاح لهذا اليسار النضال علناً وبحرية مطلقة من أجل برنامجه الخاص به، في الوقت نفسه الذي يناضل فيه أيضاً لأجل المهام المشتركة للتحالف، مع احتفاظه المطلق بحق نقد الحليف حين يتعارض خطه وممارسته مع الأهداف الأساسية التي يتطلع إليها هذا اليسار.
***
إذا استثنينا ظاهرة وحيدة مشرقة تنطوي على إيجابيات حقيقية متمثّلة في إنتاج مقاومة فاعلة لإسرائيل – سواء تلك التي قادها الشيوعيون تحت تسمية المقاومة الوطنية ونجحت في دفع الاحتلال الصهيوني إلى الشريط الحدودي، أو تلك التي يقودها حزب الله تحت تسمية المقاومة الإسلامية ونجحت عام 2000 في تحرير معظم ذلك الشريط، ومن ثم إفشال حرب 2006 على لبنان – فإنه ينبغي الإقرار أن بلدنا قد بلغ مستوىً متقدماً جداً من التدهور الاجتماعي والاقتصادي، وبوجه أخص من الانحطاط السياسي. ذلك أنه لم يكن يوماً عند هذه الدرجة من التحلّل والاهتراء الطائفيين، ليس فقط في حياته السياسية بل كذلك في وعي غالبية شعبه، والجزء الأكبر من القوى المسيطرة فيه. وهو ما ينذر بمستقبل قاتم في حال بقي هذا الواقع في مساره الحالي.
إن اليسار، وبرغم أزماته السياسية والتنظيمية المديدة، يبقى الأمل لقيادة مشروع إخراج لبنان من مأزقه الراهن. ويكاد يمثّل – ولو بشكل كامن – الأداة الأساسية المتبقية لإعادة توحيد الشعب والمجتمع في لبنان ووقف انحداره إلى الهاوية، وصولاً إلى قيام دولةٍ ومجتمعٍ علمانيين ديمقراطيين تسودهما مباديء الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان وحماية الطبيعة، بصورة فعلية وليس فقط نظرية. وبقدر ما يجري تقّبل هذا التحدي بنجاح، فإن من شأن ذلك أن يفتح الطريق واسعةً نحو دورٍ جديٍ لهذا اليسار بالذات، ليس فقط في لبنانٍ متعافى، بل كذلك في عالم عربي متعافى هو الآخر، ومتحرر، وديمقراطي.