صفحات العالمميشيل كيلو

خصخصة الحرب!

null
ميشيل كيلو
ترفض دول عربية كثيرة خصخصة اقتصادها، كي لا تفقد بقرة حلوبا يسمونها القطاع العام وهو أداة منظمة لنهب المجتمع وتمويل طبقة الدولة السائدة، من تحت الطاولة ومن فوقها في آن معا .
وترفض دول عربية كثيرة خصخصة الخدمات وتتمسك بحقها في تقديمها، لكونها وسيلة إثراء مشروع وغير مشروع من طراز فريد، وأداة متشعبة متفرعة لسرقة ما بيد الناس من مال قليل، بذريعة قيام الدولة بتمويل وتنمية خدمات تتوقف عليها، بمعنى الكلمة الحرفي، حياة البشر: ذكورا وإناثا.
في مقابل هذا التمسك بما هو عام، أي بما يتصل بالدولة أو بالسلطة، برزت في السنوات الأخيرة ظاهرة جديدة هي ‘خصخصة الحرب’، التي لم تعد شأنا رسميا أو دوليا، وليست بحاجة إلى جيش منظم وإدارة عسكرية متخصصة وتمويل رسمي يأتي من موازنة معلنة أو سرية، ولا ترتبط بما أسماه علماء السياسة ‘احتكار العنف من قبل الدولة ‘باعتبار أن هذا الاحتكار هو السمة الرئيسية، التي تميزها عن سائر المنظمات المنضوية تحت جناحها، وتنشط داخل مجال سيادتها. يكفي اليوم أن يزعل شيخ قبيلة أو عشيرة في مكان ما، حتى يعلن الحرب على الدولة. ويكفي أن يغضب رئيس حزب حتى يأمر أنصاره، مهما كانوا قلائل، بإعلان الحرب على الدولة.
ويكفي أن يستاء فقيه أو مجتهد من تدبير رسمي، أو من مقالة كتبها مثقف ما، حتى يعلن النفير العام ويطلق رصاصة الحرب الأولى ضد الدولة أو من لا يشاركونه معتقداته، فكيف إذا اختصمت طائفتان أو سلطتان شقيقتان في بلدين تضمهما رابطة العروبة المقدسة، إنها ستكون عندئذ الحرب العوان، التي قالت العرب إن أولها كلام، فهي واقعة منذ داحس والغبراء في ديارنا المفعمة بالأخوة والمحبة، وهي في أوجها، على مر الأيام وكر الدهور، مخصخصة يقدر كل من هب ودب إطلاق شرارتها أو الانخراط فيها، مقابل أجر أو بدون أجر، نشنها نحن عرب هذا الزمان بعضنا ضد بعض، بينما ينعم عدونا بالسلام الذي نمنحه إياه، نحن الفرسان على بعضنا، الجبناء الرعاديد حياله، رغم أنه يحتل أراضينا منذ نيف وأربعين عاما، فلا نجد من وسيلة لإجلائه عنها غير الحروب التي نديرها بيننا، لحسم معارك لم يبق فيها صواب أو ضلال، ثورية أو رجعية، لا عجب أنها تغرق سفننا، وأنها جعلت العدو يتفرعن، حتى باتت المطالبة بمواجهته تعد في نظر حكومات عنترية عديدة خيانة وطنية وتوريطا.
تنتشر ‘خصخصة الحرب’ انتشار النار في الهشيم، وتشمل العراق واليمن والصومال والمغرب العربي والصحراء الغربية وفلسطين ولبنان … والحبل على الجرار، وليذكر لي أحد بلدا عربيا واحدا يضمن قادته عدم نشوب الحرب بين أبنائه أو ضد سلطته في أية لحظة. في هذه البلدان جميعها، توجد حروب خاصة، حروب قطاع خاص، يحملها على أكتافهم مرتزقة هنا وموتورون هناك، مظلومون هنا ومضللون هناك، غارقون في الجهل والفقر هنا وفي الخديعة والثروة هناك. والمفارقة أن الجيوش الحاكمة والمتخمة، التي لا تتوقف آلة الكذب الدعائي التابعة لها عن الإشادة بقوتها ودورها ووطنيتها، هي إما مساهمة في هذه الحروب، مباشرة أو بالواسطة، أو عاجزة عن إيقافها. إنها مساهمة، حيث توازنات السلطة والقوة القائمة لم تعد قادرة على إدامة النظام، فلا بد من تدابير استثنائية للإبقاء عليه، منها ‘خصخصة الحرب’. وهي عاجزة لأنها جيوش طواويس تزهو بريشها وتخاف الحرب، ولو كانت غير ذلك، وطنية وقوية حقا، لما قبلت بما لحق مجتمعاتها من ظلم، ولما سكتت على الاحتلال الصهيوني لفلسطين، ولكرست جهودها لتحرير الأراضي العربية التي احتلت عام 1967، ولما ارتضت بالمذلة التي يسمونها مفاوضات السلام والتسوية السلمية، ولجنبت العرب ذل سلام يتسولونه من الغاصبين الصهاينة، ولأجبرت العدو، في ميادين القتال، على الانسحاب من الأرض العربية وهو صاغر. لكنها جيوش غير محاربة. ولو أخذ المرء اليمن كمثال، لوجد أن أسماء المنفخة، التي يطلقها النظام على الوحدات المكلفة بحمايته، مثل ‘قوات العمالقة’ و’الوحدات الخاصة’ و’المغاوير’، و’رجال الموت’ … الخ، لم تنفعه كثيرا في القتال ضد ‘التمرد’ الحوثي، وهو حرب قطاع خاص يشنها رجل اسمه الحوثي على السلطة، أو تشنها السلطة عليه، لا فرق، وأن هذه الوحدات لم تقاتل أحسن من جيش المشاة، المهمل والجائع غالبا، الذي يعتبره دهاقنة حرب الحركة والحرب الصاعقة من قادة الجيوش العربية سقط متاع لا مكان له في الحروب الحديثة، يضم بصورة أساسية المواطنين الناقمين على نظامهم، وغير الراغبين في خوض حروب ليسوا قانعين بضرورتها، إن نشبت ضد إسرائيل مرة، فإنها تنشب ضد ‘الأشقاء’ العرب مرات ومرات. ‘يطح’ جيش اليمن و’ينح’ منذ ثلاثة أسابيع، دون جدوى. وكلما أعلن أنه حقق انتصارا محدودا، دون أن يقدم أي دليل يؤكد ذلك، نشر الحوثيون صورا موثقة تظهر دباباته المحروقة ومدافعه المدمرة وجنوده الأسرى.
وهذا لعمري أمر خطير إلى أبعد حد، يؤكد أن ‘خصخصة الحرب’ بلغت حدا يفوق قدرة الجيوش على حسمها، سواء ببطء أم بشيء من السرعة.
والحق، إن ما يحدث في اليمن يشجع أية فئة أو أقلية على خوض حرب ضد دولتها، إذا ما نظمت نفسها وعبأت ‘شعبها’ على أسس ما قبل وطنية / ما قبل دولوية، وعملت كسلطة نقيض أو كدولة مضادة، على أسس قبلية أو مذهبية أو طائفية أو جهوية أو مناطقية … الخ، نالت دعم جهة خارجية ما من الجهات الكثيرة المتصارعة في المنطقة وعليها.
ولا يستغربن أحد أن تنشب حروب كهذه في البلدان العربية التي لم تعرفها بعد، ما دامت جميع شروط نشوبها متوفرة فيها أيضا: من الانقسامات المجتمعية والعقائدية والمذهبية والمصلحية والجهوية والطائفية، إلى الحقد الأعمى المتبادل بين السلطة والشعب، إلى الصراعات العدائية مع الجيران الأقربين والأبعدين، التي فشلت جميع الوسائل السلمية في حسمها، ويبدو أنها لن تحسم بغير السلاح.
مع ‘خصخصة الحرب’، تظهر الأوضاع العربية على حقيقتها، ويبدو جليا إلى أين أوصلتنا مرحلة سياسية كرستها هزيمة حزيران، أقلعت القوى السائدة فيها عن مواجهة العدو المحتل، وخصت مجتمعاتها بمعاملة تليق بالعبيد، فلم تترك لها من سبيل آخر غير مواجهتها وكأنها قوة احتلال خارجي. وبما أن المجتمع العربي يفتقر اليوم ـ للأسف ـ إلى رابط جامع يوحد مواقف مكوناته من السلطة، فإن هذه تميل أكثر فأكثر إلى مجابهتها بالعنف وبجماعتها المغلقة، التي لا تعدم أن تجد دعما عربيا أو إقليميا أو دوليا، يزودها بما تحتاج إليه من سلاح غالبا ما يكون معادلا لسلاح الجيش أو متفوقا عليه، فتنشأ عندئذ ظاهرة فائقة الخطورة، ربما كان فيها نهاية الدول والمجتمعات العربية الراهنة ؛ هي ‘خصخصة الحرب’، التي تتمدد من بلد عربي إلى آخر، ومن فئة وقبيلة وطائفة إلى أخرى، بينما تقف الجيوش والدول عاجزة، إما لأن مؤيدي الحرب القوميين والإقليميين والدوليين يريدون نشر الفوضى لدى غيرهم سبيلا إلى استقرار نظمهم وأوضاعهم وتحقيق مصالحهم، أو لأن أطرافا قومية وإقليمية تجد نفسها محشورة في دوامة تبتلع قدرات الأضعف فالأقوى منها، إلى أن يتغير الحال وتزول دول وتظهر أخرى، مع ما يصاحب ذلك من عنف يلتهم الأوطان، ويقلص عدد الشعب، ويؤدي إلى طرد أقسام واسعة منه إلى خارج وطنه، وسط ‘صوملة’ عامة تعيد الوطن العربي إلى عصر يصعب على أي عقل أ يتصور اليوم ملامحه الفظيعة.
ذلك، إن حدث ـ لا سمح الله ـ سيكون انتقام التاريخ من نظم استبدت بالناس، وفشلت في قهر عدوها، فانثنت تقهر وتدمر شعوبها وأوطانها، وأوصلتها إلى حال لا يجدي معها الكلام والاعتراض السلمي، وتنفع كثيرا، ووحدها، كما يبدو، الحروب الخاصة، التي تخوضها السلطة ضد الناس، أو الناس ضد السلطة، وصولا إلى العصر الذي تخوفنا من قدومه: عصر نهاية العرب، الذين يأكلون بعضهم بعضا منذ سنوات!.
أي خيارا يترك لنا هذا الخطر، وأية قدرة لدينا على مواجهته بنجاح؟
هذا هو السؤال الذي يطرح نفسه، والذي يجب أن نجد له حلا عمليا، نشارك جميعنا فيه، لأننا معنيون بالرد عليه، ما دام أي حل ذهني أو أقلوي لا يجدي نفعا.
هل نحن مستعدون لخوض هذه المعركة الأخيرة، التي يتوقف على نجاحنا فيها، وهو احتمال ضئيل، منع اكتمال الكارثة النهائية، التي تعصف بنا، وتغطي أكثر فأكثر، وبسرعة عاصفة، وطننا العربي المهدد والعاجز؟

‘ كاتب وسياسي من سورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى