اقتصاد الفتنة السنيّة – الشيعيّة إلى كساد
جهاد الزين…
مبادرة العاهل السعودي، بالمصالحة مع الرئيس السوري في الكويت، بالمضمون الذي اعطاها اياه في خطابه، تطلق مرحلة سياسية جديدة في المنطقة ايا تكن حدودها التدريجية، وهي متدرجة فعلا. فعندما يعلن الملك عبدالله بن عبد العزيز في ذلك الخطاب “المساواة في المسؤولية” عن الوضع السلبي للعلاقات العربية – العربية بينه وبين الذين يريد ان يتصالح معهم، فهذه الصياغة لا تترك مجالا للشك بأن قرار الملك السعودي قرار حاسم حتى لو كانت الملفات اللاحقة للبحث ملفات معقدة بل حتى متوترة.
المهم هنا ان “اللوبي” المستفيد، بل الذي استفاد في بعض المشرق العربي، من اشتداد الحساسية السنية – الشيعية، الحساسية التي طبعت السنوات الثلاث بل الاربع المنصرمة في المنطقة وتأسست حولها مصالح فردية و”مؤسساتية” كبيرة جدا من بغداد الى بيروت – وهو “لوبي” متعدد المواقع المتصادمة – ان هذا “اللوبي” سيجد صعوبة طبعا في “قبول” الانعطاف، او بداية الانعطاف الذي يعلن عنه خادم الحرمين.
هناك في خطاب الملك عبدالله، على اختباريته السياسية بطبيعة الحال، ما يمكن ان يعيد التذكير بسمة خاصة للنظام السعودي، على الاقل في النصف الثاني من القرن العشرين. هذه السمة هي قدرته على القطع مع صراعات كبيرة وحتى شرسة ايديولوجيا وسياسيا وغير مباشرة عسكريا يكون في معمعة خوضها ثم ينتقل تماما – ولو تدريجا – الى مرحلة وفاقية جديدة تبعا لتقييمه لموازين القوى الدولية والاقليمية. فبعد العام 1967، وبعد سنوات من مواجهة بينه وبين النظام الناصري المصري في اليمن وعلى اليمن، استُخدِم فيها السلاح الايديولوجي: “الحلف الاسلامي” السعودي مقابل “القومية العربية” الناصرية، خلال الانقسام بين الملكيين اليمنيين المؤيدين للرياض والجمهوريين المؤيدين لمصر او المحميين بالجيش المصري… حصل التفاهم بين الرئيس عبد الناصر والملك فيصل على الانسحاب المصري من اليمن في مقابل القبول السعودي بالنظام الجمهوري في الشمال، لكن في جو اقليمي كانت تسيطر عليه نتائج حرب 1967، وما ادت اليه من صدمة نوعية للطموحات الاقليمية للناصرية… انها مرحلة، يجب ان نتذكر، انها تحولت بعد العام 1970 الى حلف مصري – سعودي لا يزال متواصلا باشكال عديدة الى… اليوم!
لقد سقط “اقتصاد” كامل من التمويل المالي مع انتهاء الصراع المصري – السعودي على اليمن. اليوم… ثمة “لوبي” متعدد المصلحة، على الضفتين، لن ينظر بارتياح الى احتمالات تطور المبادرة السعودية.
صحيح ان المصالحة السورية – السعودية لا تختصر وحدها العامل الاقليمي في المنطقة بوجود التنافس السعودي – الايراني كما بوجود الدور الاميركي المباشر في العراق، الا ان هذه المصالحة تبدو ايضا شديدة الاهمية في المساهمة السياسية بإطفاء جذوة الحساسية المذهبية التي تواكب اساسا العلاقات الايرانية – السعودية.
لكن مبادرة العاهل السعودي لا تأتي من دون مقدمات، بل من دون تحولات سبقتها.
1 – هناك اولا “المصدر” الاصلي الذي جعل هذه الحساسية المذهبية السنية – الشيعية تتحول الى مادة صراع واستقطابات خطيرة بل احيانا دموية. انه التحول الذي حصل في العراق. فبدون العراق، بما يمثل من اكبر كتلة شيعية عربية في المنطقة، والمعادلة الجديدة للدولة العراقية، ما كان ممكنا ان تدخل المنطقة في مناخات كهذه بعد العام 2003، اي ان تتحول الحساسية المذهبية الى خط اساسي من خطوط الصراعات الاقليمية والدولية والمحلية.
لقد حصل تحول… ما زال مستمرا نحو خفوت الصراع المذهبي اعتبارا من نهاية العام 2006، مع انتقال الصراعات الى داخل كل طائفة من الطائفتين السنية والشيعية في العراق، وهذا لحسن الحظ تواكب مع تغيير في “الاستراتيجية الاميركية” ادى الى تشجيع الجيش الاميركي للصراعات بين السنة العراقيين انفسهم مع رعايته لـ”مجالس الصحوة” ضد “القاعدة”، كما تشجيعه للصراعات بين الشيعة لمواجهة ميليشيات “مقتدى الصدر” الواسعة الامتداد في الجنوب والاكثر ارتباطا يومها بايران.
اذاً، “الحروب الاهلية” بين السنة أنفسهم، وبين الشيعة انفسهم، هي التي اطلقت اول تراجع في حدة الحساسية السنية – الشيعية، مما انعكس على المنطقة المحيطة، وإن كان ليس بسرعة، انما اسس هذا التحول لتضاؤل “مناخ” اجتماعي متوتر سني – شيعي لا يمكن ان يعيش طويلا عل المستوى السياسي… من دون العراق.
2 – ما يساعد ايضا وبشكل اساسي على تراجع هذه المادة المذهبية للحرب الاهلية هنا أو هناك، هو تراجع امكانات بناء اقتصاد حرب اهلية كهذه مع تراجع، بل انهيار، مداخيل البترو دولار فكيف اذا كان هذا الانهيار مترافقا مع كارثة تلاشي مداخيل لدول ومجتمعات النفط بمئات المليارات في ظل الازمة المالية العالمية، الى حد ان مسؤولا خليجيا كبيرا اطلق رقم 2500 مليار دولار كرقم لمجموع خسائر دول الخليج وحدها… فماذا عن دول اخرى كايران؟
علمتنا التجربة اللبنانية ان الحروب الاهلية لا تزدهر بدون فائض نفطي. كان ذلك عام 1975 بالتواكب مع الفورة الاولى. وكان ذلك ايضا بعد 2003 في العراق، و”ارهاصات” الوضع اللبناني 2006 – 2008 مع الفورة النفطية الثانية.
3 – التحول الكبير المنتظر في سياسات الادارة الاميركية مع وصول الرئيس باراك اوباما الى السلطة والتغيرات الاكيدة التي سيسعى اليها عبر الانسحاب من العراق كما محاولة اعادة الاعتبار لديبلوماسية الحوار مع “الاعداء”.
هذا يعني ايضا ان دول المنطقة تعيد حساباتها “الصدامية” نحو حسابات تحاورية ايضا. على الاقل فتح الطريق في هذا الاتجاه وفي اللحظة الملائمة. وهل من “ملاءمة” اكثر من حدوث “مصالحة” في هذا الاتجاه قبل 24 ساعة بالضبط من تنصيب اوباما.
4 – لا مجال الآن لاستعادة كل عوامل السنوات الاربع التي كشفت مواقف لم تكن في الحسبان على الاقل لدى “الصقور المذهبيين”، او لدى “رجال اعمال” الفتنة المذهبية في بيروت وبغداد… وغيرهما.
انه الموقف التركي، الذي بقي يعمل في الازمة، خصوصا المذهبية، من منطلقات مصالح دور “غير مذهبي” في المنطقة لم تستطع اوساط عربية عديدة فهمه نتيجة سوء فهم لطبيعة الدولة التركية المعاصرة والعناصر الحداثية الاقتصادية والسياسية التكوينية لاستراتيجيتها… مما يؤدي الى استحالة انخراطها الضيق الافق في صراع مذهبي حتى لو كانت هي الدولة – الامة الوريثة للامبراطورية المسلمة السنية الكبرى في المنطقة.
5 – يجب في هذا السياق، لو من باب رصد النتائج التي تتحول الى مسببات تأسيسية للانفراج المذهبي، الاشارة الى “اتفاق الدوحة” الذي اعاد احياء الحكومة اللبنانية الموحدة، كاتفاق “ما بعد مذهبي” ولو بين قوى طائفية، هي موجودة اصلا، بحكم تكوين النظام الطائفي اللبناني. كان اتفاق الدوحة اتفاقا اقليميا – دوليا يفتح عاصمة عربية اخرى على تسوية “ما بعد مذهبية”، وكان للسعوديين والسوريين الدور الكبير فيها (كما للايرانيين والفرنسيين… ومن بعيد للاميركيين).
حصل خلال الحرب الاسرائيلية على غزة حدث ذو دلالة مهمة بدا وكأنه – بصورة غير مباشرة – “مكافأة” من “حماس” و”الاخوان المسلمين” المصريين – اي القيادة العالمية للاخوان – الى النظام السوري على تحالفه الوثيق معهم. انه بيان “الاخوان المسلمين” السوريين – فرع لندن الذين يتزعمهم علي صدر الدين البيانوني.
الاستقرار السوري الداخلي ثابت ولم يظهر ان احدا قادر الآن على تهديده. لكن دلالات بيان “مجموعة لندن”… ذات معنى مهم لخلط الاوراق… والحساسيات…
كل هذه المقدمات – التحولات، تأتي المبادرة الرصينة – بل الجليلة قياسا بهدف وأد الفتنة – التي قام بها العاهل السعودي لتشكل ذروتها… وبدايتها في آن واحد؟… تجار الفتنة في مأزق…