حسين الشيخ من عزلته: أدرب ذاكرتي عـلى عدم النسيان منذ 19 عاما
´
حاوره: هاشم الجحدلي
حسين الشيخ شاعر وصحافي سوري يعيش في بلاد الاغتراب قرب القطب الشمالي في فنلندا، قصيدته مترعة بالدفء والحنين والعزلة، ولعل العزلة هي الكلمة الأكثر تعبيرا عن تجربته، عزلة بعيدة، قاسية، باردة. ديوانه الأول كان تعبيرا عنها وسماه «وحدها العزلة» صدر عن دار ميريت بالقاهرة عام 2006، كتب حسين الشيخ في العديد من الصحف والمجلات الثقافية، أصدر المجلة العربية الأولى في فنلندا بجهد شخصي بحت، التي صدر منها تسعة أعداد وسماها «أرابيسك»، إضافة لتجربته الورقية فهو مختص ببرمجة الكمبيوتر ويدير ويشرف ويصمم العديد من المواقع الناجحة، مثل موقع «صفحات سورية» الذي يعنى بالهم الثقافي والسياسي في سورية، وموقع بيت الشعر الذي يقدم فيه نماذج من الشعر والنقد السوري. ويعد أحد الشعراء القلائل في فنلندا الذي أنتج التلفزيون الفنلندي فيلما قصيرا عن تجربته الشعرية، حسين الشيخ كان في زيارة إلى المملكة والتقته«عكـاظ» في هذا الحوار:
– سؤالي الأول يتعلق بهذه الرحلة الطويلة من سوريا الى فنلندا، من الدفء إلى البرد القارس، من الوطن إلى الغربة، كيف استطعت أن تراوغ الحنين الذي يبدو في ديوانك الأول عميقا، قلقا، هل العيش في المنفى ممكنا؟
** الحنين كلمة لازمتني طوال سنين عيشي هناك، 19 عاما كنت أدرب الذاكرة على عدم النسيان، في كل حين كانت التفاصيل تتدفق على الطاولة: الأصدقاء، الأهل، الأماكن، القطارات التي تتأخر عن مواعيدها، أصوات البائعين في السوق الذي كان يلاصق بيتي، الفوضى، الكتب، قصص العشق الأولى، تفاصيل هائلة في الاتساع والتنوع، في كل حين كنت أعيد جمع كل هذه التفاصيل باهتمام الجراح وعناية الصائغ، أنفض عنها الغبار والنسيان، أعيد التألق إلى ثناياها، أشجعها على البقاء فترة أطول، أغني لها، وأكتب عنها، أحكي لاولادي عنها، وأنام، ربما لم أستطع حتى هذه اللحظة العيش في المغترب، رغم أن العيش هناك له ميزاته التي لا تستطيع إلا أن تصغي لها، فالعالم هناك مختلف تماما، هناك حيث القانون يسود على الجميع، والنظام الدقيق المتوازن يسري على كل لحظات الحياة، هناك تتعلم معنى أن تكون إنسانا بجدارة، تختلط ثقافتك الأم مع ثقافات العالم الغنية، تتعلم التسامح وقبول الآخر كما لم تتعلمه من قبل، وحين تقرأ بلغة أخرى يتكون لديك إحساس أنك تمتلك العالم، ربما استطيع استعارة قول محمود درويش في قصيدته «طباق» التي أهداها لإدوارد سعيد ويقول فيها:
«أنا من هناك
أنا من هنا
ولست هناك ولست هنا
لي اسمان يلتقيان ويفترقان
ولي لغتان نسيت بأيهما كنت أحلم
أنا ما أنا
.. أنا اثنان في واحد».
هناك تؤرقك أسئلة الهوية، من نحن ومن أين جئنا، وفي نفس الوقت تريد معرفة المجتمع الجديد وأن تتأقلم معه، تستوعب معارفه وآدابه، ومن هنا جاءت فكرة أن أنشئ مجلة في المغترب باللغة العربية سميتها «أرابيسك» صدر منها تسعة أعداد حاولت فيها أن أجيب على تساؤلات المنفى والهوية، وأجريت فيها العديد من الحوارات المهمة مع مفكرين وأدباء مثل مكسيم رودنسون، أدوارد سعيد، فاطمة المرنيسي، نصر حامد أبو زيد بالإضافة إلى كتاب وشعراء فنلنديين، كنت أريد لهذه المجلة أن تكون بمثابة جسر الحنين الذي يؤرقني طوال الوقت، كنت أتمنى أن تستمر تلك المجلة التي توقفت بسبب توقف التمويل من اتحاد طلبة فنلندا. وحين درست الماجستير في الدراسات الشرقية في جامعة هلسنكي أيضا كتبت أطروحتي حول هذا السؤال المقلق، سؤال الهوية. هناك يتسنى لك أن تكتب بحرية دون الخوف من آلاف حقول الألغام التي تحيط بثقافتنا العربية.
القارئ الغامض والشللية
– أنت شاعر مقل ديوانك الأخير «وحدها العزلة» صدر في 2006 في القاهرة وتناوله النقاد بالترحيب، لماذا تأخرت في النشر، ما هي مصادر إلهامك، هل استقبله النقاد في فنلندا بالترحيب أيضا؟
** بالفعل أنا مقل في نشري، ربما بعد هذه السنين من الكتابة لا زلت متوجسا من قارئ غامض، لا زلت أحسب له طويلا، في لحظة غضب في الماضي أتلفت ديوانين جاهزين للطباعة، ربما كان ذلك قرارا صائبا، فعندما تنشر القصائد فأنك تزيلها عن كاهلك، تصبح بمعنى أو آخر ملك للقارئ الغامض الذي تكلمت عنه، يصبح ملكية عامة، وحين يتحدثون عنه تحس انه عمل ليس لك، وهو لك في نفس الوقت، بمعنى تتحمل مسؤولية كتابته، لكنه ملك للآخرين الذين سيقرؤونه بالطريقة التي تحلو لهم، سألني هذا السؤال معد الفيلم القصير الذي قام التلفزيون الفنلندي بإنتاجه ويتناول تجربتي في الكتابة كشاعر باللغة العربية أعيش في منفى بعيد يتكلم غير لغتي، لماذا أبقي قصائدي حبيسة في الأدراج، لماذا لم يترجم شعري إلى اللغة الفنلندية مثلا. كان درج طاولتي آنذاك مليئا بقصائد ناجزة وأخرى قيد التعديل، عالم النشر باللغة العربية مترع بظواهر غير صحية بالنسبة للكتابة، فهناك الشللية، وهناك مزاج مسؤول الصفحة الثقافية، وهناك حسابات أخرى لا تتعلق بجوهر العمل الإبداعي، لا أريد النشر هناك حيث القصائد مرماة بإهمال، يقرأها قراء كسلون، ومن ثم ينسونها، لذلك اعتقد اليوم أن النشر على الإنترنت أهم وأجدى من النشر في صحفنا التي غالبا ما تنشر لنفس الاسماء وتعيد سرد نفس الرحلات التي قام بها مسؤولوها الثقافيون، أنشأت لذلك الغرض موقع «صفحات سورية» الذي يعنى بالهم الثقافي والسياسي السوري، ووجدت أنه بإنشاء هذه الصفحات التي تنهض على أسس من الحرية والتعددية واحترام الآخر، يمكن المساهمة في الحراك السياسي والثقافي السوري. صفحات تحاول نشر ثقافة الديمقراطية واحترام التنوع الفكري والسياسي. مجموعة تفتح قلبها للجميع. وأيضا جاء موقع بيت الشعر السوري الذي يقدم معلومات غنية عن كل الأجيال الشعرية في سورية وان كان لازال تحت الإنشاء. بالنسبة لترجمة شعري إلى الفنلندية فالمشروع قائم والمترجمة التي نقلت بعض أعمال نزار قباني إلى الفنلندية تترجم ديواني الآن وإن شاء الله سينشر هذه السنة. بعض القصائد التي ترجمت منه ونشرت بالفنلندية لاقت صدى طيب هناك.
البرمجة والشعر والصحافة
– علمت أنك مختص بالبرمجة، أليس ذلك الاختصاص بعيدا بعض الشيء عن الشعر والصحافة؟
** البرمجة أيضا نوع من الإبداع، المبرمج في كثير من الأحيان يسلك سلوك الشاعر نفسه، فالخلق عنده يتطلب ظروفا ووقتا ومزاجا صافيا، البرمجة تحتاج الى ذهن صاف، في البرمجة هناك مبدعون حقيقيون وآخرون مقلدون كما الشعر، لكنني عندما اخترت البرمجة كمهنة من العيش لم يكن ذلك ما أفكر به، لا بد للشاعر من مهنة يعيش منها، في بعض الأحيان تساعدك الكلمات على أن تعمل أيضا، عملت في بعض الاحيان ككاتب مبدع للكثير من الدعايات والإعلانات، وخصوصا الاجتماعية منها، اعتقد أن الشاعر يستطيع إقناع الناس بالسلع والحاجات ان استخدم لغته الصافية المليئة بالمفاجآت.
طبيعية هائلة الجمال
– في شعرك ثمة عزلة تتكرر في أماكن مختلفة من الديوان، حتى أنها لم تترك العنوان من تأثيرها، ما قصة هذه العزلة؟
** في شمال فنلندا هناك ظاهرة طبيعية هائلة الجمال، في أوقات معينة من السنة يكشف الأفق عن ألوان جميلة هائلة في الروعة والتنوع، وتكاد تبلغ وسط السماء من علوها، يفاجئك الأزرق والبرتقالي وألوان أخرى أعجز عن تسميتها، تتوالى أمام حيرة عينيك، كنت هناك في وقت ما، ورغم ذهولي لتلك الظاهرة لكنني تلفت فلم أر سواي، أدركت أن الجموع في بعض الأحيان لا تعني سوى عزلة عميقة، وخصوصا لمن مثلي لا يكاد يفارقه الحنين والاشتياق. تعيش في بلد يوفر جل كهربائه من الطاقة النووية، بلد متطور على كل الأصعدة، بلد جميل يحتوي آلاف البحيرات ومليارات من الأشجار التي تشكل غابات حقيقية، بلد مثالي بكل المقاييس، لكن هناك وحدة عميقة تنهش روحك شيئا فشيئا، كنت أحلم يوما ما بالعيش وسط غابة، وهكذا كان فالبيت الأول في فنلندا الذي سكنت به كان وسط غابة، لكنني في النهاية شعرت بالحيرة والغضب لتدخل الأشجار في حياتي، اشتريت ستارة مليئة بالأشجار، وأسدلتها لاتفرغ إلى عزلتي وأنا أسمع حوار الأشجار بين الستارة والغابة، العزلة أيضا في فنلندا طبيعية بالنسبة لأحوال البلد ففي شمال فنلندا غالبا ما يكون بيت أقرب جار إليك 15 كيلومترا، أليست هي الظروف الملائمة لكتابة قصيدتك.
مشاريع مستقبلية
– ما هي مشاريعك المستقبلية؟
** أجري التعديلات الأخيرة لديواني الشعري الثاني، أكتب رواية رغم خوفي المستمر والدائم من كتابة الرواية فالتحول من كتابة الشعر إلى كتابة الرواية نقلة كبيرة، عليك أولا أن تخرج من لغة الشعر إلى لغة الرواية اليومية، يجب أن تتخلص من أسلوب كتابة القصيدة البرقي الى كتابة متأنية متفحصة لحياة ناس مختلفين عنك وربما لا تعرفهم، أعيد كتابة كل صفحة من الرواية مرارا، ربما لن ترى النور هذه المحاولة ولكن أنا غالبا ما أقبل تحدي الفرص الصعبة التحقيق، هذا أيضا هو نزق الشاعر المترف، نزق يلتقط الكلمات بسرعة البرق ويصنع لحظة من عالم متغير، الراوي يحتاج الصبر والتأني والقراءة المستمرة والكتابة الدائمة، أتمنى أن أنجح في كتابة رواية ليست شعرية وأبقى أيضا كشاعر يكتب تلك اللحظات القليلة من إشراق معتزل.
http://www.okaz.com.sa/okaz/osf/20090123/Con20090123254177.htm