القوة ” الذكية ” للسياسة الخارجية الأمريكية
الدكتور عبدالله تركماني
لم يكن هناك خلاف بين المنتقدين لوزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون على أنها شخصية جادة وقوية، وتتمتع بالذكاء والمثابرة، ولديها معرفة بالعالم وبالسياسة الخارجية، وأنّ الرئيس أوباما اختارها لتمتعها بهذه الخصائص، ولثقته بأنها ستعيد لوزارة الخارجية بريقها الذي يساهم في تقديم وجه أمريكا الحقيقي.
وفي الحقيقة، لا يبدو أنّ هناك اختلافا بين رؤية كل منهما في السياسة الخارجية، فكلاهما أقرب إلى ما يسمى ” المدرسة الواقعية ” في السياسة الخارجية، التي تقوم فلسفتها على التعامل مع الواقع كما هو، وليس أن تفرض عليه الإدارة الأمريكية ما تريد، بكل الوسائل بما فيها القوة، وهي المقاربة التي أخذت بها حكومة الرئيس بوش.
فهل الوزيرة الجديدة قادرة على إعادة رسم علاقات الولايات المتحدة الأمريكية مع العالم بشكل فيه من العدل قدر ما فيه من التوازن، علاقات تحفظ حقوق وكرامة الشعوب وتحقق المصالح الأمريكية العليا ؟ وهل هي مؤهلة لانتهاج سياسة تعيد ثقة العالم بالولايات المتحدة وترسم صورة جديدة لها بديلة عن الصورة البشعة التي رسمتها إدارة الرئيس بوش ؟
لقد قالت الوزيرة هيلاري كلينتون، في واحدة من أشد عبارات النقد التي وجهتها إلى إدارة الرئيس بوش ” بلادنا صارت مسخرة لحلفائنا، ولم نجد على المسرح الدولي سوى الرفض والاستنكار “.
وطالما أنها أصبحت وزيرة للخارجية الأمريكية في عهد الرئيس الجديد أوباما، وطالما أنها هي التي سوف ترسم السياسات الأمريكية، أو سيكون لها الباع الأطول تجاه المنطقة، فإنّ ذلك يستدعي التوقف أمام أجندتها السياسية بلا أوهام. فقد غابت لهجة التحدي والخطاب الأيديولوجي، الذي طبع السياسة الخارجية الأمريكية في الأعوام الثمانية الماضية، عن شهادتها أمام الكونغرس. وأطلقت مفهوم استخدام ” القوة الذكية ” في السياسة الخارجية لبلادها، والتي تستند إلى الآليات البراغماتية والديبلوماسية، متعهدة ” نمطاً مختلفاً ” للتعامل مع إيران، و ” عملاً دؤوباً ” لإنعاش عملية السلام في الشرق الأوسط وتحقيق ” الطموحات المشروعة للفلسطينيين “، و” ضمان مصالح الحلفاء في المنطقة “.
ومما قالته الوزيرة ” فيما نركز على العراق وباكستان وأفغانستان، يجب أن نتبع نهج القوة الذكية في الشرق الأوسط “، وفي شكل ” يتعامل مع حاجات إسرائيل الأمنية وفي الوقت نفسه مع الطموحات السياسية والاقتصادية والسياسية المشروعة للفلسطينيين “. وفي أول تعليق للإدارة الجديدة على محرقة غزة، أكدت كلينتون أنه ” لا يمكننا التخلي عن السلام ” وأنّ الرئيس أوباما ” يفهم ويتعاطف مع رغبة إسرائيل في الدفاع عن نفسها من صواريخ حماس ” إنما في الوقت نفسه ” نعي ونتذكر الثمن المأسوي للنزاع في الشرق الأوسط والذي يدفعه مدنيون فلسطينيون وإسرائيليون “. وأشارت إلى أنّ ما يجري إنما ” يزيد إصرارنا واستثمار كل جهد في البحث عن اتفاق سلام نهائي يأتي بالأمن لإسرائيل وعلاقات إيجابية مع جيرانها “.
كما التزمت بموقف الرئيس أوباما حول بدء انسحاب القوات الأمريكية من العراق، بحلول شهر يونيو/حزيران المقبل ونقلها إلى أفغانستان، مشيرة إلى أنّ الرئيس ” تعهد بإنهاء الحرب في العراق بشكل آمن، مع تبنّي استراتيجية واضحة في أفغانستان من شأنها تقليص حجم التهديدات وتعزيز فرص الاستقرار والسلام “.
وفي موازاة حديث الوزيرة، حذر رئيس أركان الجيوش الأمريكية الأدميرال مايكل مولن من ” العسكرة المتزايدة ” للسياسة الخارجية الأمريكية، واقترح إيجاد مقاربة مدنية للمشاكل الدولية. وقال في كلمة ألقاها أمام مركز ” نيكسون ” للبحوث ” يجب أن نظهر مزيدا من الإرادة لكسر هذه الحلقة، والاعتراف بأنّ القوات المسلحة لا تشكل بالضرورة الخيار الأفضل للإدارة “.
وهكذا، المشهد مهيأ لتحرك ديبلوماسي سريع ينطوي على رؤى جديدة للإدارة الأمريكية الجديدة، والسؤال الأهم، في هذا السياق، ما إذا كانت نتائج العدوان الإسرائيلي على غزة، ستساعد على تسهيل التعاطي الجدي مع المبادرة العربية للسلام أم أنها ستعزز ” قوى الممانعة ” في المنطقة ؟
ويبدو أنّ بداية تنفيذ المبادرة المصرية، المدعومة بالوساطة التركية الفاعلة بين الأطراف المعنية، قادرة على تأمين وقف إطلاق النار ضمن قواعد مراقبين دوليين، ربما أغلبهم من الأتراك، على حدود قطاع غزة لكن من داخله لا على الحدود المصرية، مقابل الانسحاب الإسرائيلي. مما يعني أنّ شكلا ما من أشكال التغيير يرتسم على الأرض، قد يكون ذلك، في حسابات الإدارة الأمريكية، هدفا مسبقا للانطلاق نحو التعاطي مع المبادرة العربية، وتهيئة المشهد الإقليمي لنظام أمن إقليمي جديد يكون فيه لتركيا دور مركزي.
تونس في 18/1/2009
كاتب وباحث سوري مقيم في تونس
(+) – نُشرت في صحيفة ” الوقت ” البحرينية – 22/1/2009