أسرار التحول التركي في المنطقة
نظام مارديني
دشن الأداء التركي القوي ضد العدوان »الإسرائيلي« على غزة، العودة من جديد إلى توازنات المنطقة بعد غياب طال نحو تسعة عقود من الزمن، عندما رسم توازن القوى الدولي في ذلك الحين، ممثلاً في اتفاقية سايكس ـ بيكو، حدود دولها المستقلة على أنقاض الدولة العثمانية. وليس من المصادفة أن تكون تركيا، وريثة العثمانية، قاسماً مشتركاً في لحظات المنطقة الفارقة لسبب جوهري مفاده أن تركيا تمثل واقعاً جغرافياً وتاريخياً واستراتيجياً.
هذه الوقائع أعادت تركيا إلى ذاكرتها التاريخية عندما اشتد ضغط هرتزل على آخر السلاطين العثمانيين عبد الحميد لبيع اراض فلسطينية لليهود، مستغلاً النزاع الأخير الذي كانت تعيشه السلطنة وتراكم الديون عليها، لم يتوان السلطان عبد الحميد في رفض بيع تلك الاراضي لانها ممتلكات إسلامية، وكان من تداعيات هذا الرفض الاسراع في اسقاط الامبراطورية وإطلاق رصاصة الرحمة على »الرجل المريض«.
بعد قيام الجمهورية التركية في العام ،١٩٢٣ عمل الرئيس الأول للجمهورية كمال مصطفى ـ أتاتورك (وتعني أبو الأتراك)، على إعادة صياغة السياسة الخارجية لتركيا بما يتناسب والتوجه العلماني الذي كان قد بدأ يشكل الدستور الجديد للبلاد مع ما يتوجب عليه ذلك من علاقات وثيقة بالغرب بعد أكثر من ٤٠٠ سنة من »العثمنة«.
وبعد الحرب العالمية الثانية وقيام الكيان »الإسرائيلي« في العام ،١٩٤٨ و الاعتراف التركي بهذا الكيان، وانقسام المجتمع الدولي إلى معسكرين، غابت المسألة الفلسطينية من أجندة النظام التركي الجديد، بل كان الميزان يميل دائماً لصالح المشروع الأميركي ـ »الإسرائيلي« على حساب علاقات تركيا بالعالم العربي والمسألة الفلسطينية خصوصاً، وقد استمر هذا التوجه حتى منتصف التسعينيات مع وصول زعيم حزب الرفاه الإسلامي نجم الدين أربكان إلى السلطة كرئيس للحكومة التركية، غير أنه لم يستمر في مهامه بسبب الانقلاب عليه بسبب توجهه المناهض للعلمانية، وبسبب توجهه الشرقي الذي كان يقوم على ترتيب علاقات تركيا مع محيطها العربي والإسلامي.
هذا التصادم الداخلي بين الاسلام السياسي والعلمانيين أفرز »العدالة والتنمية« من رحم حزب الرفاه، بقيادة الثنائي رجب طيب أردوغان وعبد الله غول، وبدا أن مسار الانفتاح نحو العمق الشرقي استكمل من جديد بعد انتخابات برلمانية اكتسح فيها الحزب الجديد الشارع التركي مما أهله إلى إيصال غول لرئاسة الحكومة في العام ،٢٠٠٢ برغم من وجود زعيمه أردوغان في السجن على خلفية القاء قصيدة اعتبرها العسكر مسيئة للعلمانية، وجاءت الخطوة الأولى للقيادة الجديدة في الزيارة التي قام بها غول إلى سوريا عام ٢٠٠٣ في إطار جولة شرق أوسطية له عشية الحرب على العراق. تبعتها خطوة ثانية برفض البرلمان التركي تقديم أي مساعدة للقوات الأميركية في احتلالها للعراق، ثم كانت الخطوة الثالثة في رفض حكومة أردوغان الدخول في أي تحالف عسكري أميركي ـ »إسرائيلي« ـ عربي (عرب الاعتدال) ضد إيران، وبعد ذلك جاء الاستقبال الرسمي التركي لرئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل في شباط ٢٠٠٦ ليؤكد تصميم القيادات الجديدة في تركيا على الانفتاح على محيطها العربي والإسلامي ومن دون أن تقطع الخيط الرفيع مع الحلف الأطلسي بتكويناته الأميركية الأوروبية، أو مع »إسرائيل«، بل بقيت أنقرة تتصرف على أساس كونها دولة إقليمية عظمى لها مصالح مع الغرب وذات بعد استراتيجي مع الشرق بعمقه، العربي والإسلامي.
في ضوء هذه الوقائع تابع المراقبون باهتمام بالغ، الحراك الدبلوماسي ـ السياسي والشعبي التركي ذا النبرة العالية ضد العدوان »الإسرائيلي« على غزة منذ ٢٧ كانون الأول الماضي، الأمر الذي دفع أردوغان للقيام بجولة شملت سوريا والأردن ومصر والسعودية، في محاولة منه للتخفيف من وطأة الانقسام العربي ـ العربي، والفلسطيني ـ الفلسطيني، والضغط على »تل أبيب« لوقف العدوان والتهديد بخسارة الأخيرة لصداقة تركيا، لا سيما بعد سيل من التصريحات أطلقها أردوغان ووزير خارجيته ضد قادة »إسرائيل« الذين خدعوا القيادة التركية كما أشار إلى ذلك أردوغان، وبعدما اعتبر العدوان جريمة ضد الإنسانية، مؤكداً بأن قادة العدوان لن يفلتوا من محاكمة التاريخ لهم، ومشيراً إلى دور »إسرائيل« في استفزاز حماس ودفعها للمواجهة كخيار وحيد بالنسبة لها عندما مارست سياسة الحصار والتجويع والقتل. مكرراً مطالب حماس المشروعة التي ستحملها تركيا إلى مجلس الأمن الدولي الذي نالت تركيا عضويته لمدة عامين اعتباراً من مطلع العام الحالي (٢٠٠٩)، لا سيما أن جدول اعمال المجلس سيتضمن بطبيعة الحال المسألة الفلسطينية. واستغرب أردوغان الصمت الدولي على الجرائم »الإسرائيلية«، وتوقف متسائلاً »لماذا الذين هرولوا سريعاً لمساعدة جورجيا، هادئون الآن؟«.
والحراك التركي يأتي أيضا لاعتبارات ذاتية، فأنقرة ترى نفسها ذات وزن إقليمي هام تنظر إلى مداها الاستراتيجي الحيوي بروح من المسؤولية التاريخية. وفي ضوء هذه الرؤى تصرفت أنقرة بمنطق الدولة المستقلة التي لا يستطيع أحد فرض مشاريعه عليها من دون الأخذ بالاعتبار مصالحها كدولة إقليمية عظمى، وقد يكون هذا ما يدعو لاحترام أردوغان الذي أكد أن الوساطة التي يقوم بها جاءت بطلب عربي في إشارة إلى أنه ليس لتركيا من هدف لان تحل مكان الدور العربي واعتبار الدور التركي عاملا مساعدا ومساندا لحق الفلسطينيين.
ولكن الحراك التركي تزامن ايضاً مع تحرك آخر، مصري ـ أوروبي بقيادة فرنسا. ففي حين سعى المحور الأخير بدعم من دول الاعتدال العربي والبيت الأبيض إلى محاولة فرض تسوية معينة تهدف إلى تهدئة دائمة تمتد إلى ١٥ سنة تبدأ مع سريان وقف إطلاق الصواريخ من قبل المقاومة ووقف الهجوم »الإسرائيلي« على قطاع غزة، بالاضافة إلى وضع مراقبين دوليين في الجانب الفلسطيني من المعابر لكي تفتح بعد ذلك، وهو ما رفضته حماس التي اعتبرت أن وقف الهجوم والصواريخ يجب أن يتزامنا معاً وبصفقة جديدة تكون مقبولة للطرفين، ثم قوات دولية بين الطرفين، ولكن على ألا تكون فرضاً للأمر الواقع الذي تريده »إسرائيل«.
أما الوساطة التركية لوقف العدوان على غزة بالتنسيق مع سوريا، كما أكد على ذلك وزير الخارجية السورية وليد المعلم في حواره مع قناة المنار، فقد تمثلت في قراءة المواقف جميعها، أي العربية والأوروبية والأميركية، و»الإسرائيلية« للخروج بمعادلة تحمي فيها حق المقاومة: أولاً، عبر الحوار معها. وثانياً، وقف الهجوم واطلاق الصواريخ. وثالثاً، فتح المعابر أمام الغزاويين. ولكن الوساطة التركية اصطدمت بعرقلة من قبل دول عربية، وأيضاً من قبل السلطة الفلسطينية، وهو ما دفع باباجان (وزير خارجية تركيا) للإشارة خلال مؤتمره الصحافي مع المعلم في أنقرة، إلى ضرورة تسوية الخلافات بين الفصائل الفلسطينية معتبراً أن حل الخلاف بين حماس وفتح تحديداً »يجب أن يكون عاملاً رئيسياً في التسوية«.
وهكذا يمكن القول، إن الحراك التركي الراهن لوقف العدوان على غزة كان أكثر من »صحوة ضمير«، أو ذلك الشوق للعودة بالتاريخ إلى »العثمنة«. بل هي قوة الدولة التي تسعى لإطلاق حيويتها في مداها »الجيوبولوتيكي«، لحماية أمنها القومي من خلال الحدّ من العدوانية »الإسرائيلية« التي لا تشكل خطراً على فلسطين ومحيطها العربي فقط بل وعلى تركيا ايضاً.
([) كاتب سوري