صفحات سورية

ساعــة للتخلــي

null


عباس بيضون

يمكن ان نتكلم ببساطة عن «الانحطاط»، انتهى بالنسبة لكثيرين زمن العقل والتفكر والنقاش. اذا تكلموا عن «الحوار» مثلا فلأن الكلمة التي ماتت تصلح فقط الآن حجرا لرشق الآخرين به. يمكن الآن فقط مضغ الكثير من الكلمات، تجويفها بالتدريج وسنها وصدع الرؤوس بها.
في الواقع ستكون كل مفرداتنا العزيزة بعد حين حجارة اوكالحجارة. سيكون هذا مصير الكلام نفسه، اذا لم يكن من خشب فهو من حجر. لا حاجة للمعاني فهذه بالتأكيد فات وقتها. لا حاجة للافكار فثمة بدائل كثيرة أفعل وأكثر اصابة. يمكن الآن صناعة خطاب من سقط الكلام وسقط الافكار. لن يأبه أحد بالطبع فقد انتهى زمن العقل والتفكر ويمكن الآن صناعة خطاب من الوحل. يمكن ان ترد على الآخر القذارة التي رماك بها لكن بإضافة مقدرة، فاللعب بالروث هو الآن متعة كثيرين، الذين يلعبون والذين يتفرجون لن يرضوا بعد الآن بأقل من ذلك، سيكون أي نقد بعده عديم الفعالية. ان لم تبصق على الآخر، ان لم تلطخه فانك لا زلت ناعماً واكثر مما ينبغي لمحارب. ان وثقت بقدرة فكرة على ان تصنع شيئا فاعلم أنك واهم فالسر في الألفاظ وهي جوفا، افعل واكثر أذى. بل هي بدون أفكار على الاطلاق أمضى وأقوى. بالنسبة لكثيرين انتهى عصر العقل والتفكر. انها المعركة وفي المعارك على الألفاظ فقط ان تعض، على الكلمات ان تكون فقط أنياباً إن لم تكن بصاقاً ووحلاً وفي أحيان أخرى مجرد سخف ملون. في المعركة الكلمة سلاح، اننا نفحص قدرتها على الاصابة والأذى والأذى لا يأتي دائما من المنطق ولا من الفكرة ولا من الحجة، قد يأتي اكثر من الهذر والرغاء والهذيان والتهريج والرخص بكل اشكاله. قد يأتي اكثر من الكذبة والافتراء والشائعة، قد يأتي من الاختلاق، اذ من يسأل في المعركة عن صحة شيء او قيمته او سلامته. من يملك الوقت والرغبة لاختبار ذلك او تحريه. لا أحد بالطبع، انها ساعة الرغائين والمهرجين ولا بأس من الرخص، ان له مكانا في الجوقة، هناك حاجة دائمة الى المزيد منه.

في النهاية يقولون لطمأنة انفسهم، ان هذا ليس سوى كلام. وفي أحيان كثيرة يروحون يشكون من ان الكلام، مقارنة بالسلاح الحقيقي، ليس فعالاً، وانه، مقارنة بالسلاح لا يعقب دماً أحمر حقيقياً. وفي أحيان يتكلمون عن أنفسهم كمحاربي فكر ومحاربي كلمة وفي بالهم ان الكلمات مهما تكن، تظل راقية ومسالمة. سيفوتهم ان الكلمات في هذا الوضع قامت مقام السلاح المكبوت واشبهت ان تكون سلاحا. سيفوتهم ايضا ان الحرب بالألفاظ لم تكن في يوم، كما هي الآن، مناورة عسكرية. ان فننا الخاص ان نستعمل الكلمات بالضبط كما نستعمل السلاح ونقيم من الكلمات خنادق وكمائن وألغاماً وأرصاداً وهجومات وفرقا مدججة، وان كل هذه المعركة تحت راية الكلمات. يفوتهم ان اول تخوين كانت بحق اعلان حرب وما جرى بعد ذلك لم يكن سوى اشتباك بالكلمات. يفوتهم ان الكلام كان الى الآن مادة هذه الحرب ووقودها وان الألفاظ المسالمة احدثت كل هذا التصدع والانقسام، وان الألفاظ الراقية انزلتنا الى هذا الدرك، وأن كل ما نسميه شحناً وتأريثاً وحقناً وحشداً وكراهية وحزازة انما تكون وقام ونما بالكلام.

إنها حرب ويخسرها من لا يعرف انها حرب، يخسرها من لا يعرف كيف يقاتل وكيف يربح، الأرجح ان الطرفان لا يتعادلان في ذلك ولا يستويان. هناك طرف نشأ في الحرب وتأسس عليها وتمرس بها في كل الميادين. وهناك طرف لم يتمرس بحرب كهذه وعلمه علم حروب صغيرة لم يعد ينفع اليوم وربما كان ضاراً في ظرف كهذا. الطرف الذي يعرف كيف يحارب، بل يعرف في الأساس ان يحارب أعلن الحرب فوضع الطرف الثاني عند أمر لم يستعد له او لم يكن ينتظره ولم يجد له وقتا كافيا. الطرف الأول أعلن الحرب والطرف الثاني لم يصدق ولم يعرف حتى وقت طويل انها الحرب. الطرف الأول شد العزم ورص الصفوف لانها الحرب والطرف الثاني ظل يعتقد ان هذا لا يبدل من الأمر شيئا وأن الطرف الثاني لا يزال حقيقة في خط الدفاع. الطرف الثاني أعلن الحرب وهو على خط الدفاع فعلاً واستطاع بذلك، ان يحفظ صفوفه وان يمنعها من التفكك وأن يضعها تحت السلاح. الطرف الثاني لم يستوعب ولم يحاول ان يفحص قواه او يجمعها لم يصدق ولم يعمل على جهته الداخلية، ترك النزاعات تخترقها ولم يبحث بوضوح عن القاسم المشترك، ظن أن له وجودا موضوعيا ولن يتاثر باللعبة الداخلية التي تركها حرة. لم يصدق انها الحرب ولم يصدق ان الطرف الآخر يقرر، من عزلته وانقلاب حظه، ان يعلنها. لكن الطرف الأول اعلنها وانتظر هكذا ان يقلب المعادلة او يقلب المجابهة. الطرف الثاني اعلنها لأنه يملكها ولأنه أدرك انه لا يملك بالقدر نفسه الدفاع ولا السلم. الطرف الأول لم يصدق وقفز على الأمر ولم ير الحدود واضحة بينه وبين غيره، لم يصدق ان هذه هي الحدود، بل لم يصدق اصلا ان هناك حدوداً. ظن ان لا حدود في منطق المناوشات التي خبرها، ظن ان علم المناوشات لا يزال ينفع، وان بخداع صغير للذات، يمكن تهريب امور كثيرة، وباللعب على الوقت يمكن حل أمور لا تحل. ظن ان تضييع الحدود يمكن ان يضيع النزاع أصلا لكن الأمر لم يكن كذلك، والطرف الثاني الذي اعلن الحرب تقدم وفاوض على هذا الأساس. كان لا يزال معنيا بادارتها من الداخل او الخارج، لكنه ظل في الجهة مستعداً لمفاجآت أخرى. عارفا كيف تفعل هذه في صدم الآخرين وحفظ صفوفه، لقد أدار حربه فيما الطرف الأول ظل مستعداً لقنصه بمناوشات صغيرة وطبعا بدون اعتراف بالحرب. لم يكن يعرف تماما المدى المتاح للطرف الثاني وظن انه لا يزال في الزاوية. لم يكن بالضبط يعرف المدى الثقافي والاجتماعي والتاريخي للطرف الثاني، وحسب ان حربه ليست سوى صخب العزلة. وحين أدرك ان للآخر هذه السلطة على الذاكرة والايديولوجيا والتابوات واللغة كان الوقت قد تأخر قليلاً او كثيراً. وبقدر من التأخر دخل الطرف الأول حرباً عمياء في الايديولوجيا والتابو واللغة وهي حرب جديدة تقريباً عليه، ولم يكن يدري انه سيغوص في حفريات بهذا العمق وطبقات وعي وطبقات لغة. الطرف الثاني كان يلعب بخفة هنا، هذه ارضه وملكه وسيحتاج الطرف الأول الى وقته ليفكك شيفراتها، وسيقتحم مبانيها وطبقاتها المغلقة وليتقدم فيها اقل ما ينبغي، إذ لا نهاية لطبقات الارث الايديولوجي وكلما تراءى ان واحدة انهارت برزت أخرى. لكن الطرف الأول ليس هنا سوى مدافع، وفي هذا الدفاع طالما تأخذه الحيرة، وسيمضي وقت طويل، قيل ان يرسّخ شيئا له اذ لا أصعب من حروب كهذه، اذ لا يتقدم المرء بسهولة في أحابيل الوعي ولا يستطيع الا بصعوبة بالغة ارساء وعي آخر. المهم ان من أعلن الحرب يظل الى أمد يملك مبادرتها، ولأنه المبادر فهو الذي يهاجم. انه يدرك اكثر من غيره ان الحرب فن وان الفن يستدعي مفاجأة واختراعاً وصدمة. من يحارب يبتكر اما الطرف الاول فلا يزال، الى أمد، يظن ان الأمر ممكن بالبداهة والوقائع والموضوع، وان هذه اغراض بادية للعيان لا تتطلب جهداً ولا فناً. انها الحرب والوقائع لا تحارب وحدها كما نظن، اما الطرف الثاني فيعرف ان الحروب تكسب بالقتال وفن القتال وحدهما. لذا يتقدم الى مواقع الآخر ليكسبها بما ملكت يمناه، بالهجوم او بالحيلة والتظاهر والتخفي. هكذا يجد الطرف الاول انه ليس وحده في القلعة، وان الآخر شاركه مواقع ظل يظن انها له بدون منازع. الخارج بالخارج والوصاية بالوصية والاستقلال بالاستقلال، لقد تمت السرقة في وضح النهار. هكذا لم تعد الوقائع ولا البداهة ولا الموضوع أرضه الخاصة وملكه وحده، الخصم يساكنه فيها. انه فن لم يجربه كلياً، ولا بد من ان يتعلمه، وهو يفعل ذلك لكن من اين له الوقت. من مواقعه يصليه الخصم ناراً حامية. لقد ضيّع له الخصم حدوده فيما احتفظ بحدوده هو الخاصة متينة قوية. انها الحرب، الاختلاط ينفع فيها بقدر ما تنفع الفرادة، بل الاختلاط ينفع احيانا اكثر من الفرادة، انه يترك الخصم الذي هو هذه المرة بلا قوة. الاشتراك في الخطاب يجعله ملتبساً بل ويجعله عديم المعنى احيانا فيخرج الكلام من اي حد ولا يبقى له اي مقابل، ويغدو عليه ان يعتمد على قوته وحدها. فهو حينذاك قوي بقدر ما هو هستيري وحاد وطنان وشتام واتهامي ومتعال هازئ. قوته في نفسه، في ما يدعي وما يتظاهر به. هكذا نخرج من الفكرة والمعنى والنقاش، هكذا يسود عماء ونسقط في المتشابه، هكذا لا يمكن فرز رأي وكلام من كلام، هكذا لا مكان للوقائع والمنطق والبداهة فالكلام مجرد استعراض وهو هكذا مشهد قائم بنفسه. الطرف الاول سيكون هذه المرة ضحية الاختلاط والتشابه فذلك كله يدور على أرضه، والاختلاط لا يعني سوى تضيع حدوده، وتسيد كلام بلا معنى يتم على حسابه وحساب معانيه تجويف النقاش لا يعني سوى تجويف خطابه هو، وانتفاء اي فكرة او مقابل يعني تقريبا خسارته لقضيته. انه غزو ولكن تحت شعاراته وفي زيه، إنه غزو يكشف ضعفه في اللعبة الايديولوجية، لا يزال يخوض حربه بعقلية المناوشات فيما الآخر يخوضها بعقل استراتيجي، يخوضها موقعه موقعة فيما الآخر يخوضها من البدء حربا مفتوحة، لكن احيانا امام الاختلاط يشارك بعضه في الخلط. انه موقع حيرة وهو لا يستطيع بسهولة ان يخرج منه، ان يبادر هذه المرة الى حملة منظمة، الى حملة فرز رأي من رأي وكلام من كلام، حملة توضيح واعادة رسم حدود. اما الطامّة فهي حينما يغري الاختلاط والاستعراض وتسيّد اللامعنى بعضا من مفوّهيه الذين يحسبون أنفسهم بارعين في هذا المضمار، ويخيل إليهم انهم قادرون على المباراة هنا. والحق انهم كلما اثبتوا براعتهم في ذلك زادوا من حظوظ الخصم ورسخوا بأنفسهم وبأيديهم مواقعه على أرضهم. انهم، فيما لا يحسبون، يلعبون لعبة الخصم، وفيما لا يحسبون يعينونه على انفسهم. بل هم دون ان يدروا فرقة خلفية له. اذ لن يجد سبيلاً على الاختلاط وتضييع المعاني والقضايا اكثر من كلامهم. فبكلامهم يزداد الاختلاط خلطا وبكلامهم يغدو اصعب الفرز، وتغدو اعادة الامور الى جادة النقاش، ويغدو اصعب جلاء وجود خطين وخطتين وتطلعين الى المستقبل. اذ العماد على العماد والرغاء على الرغاء لن ينجح الا في تضييع السياسة والنقاش ولن تبقى بعد ذلك قوة ظاهرة سوى السلاح.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى