خبران عاجلان بخصوص النظام السياسي العربي
د. المنصف المرزوقي
أمة تاريخية، الرابعة عدديا بين الأمم ،تحتل مكانا مركزيا في الفضاء الجغرافي وتملك ثروات هائلة وطاقات بشرية جبارة ومع هذا، تشاهد تدمير شعب من شعوبها ولا تملك غير ذرف الدموع والصراخ بالوجع.
نتيجة منطقية إذا تذكرنا خصائص النظام السياسي الذي يقودها:
انتفاء كل فعالية له في إدارة الأزمات الداخلية والخارجية نتيجة غياب أدوات التصحيح الضرورية والإصلاح في الإبان، وكلها تتطلب التشاور في أخذ القرار والحرية في نقده المتواصل والتنافس بين القوى السياسية لتقديم أحسن الحلول لشعب سيّد مصيره.
شلّه طاقات الشعوب والأمة باستنزاف خيراتها وتهميش قواها الحية في الداخل أو دفعها للهجرة، ناهيك عن إنهاك مجتمعاتها بالقمع الشرس المتواصل.
منعه قيام أي تنسيق فعلي عربي في أي من الميادين منذ أكثر من نصف قرن،إلا على مستوى المظاهر كالتي تقدمها جامعتنا العربية العتيدة، نظرا لغيرة كل راعي على رعيته ومزرعته وتمسكه بتسلطه المطلق عليهما.
تبعيته للأجنبي نتيجة ضعف الرعاة وحاجتهم لمن يحميهم وهم يواجهون من جهة رفض شعوبهم المتعاظم، ومن جهة أخرى مقالب إخوتهم الأعداء…واليوم أوامر رعاة الرعاة لا تتحركوا وإلا…تذكروا أننا نعرف عنكم كل شيء وأن المبالغ الخيالية التي سرقتموها لشعوبكم الفقيرة في أيدينا.
عن هذا النظام لي خبر أول وهو سيئ للغاية حيث ما زال للحضيض حضيض.
انهيار النظام السياسي العربي
نعم الأصعب ما زال أمامنا. غزة البطلة ستحاصر أكثر فأكثر، وحماس ستبقى مطلوبة الرأس والتآمر على القضية المقدسة سيتعاظم. حدث ولا تسل عن الموجة الجديدة من القمع الداخلي لاستعادة ‘ الهيبة’ والاستفراد بالشارع . لهذا توقعوا قفزة نوعية في هذا القمع ونظم الاحتلال الداخلي والعمالة الخارجية مثل الحيوان الجريح المحشور في الركن الوحيد المتبقي من القفص يرتعد رعبا وهو ينتظر الضربة القاصمة.
من حسن الحظ لي لكم خبر ثاني مفرح : محرقة غزة منعطف في مسلسل تصفية هذا النظام ودفعة قوية في اتجاه نهايته الحتمية .
ليسمح لي بالتقدم بإستشهادين حتى لا أتهم من الأعداء وبعض الأصدقاء أنني أغفل عن العدو الرئيسي والحال أنه لا يجب أن يعلو الآن صوت على صوت المعركة…أنني أتوهم وأحلم تاركا حقدي الشخصي على النظام في بلدي الذي يعمي البصر والبصيرة الخ.
الأول لحسن نافعة أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة في الجزيرة نت 15-1-2009، بخصوص عقد ثلاث قمم ( قمة الرياض والدوحة والكويت) حيث يقول أننا أمام ‘حالة ضعف وأكاد أقول انهيار’.
إذن من استعمل مصطلح الانهيار هو وليس محسوبكم المتهم طول الوقت بالتطرف والراديكالية ومعاداة الصلح والإصلاح والمصالحة .
أما الاستشهاد الثاني فللمتظاهرين- الراديكاليين – العرب من الخليج إلى المحيط والذي أصبحت شعاراتهم لا تندّد وإنما تتهكم، مثل الشعار الذي رفعه التونسيون’ يا شافاز رشحناك رشحناك’ (لما يسمى انتخابات الرئاسة في تشرين الثاني/نوفمبر 2009).
النظام العربي
هل ثمة علامات أبلغ من انهيار النظام السياسي العربي في العقول والقلوب من هذه الشعارات التي ترفع من الخليج إلى المحيط ضده، أو من وصول الأكاديميين إلى نفس الاستنتاجات.
صحيح أن زمن الدول ليس زمن الأفراد، لكن من ينكر اليوم أن نظام الاحتلال الداخلي والعمالة الخارجية بصدد الانهيار، أن حكم التاريخ صدر فيه ودفنه مسألة وقت لا أكثر. أين ومتى استطاعت طغمة من الأفراد أجمعت شعوبهم على كرههم واحتقارهم والمطالبة برأسهم فرض وجودهم بالقوة إلى الأبد؟
هذا ما يجعلنا مطالبين بالتفكير الجدي في بقية المسار، أي تكتيكيا كيف نسرع بموت النظام المريض المستعصي على أي علاج، وستراتجيا ما البدائل التي نعدّ بعد أن يستقرّ في مزبلة التاريخ.
هذه البدائل ليست في الغلاف العقائدي (وليكن ما تشاءون، قومي،إسلامي ،اشتراكي علماني)، إنما في الأسس وهي تستخلص آليا من تفحص خصائص النظام السياسي الفاسد الذي قادنا إلى الحضيض…..والبناء على عكسها.
كما نعرف هو تقنيات حكم ترتكزعلى حق فرد في القرار المطلق بلا حسيب أو رقيب، وحق بطانته في المال العام، وحق أجهزة مخابراته في قمع المعارضين بافظع أصناف إرهاب الدولة، وحق أجهزة الدعاية في تزييف الواقع، وحق مجموعة قليلة في خصخصة كل مؤسسات الدولة مثل القضاء، ناهيك عن الحق في التأبيد والتوريث.
خيار المقاومة المدنية
دولة الاستقلال الثاني لكل قطر-و في مرحلة ثانية لبنة الاتحاد العربي-، مبنية بالضرورة على نظام لا وجود فيه للحكم الشخصي وإنما لحكم المؤسسات، والتداول على السلطة قاعدة القواعد، والمال العام محفوظ بألف آلية وآلية، والبوليس السياسي جهاز وقع حله وكذلك وزارة الداخلية، والتعذيب جريمة عظمى المسؤول عنها مباشرة رئيس الدولة، والحريات الفردية والجماعية مضمونة بألف وسيلة ووسيلة وأساسا حرية اختيار من يحكم وحرية صرفه بوسائل سلمية.
لقائل أن يقول مهلا في أحلامك نسيت الأساسي، فتقنيات النظام السياسي الفاسد نتيجة عوامل تاريخية جعلت السلطة غنيمة حرب أفتكت بحروب الأجداد أو بانقلابات الآباء ولا يمكن التداول عليها إلا بالطريقة التي أخذت بها. هذا ما يجعل الشعوب التي يتحكم فيها هذا النظام شعوبا مغزوّة وما يفسّر سرعة الانتقال إلى نظام الاحتلال الداخلي ولو بدأ كنظام تحرير.
معنى هذا أنه إذا انتصب النظام السياسي العربي الجديد بالعنف خاصة أمام رفض الحيوانات الجريحة الانسحاب من الساحة، فإن التاريخ سيعيد نفسه.
هم- المحررون الجدد- سيبدأون كما بدأ أسلافهم الميامين بالوعود والنوايا الطيبة وسينتهون كما انتهى من سبقهم، لأن السلطة التي تغزى بالقوة لا تتواصل إلا بها بما ينجر عن الأمر من بقية التبعات المدمّرة.
لهذا يجب أن ننتبه أنه إذا أخذت السلطة عنوة من قبل مجموعة مسلحة فإننا مبرمجون لدورة جديدة في نفس الحلقة المفرغة.
المخرج الوحيد أن تستبدل السلطة الاستبدادية لا بانقلاب عسكري أو بوليسي جديد أو بغزوة من خارج الحدود، وإنما بثورة مدنية تنخرط فيها كل قوى المجتمع وبالوسائل السلمية مثل المظاهرات الدائمة في نفس الوقت وفي كل مكان، ورفض دفع الضرائب، والتنظم الذاتي في كل المستويات،ومقاطعة انتخابات العهر، ورفع شعار رحيل الدكتاتور وبطانته بكل وضوح، ودعوة المواطنين الحاملين السلاح في الجيش والشرطة للعصيان المدني وعدم استعمال أسلحتهم لحماية مستعبديهم ومذليهم .
مثل هذه الثورة المدنية ليست كفيلة فقط في التعجيل بانهيار نظم مثل الناب الآيل للسقوط، وإنما وهذا الأهم هي التي ترسي الدولة الجديدة على أسلم الأسس حيث لا يمكن لمغامر فرد أو لمجموعة القول لي الحق في السلطة المطلقة والأبدية وقد وضعت رأسي على النطع من اجل تحريركم.
إن خيار المقاومة المدنية ليس طوباوية وسذاجة ومثالية بقدر ما هو نتيجة قناعة أن طبيعة النظام المقبل جد مرتبطة بالكيفية التي سنصفي بها النظام الحالي.
أخيرا وليس آخرا
النظام السياسي العربي الفاسد ليس إلا الجزء الظاهر من جبل الجليد، أما الجزء المخفي فهو الثقافة التي صنعتنا وصنعناها على مرّ خمسة عشر قرن، التي يرتكز عليها.
كم من مواقف وتصرفات حكامنا مهدت لها كلمات وصور من قبل ‘ العاجز من لا يستبدّ’….’ رجل كألف وألف كأفّّ ‘ …’ يجوز التضحية بالثلثين الفاسدين لإنقاذ الثلث الصالح’ … ‘ المستبدّ العادل’ الذي يمثله في المخيال الجماعي عمر بن الخطاب…أخيرا وليس آخرا صورة الراعي والرعية وهي ابلغ في معانيها الخفية من أن تكون بحاجة لشرح أو تعليق.
ووراء هذه الكلمات والصور روايات لماض خيالي يقدم فيه هارون الرشيد على أنه رمز العظمة ولا يهمّ أن تكون له آلاف الجواري والعبيد أو أن يقول اضرب رأسه
يا مسرور. فيذبح المخالف في الرأي أمامه، ولا يفسر أستاذ الأدب والتاريخ للعقول الناشئة ما في هذه التصرفات من بدائية وأنها كانت تقاليد زمان ولى ومضى.
ربما اتهم بالمبالغة، لكنني مقتنع أن أساتذة الأدب والتاريخ ودون وعي، هم أكبر مروّجي ودعاة النظام السياسي العربي الفاسد وأنهم يتعهّدون دعائم البدائل الاستبدادية الأخرى التي قد تواصله .
ولأنك لا تبني العمارات الصلبة على مستنقع، فإن أولى أولويات نظام سياسي جديد، ليست إعادة كتابة الأدب والتاريخ لكي تتماشى مع قيم العصر، وإنما تفكيك عملية التخييل التي وقعت على مر العصور لخدمة أغراض الاستبداد وإعطاء الكلمة لتيار التحرر في تاريخنا الذي بقي محاصرا ومطاردا حتى في برامج الدراسة، وفي كل الحالات فتح مجال النقاش والتقييم الموضوعي لتاريخنا دون محرمات أو’ طابوات’ .
نحن في مرحلة مفصلية لم يمت فيها المريض العجوز ولم يولد بعد الطفل الموعود. إنها من أخطر مراحل تاريخنا المعاصر وأكثرها إثارة .فليتقدم الشباب لإعداد الثورة المدنية وقيادة معاركها ورمي أسس نظام سياسي جديد يعلن خروج المارد العربي أخيرا من قمقم طال حبسه فيه.
‘ كاتب من تونس