صفحات سورية

الفساد في تحليل الفساد(استطلاع صحيفة الثورة السورية نموذجا)

null

أحمد مولود الطيار

بعد خطاب القسم الأول 10 تموز 2000 إيذانا بافتتاح السيد الرئيس ولايته الدستورية الأولى أمام مجلس الشعب وتضمن الخطاب وقتذاك جملة من المعضلات والمشاكل، التي أشار اليها السيد الرئيس وحديثه عن الفساد وأنه لا ” يمتلك عصا سحرية لحل كل المشكلات دفعة واحدة “
كذلك حديث سيادته عن الموضوعية في التفكير “.. والموضوعية تتطلب منا أن ننظر الى أي موضوع من أكثر من زاوية وضمن أكثر من ظرف..” كذلك تحدث عن ” شذوذ عن القوانين والأنظمة ” و” المساءلة والمحاسبة ” كذلك تحليله فيما يتعلق بعلاج المشاكل التي تعترضنا وقوله: “.. اذا أردنا أن نعالج مشكلة ما فيجب أن نتناولها من بدايتها وليس من نهايتها وأن نعالج السبب قبل النتائج..” ثم تطرق السيد الرئيس في خطابه المشار اليه الى ضرورة احترام الرأي الآخر حينما قال: “.. الفكر الديموقراطي يستند على أساس قبول الرأي الآخر وهو طريق ذو اتجاهين حتما وبشكل أكيد أي ما يحق لي يحق للآخرين وعندما يتحول الطريق باتجاه واحد يتحول الى أنانية وفردية.” و ” الديموقراطية واجب علينا تجاه الآخرين قبل أن تكون حقا لنا..”.

بعد ذلك الخطاب والذي شكل وقتها مسافة لابأس بها عن الخطاب البعثي التقليدي الموسوم بالبطء والتحجر والخشبية، بعده جرى ما جرى، ربما كان الأبرز ” ربيع دمشق ” الذي وأد قبل تبرعمه.

إذن قبل ثمان سنوات من الآن وفي مناخ تلك السياقات التي وفرها خطاب القسم الأول ، ارتفعت أصوات ومطالبات وبدأنا نسمع ونقرأ ونشهد نقدا تفاوت خطه البياني من نبرة عالية الى متوسطة الى صوت خافت. بالمجمل رأينا ارتفاع منسوب السيولة في نقد الفساد اضافة الى مواضيع كثيرة أخرى ملحة وراهنة ربما أبرزها ” أولية الإصلاح السياسي” الذي طرحته المعارضة الوطنية الديموقراطية مقدمة لابد منها لكل الإصلاحات الأخرى إذا ما كنا جادين في الخروج بسوريا من مأزقها الحالية سواء على الصعيد الداخلي أم الخارجي، من لقمة الخبز وصولا إلى تحرير الجولان ووضع إستراتيجية وطنية تجيب على مصاعب الداخل وتحديات الخارج .

ثمان سنوات على خطاب القسم الأول هل ضاعت هكذا هدرا من عمر سوريا؟ لازال الحديث حتى اللحظة يسمع وبالجملة والمفرق: نعم هناك فساد ثم لازمة أخرى تكمل ذلك الاعتراف حول رد الفساد إلى التربية والضمير والأخلاق ثم الخاتمة وإراحة الضمير: في كل دول العالم يوجد فساد في أمريكا وحتى السويد وسويسرا.

اعتراف ثم سرد الأسباب وإرجاعها إلى الفرد والأسرة ومجمل الأخلاقيات والعادات والتقاليد ثم الخاتمة ونفض اليد. ألا تشكل تلك الثلاثية (الاعتراف – السبب – الخاتمة)قمة الفساد؟ ألا يعتبر ذلك (إبداعا) جديدا ينضاف الى مسلسل الفساد والافساد المبرمج والطويل، قاعدته الذهبية: من يحاسب من؟؟

نعم في سويسرا، في السويد، في أمريكا وفي دول أدنى مدنية وحضارة يوجد فساد. ما يغيب في هذه اللازمة عن عمد وقصد شكل الهرم، لدينا الرأس تحت والقاعدة فوق، لديهم القاعدة تحت والرأس فوق وهو الشكل الصحيح. القاعدة هناك سيادة القانون ويبقى الفساد استثناءا. لدينا، سيادة القانون هي الاستثناء والفساد هو (القانون) الغالب حيث الاستئثار والامتياز والولاء المرجعيات العليا لكل شيء. وفي خضم “الفساد في تحليل الفساد”، يُغيب قصدا أساسات الفساد ويجري الحديث صبحا وظهرا وعصرا عن فساد وحيد لا مشكلة في طرحه، هو الفساد المالي أو الحكومي أو ” اللصوصي ” حسب تعبير لياسين الحاج صالح والمتأتي من نهب المال العام عبر الصفقات الإدارية ولجان المبيعات والمشتريات التي تزدهر في البلد كانتشار المطبات والحفريات في شوارع (سوريا الحديثة). إذن لا مشكلة في الحديث عن هذا النوع الباهت من الفساد وهو في المحصلة، فساد نتيجة وليس السبب في الفساد.

أس الفساد موجود في ” الدستور السوري ” حيث من المفترض أن يكون الدستور أبا للقوانين فإذا به ينقلب في سوريا الى أس الفساد وحاميه عبر شرعنته دستوريا وقانونيا وبدل من أن يكون الرافعة الدستورية والتشريعية ” أخرج سوريا من اطار دولة حديثة لكل مواطنيها ” حيث نظام السلطة في سوريا مبني على حق غير تعاقدي متعارض مع مفهوم الدولة الحديثة ” فالمادة الثامنة من الدستور تقوم بعملية فرز بين المواطنين حيث الانتساب الى حزب البعث يؤمن للمنتسب حتى ولو كان غير مقتنع بعضَ المصالح (الدنيوية) وهذا قاد في سوريا ويقود الى تعميم الوصولية والانتهازية والتسلق والتضحية ممن كانت نفسه ضعيفة أو من أراد ” أن يبتعد عن الشر ويغني له ” أو ” أمشي الحيط الحيط وأقول ياربي السترة ” أو كما يردد البعض ” وراي كومة لحم ” التضحية ببعض من كرامة واعتداد بالنفس . اذن في (سيرورة) مفتوحة منذ أربعة عقود، سيرورة تقول وأفضت الى التفريط والتنازل المستمر من قبل ال” المواطن ” السوري لمفردات شخصيته الإنسانية مما شكل ثقافة وعادات جديدة لم يعرفها سوري الأربعينيات والخمسيينات ثقافة عنوانها الانحطاط بكل معاني هذه الكلمة، هذا الثقافة، هي التي يتكئ اليها مبررو الفساد ويرمون عليها كل أوزارهم ويتجاهلون بكل وقاحة أنهم صانعوها.وربما تلخص قصة زكريا تامر ” النمور في اليوم العاشر ” كيفية تحول نمر حقيقي الى نمر من ورق. هذا هو المواطن السوري حيث تحول من أكل لحوم الى عامل تنظيفات في ” سوكلين ” في لبنان وعامل سخرة في الأردن ومعلم ومدرس يشقى ليل نهار في دول الخليج، ويحدثونك عن تقافة الفساد. هو المواطن السوري يتحول في كل يوم الى نمر من ورق.

أما، لماذا “استطلاع ” صحيفة الثورة الآن؟

تقول الثورة ” نحاول اليوم القاء الضوء على ظاهرة الفساد هذا المرض الذي يؤثر سلبا على نواحي الحياة ويتسبب في تخريب الاقتصاد وخرق القوانين وفساد الذمم..” ثم تقول الثورة: ” ولرصد هذه الظاهرة وضعنا أسئلتنا وتوجهنا بها الى المواطنين في عدة محافظات… حيث أرسلنا ألف استمارة وصلنا منها (452) استمارة..”

بالطبع ” الثورة ” لا تناقش أبدا مسألة عدم رجوع (548)استمارة من استمارتها الألف التي أرسلتها. لماذا لم تناقش الصحيفة المذكورة أسباب عدم عودة تلك الاستمارات؟ ربما لا يدخل هذا في صلب عمل ” الاستطلاع ” ولكن التعليق مهم وربما يدخل في عمق ” الظاهرة ” المراد الاستطلاع عنها.

هل السبب في عدم عودة تلك الاستمارات ناتج عن اللامبالاة والسلبية التي بات يتمتع بها المواطن السوري في ظل مناخات الفساد التي يصح أن نسميها أكبر من مجرد ظاهرة؟

هل السبب هو ضعف الثقة لا بل ربما انعدامها في الصحافة الرسمية وأن الأمر لا يعدو عن ” كلام جرايد “؟

هل السبب هو الخوف المستوطن في روح وجسد المواطن السوري بسبب ثقافة الخوف التي تؤتي لزارعيها أوكلها رغم أن المستطلع ليس مرغما على كتابة اسمه في ورقة الاستطلاع ولكن على مبدأ ” الحيطان لها آذان “؟

هل السبب كما يعتقد ربما البعض ” توجيهية ” الأسئلة في الاستطلاع خدمة للفساد الأكبر نفسه ولفت الاهتمام والأنظار الى فساد بعينه للتغطية على الفساد (المنتج ) أو المؤسس؟

قد يقترح البعض اضافة أسباب أخرى وربما صحيفة ” الثورة ” تكمل ما بدأت، تكمل أسئلتها بكل حيادية ان كان الموجهون لها جادون في تقصي أسباب ” الظاهرة ” لأن السؤال قد لا يكون سؤالا حتى ولو وضعنا وراءه ألف اشارة استفهام. ان الجواب عندما يتحول الى سؤال فهذا هو الفساد عينه، فـ”ضعف راتب الموظف” هو سبب الفساد الصغير و”عدم جدية المحاسبة الصارمة” هو نتيجة وليس سبب، نتيجة لضعف مناعات جسد المجتمع حيث تم تعطيل وإلغاء دفاعات المجتمع السوري ووسائل مناعته (هل سمعتم مرة واحدة أن اتحاد نقابات العمال في سوريا قد دافع عن العمال في حال ارتفاع الأسعار وانخفاض الأجور مثلا، هل اعتصم أو أضرب أو تظاهر؟!)هذا مثال واحد فقط في خسران المجتمع السوري المستمر لدفاعاته وقس على ذلك نقابات واتحادات ومنظمات أخرى حتى بات المجتمع السوري أشبه ما يكون بمريض ” نقص المناعة المكتسب ” الايدز، عرضة للغزو من كافة الاتجاهات لا هو بالحي ولا هو بالميت، لا بل المطلوب أن يبقى يحتضر وسيشتهي الموت ولن يحصل عليه، ففي موته لمن تسوّق الإعلانات والدعايات وكيف تكون السوق؟ وجوده ضروري.

الى جانب فقدان المجتمع لمناعته ووسائل دفاعاته، وليكتمل الفساد، ولتكتمل الصورة باتت الدولة لدينا لا دولة فإلى جانب تخلف الدستور السوري وتمييزيته الفاضحة وانتفاء العقد الاجتماعي فيه، اُحتلت الدولة، ما تبقى منها، من نخبة سلطوية تفهم ربما في كل شئ باستثناء قيمة الدولة، معنى الدولة، معنى الإكراه في الدولة، المصلحة العامة والمصلحة الخاصة، معنى السلطة، معنى المعارضة، الدولة كإطار للفضاء العام بعيد كل البعد عن الأهواء الإيديولوجية والمصالح الخاصة والضيقة. هو ذا وعي النخبة لدينا التي تقود الدولة والمجتمع. هل هناك مبالغة بعدئذ في القول ” اُحتلت الدولة “؟

يمكن الإسهاب كثيرا في فساد أسئلة ” الثورة ” وطرح الكثير من أسئلة حقيقية غيبتها ” الثورة ” عمدا وعن سابق إصرار، انما،الذي لا تستطيع الثورة تغييبه -وهنا أفك المزدوجين عنها قصدا – مهما حاولت من استطلاعات تطويق ما تسميه ظاهرة ومحاولة تنفيس الاحتقان وطرح الأسئلة الكاذبة، فالفساد جنين تربى في ظل (قانون) الولاء وفي ظل المادة الثامنة وفي ظل حالة الطوارئ، وما يجعل الأمل لا يتلاشى ولا ينعدم أمام الأجيال القادمة، أن الفساد هو طفل انبوب ، تم عبر تلاقح كل عاقر في ذلك النظام وسيموت لامحال.

إنها السياسة ” أيتها الثورة.

· الرقة

النداء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى