ما الذي أبقى الاحتلال في العراق حتى «الذكرى» الخامسة؟
ناهض حتر *
في الذكرى الخامسة للاحتلال وصل عدد القتلى إلى أكثر من مليون عراقيّ (هادي مزبان ـــ أ ب)في الذكرى الخامسة للاحتلال وصل عدد القتلى إلى أكثر من مليون عراقيّ (هادي مزبان ـــ أ ب)
تمكّن الغزاة الأميركيون من احتلال العراق في 9 نيسان 2003. وفي اليوم التالي بالتحديد، انطلقت المقاومة العراقية، وتمكّنت، في وقت قصير من شنّ حرب مضادة عنيفة وبطولية ومثابرة. وفي نيسان 2004، أي في «الذكرى» الأولى للغزو، كان الاحتلال الأميركي قد تجرّع أسرع هزيمة عسكرية لأيّ غزوة إمبراطورية في التاريخ.
فعندما انضمّ التيار الصدري في ذلك الربيع إلى قتال المحتلين، فقد الجيش الأميركي السيطرة على البلد، وسقط هو نفسه في الشلل الميداني، وأصبح أسير الرعب والجمود والعجز. وعلى المستوى السياسي، كان لقاء جناحَي المقاومة، السني والشيعي، انتصاراً للوطنية العراقية يؤذن بإعادة تأسيس المشروع الوطني العراقي على جثة الاستعمار الأميركي. فما الذي أبقى الاحتلال حتى «الذكرى» الخامسة؟
الدرسان الكبيران اللذان يخرج بهما المرء، بعد خمسة أعوام من الكفاح العراقي الجَسور وانتصاراته العسكرية، همّا أوّلاً، أنّ الميدان الرئيسي للصراع الوطني هو الميدان السياسي. فلا معنى للإنجازات العسكرية من دون تحقّقها في سياق سياسي استراتيجي. ثانياً أن الاستعمار والهيمنة الأجنبية هما، بالدرجة الأولى، علاقة داخلية.
في الدرس الأوّل، نلاحظ عجز منظمات المقاومة العراقية ـ السنية والشيعية ـ على رغم قدراتها القتالية الاستثنائية، عن تقديم رؤية سياسية وطنية شاملة لتوحيد البلد وإعادة بنائه. ما حدث هو العكس: إصرار البعثيّين على أطروحة العودة إلى السلطة، في مقابل إصرار الصدريين على استئصال البعثيّين. وبينما أدّى الانغلاق المذهبي للوطنيّين الشيعة إلى منح الشرعية للأحزاب والميليشيات الشيعية اللاوطنية الفاشية، فإن استغراق الوطنيّين السنّة في اتجاهات وأطر مذهبية منغلقة لا تأخذ بالاعتبار التعددية الدينية والمذهبية في العراق، أتاح وجود حاضنة سياسيّة للنشاط الهدّام الإجرامي لتنظيم «القاعدة»، الذي كوّن قطباً «سنياً» للحرب الأهلية في مقابل القطب «الشيعي» من الطينة نفسها. وهكذا، امتنع التشكّل الوطني للمقاومة العراقية، وخُسرت بالتالي المعركة السياسية، بعدما رُبحت المعركة العسكرية.
في الدرس الثاني، نلاحظ أنّ قيام واستمرار «العملية السياسية» الاحتلالية هو الذي منح الاحتلال فرصة البقاء، وأدى إلى خفض مستوى المعارضة العربية والدولية للغزو. ومن البديهي أن تلك الرافعة السياسية للاحتلال تكوّنت من عناصر داخلية، تمثّلت أولاً في «الشيعيّة السياسية» الرجعية اللاوطنية (المجلس الإسلامي الأعلى، وحزب الدعوة ومليشياتهما)، وهي التي استطاعت أن تجرّ الصدريّين إلى مواقعها وتضمّهم إلى «العملية السياسية» الاحتلالية، وتشقّ البلد على أساس مذهبي، أدى إلى انهيار سيطرة الوطنيين في مناطق العرب السنة، وتظهير «سنية سياسية» رجعية لا وطنية أيضاً، اندمجت هي الأخرى في «العملية السياسية»، مانحة إيّاها نوعاً من «الشرعية».
وعلى هذه الخلفية، تمكّنت القوى الإقليمية ذات المصلحة في منع نهوض العراق الموحَّد القوي، وخصوصاً إيران والسعودية، من التدخّل الحثيث في شؤون العراق، والمساهمة في إشعال الاقتتال الأهلي المأساوي، عام 2006، وتحويل القضية العراقية إلى ورقة مساومة وضغط، واستباحة العراق كمنطقة توسّع ونفوذ.
وبينما كان العراق يواجه الاحتلال والتخريب والتدخلات الأجنبية والضعف السياسي للمقاومة، شهد المراقبون موجة مثيرة للغثيان من الانشقاقات المتعدّدة المستويات والأشكال في صفوف النخب العراقية التي غرقت في حروب إعلامية هامشية من التخوين والتشكيك والتشاتم، مستقيلةً من واجبها الرئيسي في بناء الأطر الفكرية والسياسية للمقاومة والتحرّر وإعادة البناء.
لن ننسى بالطبع، وينبغي ألّا ننسى لحظة واحدة أن الجيش الأميركي لا يزال مهزوماً في العراق، ومنهكاً تحت وطأة خسائره البشرية والمادية غير المسبوقة، بعديد قتلى غير معروف، وخمسين ألف جريح معطوب، ومئات الملايين من الدولارات أسهمت في استنزاف الاقتصاد الأميركي المتداعي، بينما المقاومة العراقية، السنية والشيعية، لا تزال تملك قدراتها القتالية. وهي بدأت على التوّ جولة جديدة سوف تتصاعد بانتظام مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأميركية. فـ«هدنة» الأشهر الماضية كانت تكتيكية، وإنهاؤها هو أيضاً تكتيكي. أي إن الهدنة والقتال هنا، لا يرتبطان باستراتيجية التوحيد والتحرير، بل باللعبة السياسية الدولية والإقليمية.
إنّ تصعيد العمليات ضدّ الاحتلال الأميركي، عشية الانتخابات الرئاسية الأميركية، سوف يزيد بالطبع، من فرص الحزب الديموقراطي بالفوز. فإذا حدث ذلك، هل سنشهد تغييراً عميقاً في السياسة الأميركية نحو العراق؟
باراك أوباما يقول إنّه سوف ينسحب من العراق كلياً في غضون شهرين من دخوله البيت الأبيض. فهل يستطيع؟ ربما يكون من الصعب أن نقرّر ذلك. فالانسحاب العسكري من العراق من دون ترتيبات أمنية وسياسية تكفل المصالح الأميركية في بلاد الرافدين، سيكون لحظة فارقة في تاريخ الولايات المتحدة باتجاه تحجيم سيطرتها العالمية، ومدخلاً لتغيير عميق في النظام الأميركي يتناول إعادة هيكلة استهلاك النفط، وبالتالي مجمل النمط الاستهلاكي الأميركي، والصناعات والخدمات والنقل، وهو ما سيؤدي إلى تغيير اجتماعي بالعمق نفسه.
ارتفاع أسعار النفط ملائم بالطبع للشركات النفطية الأميركية. لكنه مؤذٍ بشدّة بالنسبة إلى الجمهور والاقتصاد الأميركيين المدمنين على استهلاك غير مقيّد للمشتقات النفطية. الأمر الذي يشبه الحرب: فالتريليونات الثلاثة التي من المتوقَّع أن تصلها إنفاقات إدارة بوش في العراق (بحسب تقديرات جوزف ستيغليتز)، يصبّ معظمها في جيوب شركات السلاح والشركات الرديفة. لكنّ المبالغ التي أُُنفقَت اقتُطعت من ميزانية الخدمات. على هذه الخلفية، نستطيع القول إنّ شعبية أوباما غير المنتظرة، تؤشّر إلى ولادة تيار اجتماعي آخذ بالاتساع والتأثير في الولايات المتحدة، يضغط نحو التغيير. وقد دعم هذا التيار أوباما الأكثر جذرية، ويمارس ضغوطاً قوية على هيلاري كلنتون، ويضطرّها إلى الاقتراب من شعارات السياسي الشاب الأسود.
نحن نعرف أنّ شعارات الحملات الانتخابية هي غير السياسات. لكن اضطرار المرشّحين الديموقراطيين إلى الاتجاه يساراً، يدلّ على التغيرات الحاصلة في المجتمع الأميركي تحت ضغط الأزمة الاقتصادية (تراجع القدرة التنافسية للمنتجات الأميركية وتنامي العجز التجاري) والمالية (المديونية الخارجية التي تصل إلى أكثر من ضعفي الناتج المحلي الإجمالي) والنقدية (انهيار الدولار) والاجتماعية (اتساع رقعة الفقر والبطالة ومأزق الخدمات الصحية والإسكان والتعليم والمشكلات البيئية). وهي قضايا، في تقاطعها مع أزمة الحرب في العراق، سوف تضع الرئاسة الديموقراطية أمام ضرورة تعديل جوهري في السياسات الأميركية، بما في ذلك، على الأقل، تفعيل توصيات بيكر ـــــ هاملتون بشأن العراق، ومحاولة التوصّل إلى تسوية إقليمية وفقها.
من الواضح أنّ قوّة الديموقراطيين الشعبية لها غلبة أكيدة على قوة الجمهوريّين. ويكفي أن نقارن في هذا الشأن حجم الإقبال على الانتخابات الفرعية بالنسبة إلى كلّ من الحزبين. لكن مع ذلك، فإن النظام الأميركي قد يمدّد بقاء الجمهوريّين في البيت الأبيض أربع سنوات أخرى، في محاولة يائسة وأخيرة لإنقاذ الإمبراطورية. حتى في هذه الحالة، فإن الرئيس الجمهوري، جون ماكاين، لن يكون قادراً على متابعة السياسات البوشية ذاتها. وسيقترح تعديلات جدية بصددها.
لكن التطوّر النوعي الذي من شأنه أن يضع الولايات المتحدة، بغضّ النظر عن الحزب الحاكم فيها، أمام استحقاق الهزيمة في العراق والتغيير في الداخل، هو اندلاع الثورة الوطنية العراقية. وإذا كنا لا نستطيع أن نتنبأ بتوقيت هذه الثورة، فإنّنا نراها حتمية في المدى المنظور. فهي الجواب العراقي الوحيد الممكن على يأس بلغ مداه إزاء فشل جميع المشاريع السياسية: الاحتلال والعملية السياسية والمقاومة الجزئية والمصالحة. فبعد خمس سنوات من الوهم والموت، لا يزال العراقيون بلا دولة ولا أمن ولا مؤسّسات ولا وظائف ولا خدمات ولا استقلال ولا سيادة، يعانون الفقر والاستبداد والقلق والتشرّد والموت المجّاني في ظلّ جمود لم يعد استمراره ممكناً.
* كاتب وصحافي أردني