شيء عن الأيديولوجيا الضالَّة والحُبِّ والحربْ
نمر سعدي
في البدءِ حيثُ كانَ الحُب أصرخُ صرخةَ قلبٍ مسحوق ومحروق بالفوسفورِ غير المرئيِّ ” أحبُّكِ غزَّة أحبُّكِ ” أيتُّها القدِّيسةُ العالية. أحبُّكِ وأتساءلُ في خضّمِ هذهِ المعمعةِ غيرِ المنتهيةِ المجنونة الملتهبة. ألا يوجدُ في هذا الكونِ الموبوءِ بالظلمِ ومزاجِّيةِ الجنرالاتْ وعاطفةِ الروبوتِ الأحمقِ من يوقفُ شلاّلَ دمكِ النورانيّْ ؟
من يمنعُ ذبحكِ أيتها العذراءُ بسيوفِ الأعرابِ الدخلاءِ والأصلاء ؟
من يُنـزلكِ عن الصليبِ العامِ العربيِّ والأجنبي ؟
أتساءلُ وأتألَّمُ بكلِّ ما في الصباحِ الشتائيِّ من وجعٍ وحمَّى . ما قيمةُ ما يُكتبُ ويذاعُ ويُنشرُ ويُلقى في محافلِ الصمتِ أمامِ دمِ صغاركِ الملائكة ؟
ما قيمةُ هذيانِ كلِّ شعراءِ العالمِ المحمومِ وعويلهِم في شوارعِ العالمِ المتحضِّرْ والمغسولِ بالظلامِ لا بالنورِ ؟
وما قيمةُ ركضهم ككلابِ بابلَ في شوارعِ وسهوبِ العالمِ الثالثِ أو العاشرِ أو ربَّما المنسيِّ إلى أبدِ الآبدينَ وقيامةِ إخوةِ يوسفَ من الجبِّ ؟
أتساءلُ وأتخيَّلُ نفسي شاعراً في مقهى مسائيٍّ بقلبِ فضائكِ المخزونِ بالألوان البيضاءِ والودِّ الدافئ .. أتخيَّلُ نفسي مسيحاً آخرَ يُرجمُ حتى الموتِ ويُرفعُ على جلجلتكِ الطاهرةِ.. ولا أحدَ في العالمِ يُجيبُ صدى صُراخهِ المسكوبِ على أعتابِ القطبِ الشماليِّ الأصمِّ .
أحبُّكِ غزَّةَ وأحملُ وجعي وأرقى إلى سدرةِ المنتهى.. أرقى إلى سدَّةِ الكونِ وأبكي بخضوعْ… بخضوعٍ كأنني في حضرةِ عشتارْ .
أحبُّكِ وأتساءلُ ما معنى أن يترككِ العالم في هذا الليلِ التتريِّ القاسي .. أينَ التأثيرُ الفعليُّ للشعوبِ والحُكَّام ؟ أليسوا بشرا مثلنا…. ألسنا بشراً مثلهم ؟
كلُّ ما يحصلُ من شجبٍ واسنكارٍ لا يوقفُ دم طفلٍ واحدٍ يسيلْ على صدرِ الأرضْ …. أنتِ وحدكِ يا غزَّة ونحنُ العربُ نتفرَّجُ على مسرحيَّةِ موتكِ المُعلَّقةِ على تاريخِ هزيمتنا فهل نحنُ بشرٌ.. هل حكَّامنا بشر ؟ لستُ في محفلٍ لتعريةِ الذاتِ أو جلدها.. أبداً.. ولا أقصدُ سخريةً ما في قولي هذا فنحنُ اليوم أبعدُ ما نكونُ عنها ولستُ هنا بصددِ مناقشةِ فكرة أيديولوجية أو أرمي إلى استفهامٍ حولَ الهوِّيةِ العربيِّةِ البائسة .. لا شيءَ غيرَ ما يلتاعُ بي من تلكَ الحادثةِ المستنكرةِ الغريبةِ والتي تذكرتها الآن وكانَ حدثَّني بها صديقٌ صدوق حينَ قالَ لي أنهُ تراسلَ كتابياً عبر الشبكةِ العنكبوتية مع فنانةٍ تشكيليةٍ وكاتبةٍ من أصلٍ عربي تعيشُ في عاصمة ألمانيا برلينْ منذُ سنواتٍ عديدة . وحاولَ أن يسألها بفضولِ جاهلٍ عن طبيعةِ الحياةِ هناك وما إذا كانَ هناكَ تشابه معيَّن بينَ الحياةِ في دولةٍ عربيةٍ والحياة في دولةٍ أوروبيةٍ كألمانيا ؟ وحاولَ أيضاً بسذاجةٍ أن يستفزَّها بسؤالٍ آخر حولَ الفوارقِ الأساسيةِ التي يتميَّزُ بها الإنسانُ الغربي عن الإنسانِ العربي المقيم في الأقطارِ العربيةِ.. فأجابتهُ حينها إجابةً لاذعةً واصفةً العربَ بأقلِّ من بشر وقالت كلاماً ظلَّ في نفسي كالجمرِ المتوقدِّ لا يخبو أبداً .
ردَّت الفنانةُ التشكيلية والكاتبةُ العربية بسؤالٍ آخر وهو ” هل العرب بشر ”
حتى نقارنَ بهم الشعوب الأخرى المتحضِّرة ؟ ونصحتهُ أن لا يستفزَّها بشأنِ أبناءِ جلدتهِ العربْ وأن يبتعد عن هذهِ الأفكار التي تزعجها والسخيفةِ أشدِّ السخفِ في نظرها. وقالتْ أنهُ إذا أرادَ أن يقارنَ العربَ بشيءٍ فليقارنهمْ أوَّلاً وقبلَ كلِّ شيءٍ بغيرِ البشرْ وبعدها بأيِّ شيءٍ آخرَ يدبُّ على قدمينِ أو أكثرْ . ولكن حتى الحيوانات الضارة لا يجوزُ قتلها بهذه الطريقة فما بالك بالبشرْ .. كلُّ الضلالية والإنفصام النفسي والبعدِ عن الحقيقةِ لدى المنشقِّين عنَّا من ” المفكرِّين والكتَّابِ والفنانين ” لا يبرِّرُ قتلَ طفلٍ واحدٍ منَّا .
الآن وفي ظلِّ عجزنا وعدمِ تأثيرنا وهواننا على الناسِ يطفو على السطحِ هذا السؤالْ ويسيتيقظُ في الضميرِ الإنساني في أحلكِ الفتراتِ التي واجهت وتواجه أهلَ غزَّة خصوصاً والفلسطينيينَ عموماً ويقفُ حيالها العالمُ عاجزاً لا عن توفير العيشِ الكريم للإنسان العاديِّ بل من أجلِ وضعِ حدِّ لهذا الوضع الذي لم يعد يطيقهُ حتى الحجرْ.. ومن أجلِ وضعِ حدٍ نهائيٍّ لشلالاتِ الدمِ والدموعِ.
أعترفُ أن سؤالَ الكاتبةِ المُتأوربةِ يثيرُ الاشمئزاز وهو لا يصدرُ عن عقلٍ سويٍّ ويحملُ كلَّ معاني الوجعِ وهو متجذِّرٌ لا شكَّ في أعماقِ الخسارةِ.. لكن لا أستطيعُ أن أعبرَّ عمَّا ينتابني أنا أيضاً لرؤيةِ هذا الدمار الشاملِ الذي لا يستطيعُ عقلٌ أو خيالٌ منطقيٌّ أن يتقبلاهُ .
اليوم عندما أتذكرُّ كلامَ ذلك الصديق أحسُّ بالمرارةِ وبرمادِ الخسرانِ على طرفِ لساني ولا أستطيعُ أن أشمَّ من كلامِ الكاتبةِ العربيةِ المتأوربةِ أيَّ حقدٍ أو روح انهزاميةٍ أو ضلالٍ.. فقط أجلسُ أمامَ مرآةِ العالمِ وأتوجَّع بصمتٍ ولكن بعنفٍ أعمقَ وأشدَّ من ذي قبلْ .
أتوَّجع لا من أجلِ ما حدثَ وما سيحدثُ في الآتي والغدِ بل من أجلِ هذا السؤالِ التائه ومن يقيني بأنهُ لا يوجد في هذا الكونِ قوةٌ واحدةٌ عادلةٌ تقفُ إلى جانبِ العربْ وحقهم المهضوم والضائع في اختيارِ مصيرهم… قوة واحدة لا غير تملكُ ضميراً إنسانياً يقظاً بل ومتوهجاً.. تفصلُ بينَ الطرفين وتفضُّ النـزاعَ العبثيَّ الدائرَ منذُ ما يقربُ المئةَ عامٍ وأكثرْ .
نحنُ لسنا مخلوقاتٍ هلاميةٍ ولا كائناتٍ سرياليةٍ تعيشُ على هذهِ الأرضِ الحبلى بالألمِ منذُ النبيِّ آدم.. والمحمولةِ كصخرةِ سيزيف على أكتافِ بنيها.. نحنُ بحاجةٍ إلى حلِّ موضوعيٍّ ونهائيٍّ لهذهِ القضيةِ المتأرجحةِ على كفِّ عفريتٍ أجنبيٍّ.. حلٍّ يمكِّنُ الشعبينَ من العيشِ بسلامٍ وأمنٍ عادلين وشاملينْ .. ولسنا بحاجةٍ إلى حربٍ ودماءٍ وأشلاءٍ وجنونٍ ومعاركَ استنـزافٍ سياسيِّ عقيمٍ لا يغني ولا يسمنُ من جوعٍ… وكفى .
خاص – صفحات سورية –