صفحات سوريةموفق نيربية

انتصارات وهزائم هذا الزمان

null


موفق نيربية

إن كانت الولايات المتحدة لا تستطيع حتى الآن إثبات انتصارها في العراق، ويُرهقها الأمر، فلن تستطيع السلطات العربية، والسورية خصوصاً، أن تدّعي انتصاراً على حركة التغيير الديموقراطي، من خلال الاعتقال أو القمع والمنع والحجب وكل الأفعال الزاجرة المُرهبة.

لا أذكر من قال «لو حقّقنا انتصاراً آخر مثل هذا، لانتهينا»، ولكنهّ يرنّ في الأذن كثيراً هذه الأيام. ربّما يبدأ الأمر بالانتصارين الكبيرين للولايات المتحدة في أفغانستان والعراق، وقد لا ينتهي عند مزاعم الانتصارات العربية من فترة إلى أخرى.

في المثال الأول، يخشى الكثيرون من كارثة تبدأ بالتراكم إذا قرّرت الولايات المتّحدة حلّ الخلاف مع إيران على الطريقة العراقية. وفي المثال الثاني، لا نفتأ نذكر حرب يونيو الشهيرة، أمّ هزائمنا، ولو بالتبنّي.

يصف بيير هاسنر هذا القرن بأنه قرن ملتبس، تصطدم فيه الهيمنة الغربية بعوائق جديدة، هي ظهور «منافسين ليسوا بأصدقاء ولا أعداء، وانتصارات عسكرية هي هزائم سياسية، ومقاومات ثقافية لقيم الديموقراطية». والتباس الانتصار بالهزيمة فاجع بالنسبة للعراق والعرب من حولهم، وربما أيضاً بالنسبة للأميركيين.

هذا الالتباس وتلك النظرة يمكن أن تنطبق كذلك على سياسات سلطاتنا في مواجهة ما تراه من خطر داخلي عليها. فهي انطلاقاً من عقلية الغلبة والتمكّن والحيازة، تضع الأجندة الأمنية حجراً للزاوية في سياساتها.

وهي أيضاً، إذ يزداد شعورها بالنقص في شرعيتها على المعيار السائد، تنقضّ على المعارضة الداخلية وتصنّفها في خانة الأعداء، ثم ترتبك في محاولة إثبات أن من يعارض سياساتها خصم للدولة أو الوطن او الشعب كما تحاول أن تُصوّر في بياناتها وأدواتها الإعلامية- الإيديولوجية، لأن هذا لم يعد مقنعا لأحد، حتى لمن يقوله أو يصرخ به.

لم تعد تلك السلطات قادرة على ممارسة العنف العاري على المعارضة ثم تدّعي القوة والمنعة والانتصار. بل لم تعد قادرة على الانتصار أبداً مادامت قضيّتها خاسرة بالأساس، وقضيّة من يُواجهها بديهية ولا تُقاوَم.

وفي الأدب المكرّر أن السحر قد يرتدّ على أصحابه. فلا خطابة في أن نقول إن دعاوى الانتصار أمنياً على الناس والمعارضين باطلة. بل لعلّنا نستطيع البرهان على ذلك أكثر مما استطاعت «الأنظمة التقدمية» ان تبرهن على تفسيرها لانتصارها في حرب يونيو.

إن كانت الولايات المتحدة لا تستطيع حتى الآن إثبات انتصارها في العراق، ويُرهقها الأمر، فلن تستطيع السلطات العربية، والسورية خصوصاً، أن تدّعي انتصاراً على حركة التغيير الديموقراطي، من خلال الاعتقال أو القمع والمنع والحجب وجميع الأفعال الزاجرة المُرهبة، وسيُرهقها الأمر. تلك طبيعة القرن الحادي والعشرين كما يبدو.

كان أحد السياسيين اللبنانيين يردّد دائماً، أن قوة لبنان في ضعفه، وكانت الفكرة صحيحة، لكنها مضحكة لأرباب سياسة القوة السائدين آنذاك دوليّاً وإقليمياً. حاليّاً تعود قيم الحق وتذر قرنها من جديد، رغم مفاهيم الفسطاطين وصدام الحضارات وأزيز الرصاص والطائرات والعبوات الناسفة.

تلتزم المعارضة الديموقراطية –في سورية مثلاً، من جديد- مبدأ نبذ العنف والنضال السلمي، بل تقبل ببرامج متفق عليها تتدرّج باتّجاه التحول إلى العصر، وتطرح التزام خطوات وطنيّة للأمان الاجتماعي أثناء مرحلة التحوّل، لتبديد الهواجس وتأمين ضمانات للجميع بالإجماع. وذلك «ضعف» في عين أهل القوة والعسف والانفراد، لكنه «ضعف» المنعة والمستقبل والاستقرار. ليس مفهومهم للاستقرار بالطبع.

ذكر ميلتون في فردوسه المفقود إن « ذلك الذي ينتصر بالقوة، لا ينتصر إلاّ على نصف أعدائه». وهذا منذ زمن بعيد. حالياً لا يستطيع الانتصار إلاّ على نسبة ضئيلة يزجّهم في السجون أو يمارس قمعه المتنوّع عليهم. وبالنتيجة، لا يمكن أن ينتصر.

نقطة القوة لمثل هذه الأنظمة ومناط أوهامها المظفّرة، تبقى في تركيبتنا الثقافية المقاومة لعناصر الحداثة، والديموقراطية أولها. وهذه «الثقافية» لاتخصّ السمات التاريخية والإثنية والدينية العامة وحدها، بل إفرازاتها الصلبة، التي يحسب الغلاة أنها صلابة في الجسم والأيدي، في حين أنها صلابة وقساوة محصورة في العقل.

فما كان يُسمّيه بوعلي ياسين بالتنبلة الحضارية، هو في الأساس، لا ينطبق ذلك على بعض أهل الفكر والعلم وحدهم، بل على أهل السياسة ايضاً، وحتى في النخب المعارضة التي يُفترض أن تكون الأمعن نقداً في البنى العتيقة، وبناء في البنى الجديدة، «التنبلة الحضارية» هي الكسل واجتناب الإبداع والنقد، والخوف من الجديد الوافد، أو الانبطاح الأعمى له، بحيث لا يجري استقبال إلاّ مظاهره.

يدفع مثل هذا الكسل والعجز معارضين أحياناً إلى البحث عن انتصار ما خارج السياق، أكثر سهولة ويسراً وأماناً ووحدة مع الحكام الذين يعزّزون بذلك، ومن ثمَّ أوهامهم الخاصة.

رغم ذلك، لا يُمكن ادّعاء الانتصار من دون تظهير عناصره، بأن يتلاشى العدوّ أو يتقوقع على نفسه أو يستسلم، وهذا ليس متاحاً في الأمثلة السابقة. في حين أصبح التباسه مع الهزيمة صناعة نافلة… ورائجة!.

* كاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى