لغة القوة في بازار الضعف والهوان

فلورنس غزلان
يموت الفلسطيني منذ ستين عاماً، يُتخذ من موته عزة وفخراً لأمة أدمنت الخُذلان، ولم يعد بتاريخها الحديث سوى تكرار مريع لهزائم متلاحقة ، أنظمة مستبدة قامعة لشعوبها صنعت كل هذه الهزائم لكنها تُحولها بفعل خطابها العقيم لانتصارات!، ولا تحرص على خُلُقٍ أو تاريخ أو حتى قليل من  الحياء، لأنها باعت الحياء وتلبست العار باعتباره صُنعتها وطريقها للبقاء والتمسك بأهداب النهب  وحَلب الشعوب المقهورة ، والتي تفتقد للثقافة الوطنية والروابط الإنسانية، فقد تربت منذ عقود على الصلاة لزعامات تحلف باسم الشعب وتقيم التحالفات والتعاقدات من أجل الشعب لأنها الشعب! وقد تجسد بقوامها الجميل وتقمص كيانها واستحال عيشه إلا من خلال وجودها فوق رأسه!، وحتى لو التقت جميعها من المحيط إلى الخليج تحت هذه اليافطة ، لكنها تتباين في السلوك والهدف وتتناحر على الأدوار حيث يريد كل طرف أن يسحب البساط السلطوي من تحت عباءة الطرف الآخر، والثمن دوما وأبدا ، الضحية الموجودة والمعدة والجاهزة لكل الطبخات الإقليمية والأنظمة الشمولية بملكياتها أو جملوكياتها هي قضية العصر والمنطقة ” قضية فلسطين”. لن أسجل موقفاً ولن ألعن وأشتم رغم ما أحمله من غضب تتفجر من زخمه شراييني وتزدحم كل بذءات الكون فوق لساني ، لكني أستجير بالعقل…ليسعفني كي لا أقع في شراك لغتهم وأمتطي حبال خطابهم..فأصبح دون وعي مني وريثة أخلاقهم تربيتهم ــ لا سمح الله ــ وهذا ما لا أسمح به أن يسرقني من نفسي..سأحاول فقط أن أسجل ما قالوه، رغم أنكم تقرأونه مثلي، لكني سأضعه متواصلاً ومتلاقحاً في تناقضاته، التي تعجز لغات الأرض وتفاهاتها عن الإتيان بما أتوا به…وكل هذا على حساب أطفال فلسطين ، على حساب شهداء غزة ..ومصيبتهم أنهم ولدوا فلسطينيين ، ولدوا في غزة هاشم..وارتبطوا بتربتها..فلا أملاك ولا أطيان لهم خارجها…إنهم فقراء الأرض وأغنياء الانتماء…كُفوا فقط أذاكم وتجارتكم الخاسرة وتجرأوا ولو لمرة واحدة أن تسألوا أهل غزة…هل يريدونكم؟ هل يريدون تشدقكم باسمهم كائنا من تكونوا من أي بقعة في أرض العربان أنتم…سلعتكم السياسية خاسرة في بازاراتكم المفضوحة…إنكم لا تصلحون إلا لإدارة مواخير تليق بلحاكم…كفوا أذاكم عن أهل غزة وأهل فلسطين..كفوا أذاكم ودعوهم يلملمون جراحهم ويدفنون موتاهم…دعوهم يجمعون شتات ما تبقى حياً شاهداً على أكبر جرائم العصر وأفدح مجازر الحداثة والتحضر ، دعوهم يطلقون العنان لدموع الثكالى ، دعوهم يواسون النفس ببعض أمل ربما يأتيهم من أطراف لم تتربى على شعارات الوحدة والقومية والاشتراكية أو تتغنى بأمة الإسلام التي لا تنصاع ولا تهادن ولا تستسلم حتى لو أفنوا غزة ومن ورائها!…
ـــ الرئيس بشار الأسد يخطب في الدوحة وبصفته من دول الممانعة ، وباعتباره المدافع الأول عن القضية الفلسطينية ويصدقه كثيرون منكم!، فيقول وبالحرف :” العين بالعين والسن بالسن، وما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة”.. رائع صفقوا واهتفوا له بالروح والدم، فهذا كلام كبير…وهل هو مسؤول عنه؟ ولمدة كم من الدقائق؟…عجيب أمر الخطب الرنانة وعجيب أمر اللغة المطاطة وأعجب منه أمر من لايخجل حين يقول ولا يفعل…لكن أهل سوريا المبتلاة تعودوا على زعماء تقول ولا تفعل…
ــ فبعد الدوحة بقليل ، ولم يمض على خطاب استخدام القوة سوى ساعات!،  التقى السيد الرئيس بصحيفة ” دير شبيغل” الألمانية والتي ستصدر الاثنين القادم قال:” أن بلاده تتعامل بجدية مع عملية السلام في الشرق الأوسط، وأبدى في الوقت نفسه استعداد بلاده للمساهمة في استقرار المنطقة”!…ترقبوا الحديث وستقفوا على العجائب!
* البارحة في عين الصاحب استباح الطيران الإسرائيلي عرض سورية، وخرج أقزام الإعلام بخطاب ممجوج …سنضرب ونرد في الوقت المناسب والمكان المناسب!
* اخترق الطيران الإسرائيلي جدار الصوت فوق القصر الرئاسي في اللاذقية بينما كان يتجول في صالاته السيد رئيس الجمهورية السورية، وقيل أيضاً ، أننا نحتفظ بحق الرد ..في الوقت المناسب والمكان المناسب!
* منذ عام حرثت طائرات الإف 16 منطقة دير الزور بحجة أن المكان معد لإقامة مفاعل نووي…صرخت أبواق الإعلام وارتفعت مآذنه بالشكوى من استباحة أرض سورية وشرفها…وقالت أنها تحتفظ بحقها في الرد…في الوقت المناسب والمكان المناسب!
* منذ شهرين أو أكثر اخترقت القوات الأمريكية منطقة البوكمال ودخلت قوات كوماندوس راجلة محمولة بطائرات الأباشي…وصالت وجالت وقتلت وكأن الحدود السورية سائبة ومستباحة…ولم يطلق باتجاهها رصاصة واحدة…
* الجولان السوري محتل منذ كان الوالد باني التاريخ والمجد السوري! وزيرا للدفاع معلنا سقوط القنيطرة وانسحاب القوات السورية مخليا كل المواقع لصالح الدولة الأقوى” إسرائيل”ومنذ ذاك التاريخ تشهد الحدود السورية الإسرائيلية أكبر منطقة هدوء وأمن لا يمكنها أن توجد بين دولتين معاديتين بل صديقين جارتين!
علماً أن الشعب السوري وعند كل ورقة أو وثيقة يستخرجها مواطن من دائرة مدنية، يدفع مقابلها مايسمى ” مجهود حربي”!..فأين يذهب هذا المجهود وكيف تسير أقنيته؟ …وخاصة أن النظام وفي كل زاوية من زوايا الوطن يرفع صورة الرئيس وقد كتب أسفلها” نحن دعاة حق وسلام”و ” السلام هدفنا الأسمى” وما إلى ذلك…!
جميل أن نكون دعاة سلام، لكن كيف يتلاقح السلام والدعوة إليه مع قوة نريد أن نستخدمها في مؤتمر” الدوحة ” فقط؟!..هذه الدوحة الصديقة في السراء والضراء، والتي يلتقي زعماؤها مع زعمائنا في مركب النقص وعقدة عظمة يحاول كل منهما أن يشتريها ويراهن عليها في كل الأسواق السياسية ، التي تفتح نوافذها لتلج منه روائح البترول..والأدهى أن النخوة العربية تسيطر والهيبة والوقار والغضب يضفي بملامحه على الوجوه ، التي تتقن أدوارها فوق مسرح دوحة قطر وغيرها من دوحات ورياضات وقاهرات وكله في الهوى سوا..وكما سبق وقلت أن الفارق سلوكي وحِرَفي مربوط بأهداف ومصالح تصب في قوالب إما أنا وبضاعتي أو فليأتي الشيطان.
ـــ الدوحة القطرية تستضيف أكبر قاعدة أمريكية في المنطقة ( عيديد) منها انطلقت طائرات أمريكا لاجتياح العراق، فهل يعني أنها اليوم أكثر عروبة وأخوية من البارحة؟ وما الذي طرأ؟ نعم لقد جمدت علاقاتها مع إسرائيل كي تزاود على عمان والقاهرة ليس أكثر..علما أن الجميع لا يفعل سوى الاجتماع، الشجب ، الاستنكار، جمع التبرعات لإغاثة المنكوبين ــ أي يجمعون من شعوبهم لا من جيوبهم وحساباتهم البنكية ــ نداءات لوقف إطلاق النار، إشادات بعضها بموقف حماس وبعضها يفضل أن يقول من أجل فلسطين ووحدة الصف الفلسطيني!!، لكن النتائج بيد أولمرت وباراك..
ــ ما يثير التقزز ويبعث على الغثيان، ويجعل العاقل يستغيث ببقية من عقل ومنطق ويشحذ بعض ثقافة آمن بأنها سلاحه في وجه الجهل وقصر النظر السياسي واستحالة التعلم أو استنباط العبر لدى بعض أهل الدار الفلسطينية ممن يتحكمون بأقدار غزة، ويطالبون أهلها بالانتحار من أجل بقاءهم هم …نعم…ولكم أن تحكموا…فالمسؤول هو الذي يتحمل جرح كل طفل وموت كل شاب وامراة ويحاول أن يحميهم ويؤمن لهم حياة كريمة وعلم وثقافة وأدب ومعرفة، من خلال مدرسة  ومكتبة وبيت وسكن وكهرباء وصناعة وزراعة وتقنيات حديثة…هذه هي أسس المقاومة..أن تبني وطن…أن تؤمن حياة شعب..أن تؤمن قاعدة لدولة متينة صلبة في مكوناتها واقتصادها وإمكاناتها الإنسانية، دولة تعتمد على مقوماتها الذاتية لا على عدوها ، لا أن تأخذها للموت وتطالبها بالموت كي تبقى سلطتك وتثبت سياستك بوجه العرب وإسرائيل..
*ــ تعلن حركة حماس وعلى لسان أحد قادتها” أسامة حمدان” ممثلها في لبنان:” إعلان أولمرت وقف إطلاق النار من جانب واحد إعلاناً للخيبة الثانية بعد خيبته عام 2006 في لبنان…وأن الحرب المجنونة لم تحقق إنجازا ..مستشهدا بعدم قدرة إسرائيل تحديد مصير الجندي الأسير جلعاد شاليت”!
وعلى لسان السيد رمضان عبد الله مسؤول حركة الجهاد الإسلامي يقول:” قرار إسرائيل دليل فشل ، وإذا كان هدف إسرائيل تدمير الواقع السياسي لحماس كقوة وتنظيم فقد فشل ، فحكومة حماس في غزة شرعية، ويعلق على قول أولمرت أنه دمر البنية التحتية لحماس فيقول:” البنية الأساسية للمقاومة هي الإنسان الفلسطيني المتمترس على أرضه”!!.ويأتي خالد مشعل ليضيف من دمشق مؤكداً:” أن الحركة لن تقبل الشروط الإسرائيلية لوقف النار، وأن حماس لم تهزم على أرض غزة”!
مراسل لإذاعة الشرق من غزة يقول على لسان مسؤولي حماس:” أن قبول إسرائيل وقف إطلاق النار من طرف واحد نتيجة انهيار أعصاب جنودها واندحارهم أمام قدرة المقاومة”!
قتل من الجيش الإسرائيلي 13 جنديا!!.
للتذكير فقط وكي لا ينسى زعماء حماس والجهاد، حتى الظهيرة وما يزال انتشال الجثث المدفونة والمتعفنة ، والتي لم تستطع القوى العاملة أن تصل إليها أثناء القصف وصلت أعداد الشهداء إلى 1300 شهيد بينهم 417 طفلا و 108 نساء و 120 من كبار السن بالإضافة على 5320 جريح معظمهم إصاباتهم حرجة!…ومع هذا فقد فشلت إسرائيل!!…ومع هذا فإن البنية الأساسية لحماس هو الإنسان الفلسطيني!…قاوم أيها الفلسطيني في غزة قاوم…اذهب للموت ليقال أن إسرائيل فشلت في القضاء على سلطة حماس…لكنها بكل تأكيد لم تفشل في زرع الموت بكل بيت من بيوت غزة ، ولم تفشل بتدمير كل حجر قائم وشاهد في غزة.
ولم تفشل في حصد أرواح أطفال غزة…لكن هذا بنظر الجهاد وحماس وكل المزاودين صمود ومقاومة وفشل لإسرائيل!
السيد عبد الباري عطوان يصرخ من مكتبه اللندني قائلا:” أن أهالي غزة لا يريدون مساعداتكم الغذائية والدوائية، وإنما أسلحة ومواقف رجولية” ما أجمله من خطاب!
لماذا لا تذهب بنفسك كفلسطيني وتشارك في المعركة؟ لماذا لا تجمع من أصدقاءك أصحاب الجيوب المتخمة أموالا لشراء أسلحة؟…لماذا تريد لأهل غزة فقط أن يموتوا لتتكلم باسمهم؟! من منحك حق التكلم عنهم وأنهم لا يريدون غذاء ولا دواء..يريدون سلاحا كي ترسل بهم للموت!! أنت وخالد مشعل من دمشق حين يقول:” أرض غزة لم تهزم”!! كيف تكون الهزيمة بربكم وكيف يكون النصر؟بعد كل هذا الموت وهذا الدمار!!أي نوع من البشر أنتم؟ هل تلقنتم دروسا بعد كل هذه الهزائم ؟ …وكيف يحلو لكم أن تقارنوا ما جرى في غزة بما جرى في لبنان 2006؟ من قاوم آنذاك ليس حزب الله وحده كان وراءه كل الشعب اللبناني…كان معه كل الشعب العربي وحتى هذه الحكومات الجبانة بمعتدليها وممانعيها..كان معه العالم…لكن غزة استشهدت وحدها
وعلى مرأى منكم ومن العالم!!..
ما يمكن فعله اليوم وبتصميم وصلابة…هو عدم اللجوء لجامعة عربية أو دول عربية
بل السعي من خلال كل المنظمات الإنسانية العالمية وقبل أن تُمحى آثار الجريمة وقبل أن تُزال معالم المجزرة…وقبل أن تُزَّور شهادات الحق، أن تجمع كل الوثائق والصور وأن ترفع قضايا ضد مجرمي إسرائيل من النازيين الجدد مرتكبي الهولوكوست الفلسطيني…ضحايا الأمس مجرمو اليوم..أن ترفع دون إبطاء ودون تهاون وبجلد وصبر وتحمل دون كلل أو إحباط إلى المحكمة الجنائية الدولية ضد أولمرت وباراك ورئيس حربه وأركانه وقائد قواته في استباحة غزة…إنها الطريق الوحيد ليتكلل وجه إسرائيل بعارها الأبدي وتلاحقها أشباح المجزرة في كل محفل وكل مقام لا نعتمد في هذا سوى على الشباب الفلسطيني والمثقف الفلسطيني المتنور ، والذي يتقن الخطاب مع الآخر وفهم لغة العصر وكيفية كسب الوقت وكسب معركة مهمة يسجلها لهم التاريخ…حينها نستطيع أن نقول أننا نسير في طريق سياسي صحيح بعيد عن المزاودة والدجل والنفاق والمتاجرة بدم الأبرياء.
ــ باريس 18/01/2009
خاص – صفحات سورية  –