قضية فلسطين

أنتم الأمناء لخزيكم

منذر خدام
منذ نحو أسبوع قمت بزيارة أحد الأطباء، للاستفسار عن بعض العوارض التي بدأت تظهر على سلوكي، مثل السير في الغرفة أمام التلفزيون، ضرب كف بكف بدون دواعي ظاهرة، التفكير العميق والمصحوب بشرود شديد عما حولي، السباب المفاجئ الذي ينطلق من فمي كلما نظرت باتجاه التلفزيون، الذي لا أفتحة عادة إلا على نشرات الأخبار، وهذه ظاهرة غير مألوفة لدي، لكنها أذهلتني خوفا من أن تتحول إلى عادة فتذهب ما هو معروف عني من “رصانة”..الخ. باختصار ما إن دخلت عيادة الطبيب حتى فاجأني بقوله: أنت تجلس كثيرا أمام شاشة التلفزيون وتتابع الأخبار متنقلا بين محطة وأخرى على مدار الساعة واليوم. علاجك أن تكف عن مشاهدة التلفزيون فتصبح صحتك جيدة. أنت مريض بمرض جديد أصبح مألوفا في منطقتنا هو مرض ” التلفزيون”. ومع أن هذا المرض قد زاد من دخل عيادات الأطباء وزاد من مبيعات أنواع معينة من الأدوية، كما انه زاد كثيرا من مبيعات المشروبات الكحولية، لكنه بدأ يتسبب بمشكلات اجتماعية كثيرة على نطاق الأسر، ويهدر الوقت في العمل نتيجة الشرود، وعدم السيطرة على السلوك..الخ، علما أن العلاج الوحيد له هو الكف عن مشاهدة التلفزيون. أنظر أنا نفسي قد شفيت تقريبا من هذا المرض فلم أعد أشاهد أكثر من خمس محطات، ولم اعد أصرخ في نومي، بل أحكي في يقظتي فقط، ولم اعد اسب بعض الحكام، بل جميعهم، علما و ” الله “، لا أشتغل بالسياسة التي يكرهها الحكام، مع أنني أحب وطني كثيرا، وقد استقر ضغطي بفضل مخفضات الضغط التي أتناولها في كل صباح مصحوبة بحبة أسبرين-81، عند حدود لا تزال مرتفعة نسبيا لكنها ليست مهددة لحياتي على المدى القصير… ” ولك ياخي مافي داعي تخسر أجرة المعايدة، الله وكيلك معك ضغط مرتفع من كثرة مشاهدة التلفزيون، ليك العيادة مليانة بمرضى الضغط المرتفع من جراء مشاهدة التلفزيون. بس نشالله ما تكون ضربت زوجتك أو أحد أولادك وأزيته كما فعلت أنا البارحة..”
ما إن سمعت ما قاله الدكتور حتى غادرت غرفته دون أن أنبس بكلمة واحدة، لكن ما إن أصبحت في الشارع حتى انطلقت أكلم نفسي بصوت مسموع لا يخلو من بعض التضرع إلى الله الذي اعلم علم اليقين انه لن يفيدنا في شيء ما لم نفد أنفسنا، ولن يغير فينا من شيء ما لم نغير أنفسنا، وتذكرت حينها تعليق صديقي المشاكس،” وما نفع تضرعك عندئذ”. مع ذلك أجد أن المناداة ” يا الله ..” في مثل هذه الحالات تساعد كثيرا في إطلاق الهواء المحتقن في الرئتين فنشعر بعدها بشيء من الارتخاء…..
وما إن لفظت “التضرع” الأخير لأطلق بعض الهواء المحتقن في رئتي، حتى فاجأني صوت انطلق عن يميني ” بس يا أستاذ لهذه المناداة وظيفة أخرى، فهي تلهم المقاومين في غزة، كما ألهمت المقاومين في لبنان..”.رد عليه صوت آخر انطلق من يساري معترضا على الصوت الأول: ” وتلهم أيضا أولائك الإرهابيين الذين يقتلون الأبرياء في أمكنة أخرى..”. عندئذ تدخل صوت ثالث ليقول: وهي تخفي عجزنا أيضا أمام حكامنا…”. وما إن التفت حولي لأتأكد من أن الأصوات التي أسمعها، ليست هلوسات صادرة عني كمؤشر على خطورة المرحلة المرضية التي وصلت إليها حالتي، حتى وجدت نفسي أسير في الشارع وسط مجموعة من الرجال والنساء كل منهم يتمتم على طريقته، حول ما يجري في غزة، وحول موقف الحكام العرب منها، وحول زيف الأخلاق السياسية الغربية وانتقائية مواقف الحكومات الغربية المتحضرة جداً من قضايا السلام والحرية والديمقراطية.. وعندما حاولت أن أعيد ترتيب هذه التمتمات وتركيزها حول ما يجري في غزة بشيء من الهدوء والعقلانية، قاطعني صوت نسائي” و لك يا أستاذ شو عم تضحك على نفسك، عن أية عقلانية عم تتحدث، ما هو مبين عليك قديش ريكبك العقل، وأنت ميشي بالشارع عم تحدث نفسك متلنا، ليش بقي عندنا عقل بعد اللي عم يجري في غزة، وبعد موقف الحكام العرب المخزي، وانفضاح زيف الأخلاق الغربية..” وارتفع صوت آخر أخذ يكمل ما تحدثت عنه: انظر يا أستاذ عندما انفجرت الأزمة بين روسيا وجورجيا أقام الغرب العالم ولم يقعده حتى تخيلنا أنها الحرب العالمية، مع أن جورجيا كانت المعتدية. أما عندما شنت إسرائيل حربا عدوانية مدمرة على الفلسطينيين المحاصرين والمنهكين، وقف الغرب ذاته إلى جانبها متجاهلا حجم الدمار الذي أحدثته آلتها الحربية التي تحمل العلامة الأمريكية، والدماء الغزيرة التي تسيل هناك.” والله ولك خيي لو بيموت نصف سكان غزة ولا تموت قطة إسرائيلية، بدو يظل الغرب وأمريكا مع إسرائيل، هذه هي الأخلاق الغربية. منستاهل والله هيك وأكثر. وين ثرواتنا وين جيوشنا أخ…”. وقد هممت بقول بضع كلمات تخفف من حدة التمتمة المسموعة حتى لا تنحرف عن اتجاهها، لكن صوت آخر انطلق بعيدا عني هذه المرة يقول ” بالروح بالدم..” وقبل أن يتابع قاطعته وقلت له ” ينبغي أن تبقى في إطار العقل ” حتى لا يتهمك بعض من كان متطرفا يسارا، وأصبح في الوقت الراهن شديد “العقلانية” لا لشيء سوى لـ “كبر” عقله ورجاحته، وهما صفتان قد اكتشفهما مؤخرا، وبعد معاناة طويلة، تلك الرجاحة التي وجدت في قذف مواطن عراقي لبوش بحذائه، ومحاولة حماس الدفاع عن شعبها نوعا من الفروسية التي تحتكم إلى العاطفة وليس إلى العقل. لقد أصبح بعضنا،( بالعقل طبعا)، يرى في غزو العراق وتدميره وتشريد أهله، وقتل ما يزيد عن المليون شخص من أبنائه عداك عن نهب ثرواته استجابة موضوعية للتاريخ أي للعولمة، وبالعقل ذاته يتم التبرير لإسرائيل احتلالها لفلسطين وتشريد أهلها، وحرمان من تبقى منهم على أرضه من أبسط مقومات الحياة. أما أن تحاول المقاومة الاحتجاج على محتليها، حتى ولو بحذاء أو بـ “فتيشة” سميت صاروخ تفخيما، فهذا يقع خارج التاريخ، لا تسمح به العولمة. المشكلة بحسب هذا العقل ليس في الاحتلال، بل في مقاومة الاحتلال. إنها العقلية التي أصبحت معروفة بـ “الصفر الاستعماري” تلك العقلية التي لم تترك أي مكان للمشاعر والعواطف، بل لـ ” للحكمة فقط”!!.
عند هذه النقطة من موعظتي لصاحب الصوت الهاتف ” بالروح..” التي ردته على ما يبدو إلى جادة الحكمة والتعقل، تناهى إلى سمعي صوت ضعيف يقول: ماذا كان ينتظر الزيدي أو غيره لو رمى حذاءه في وجه أي حاكم عربي، بل في وجه أحد من أعوانه حتى المرتبة…”.
لم أتفاجأ أن يأتيني هذا الصوت خافتا، فنحن جميعا نتمتم بأصوات غير مسموعة حتى ضمن الجدران المغلقة(أقنعونا بأن للجدران أذان!!!)، عندما يتعلق الأمر بحكامنا. فالمنكرات كما تقتضي الحكمة المحمدية ينبغي مقاومتها باليد، لكن الأيدي قد قطعت أو شلت، أو باللسان لكن الأفواه قد كممت، ولم يبق متاحا لنا سوى ” أضعف الإيمان “، وحتى في هذه الحالة الويل لمن لم يتق!!.
لم يكد زميلنا في “التمتمة” يهمس بما همس به حتى طارت أزرع كثيرة لتغلق فمه على لسانه وهي تقول له هامسة أيضا ليس الوقت مناسباً، ” قد يكون بيننا بعض المندسين المدربين على التمتمة “.
لقد تابعت سيري مع المتمتمين الذين أخذوا يتزايدون كلما قطعنا خطوات إضافية في الشارع الذي نسير فيه، وأخذت التمتمات تصبح أصواتا جهورية، بل صراخا في وجه الهواء.. وما هي إلا دقائق حتى اعترضنا ركب محمول في بضع سيارات أحاطت بنا، نزل منها كبيره ليقول لنا بصوت آمر: اذهبوا إلى بيوتكم وتمتموا هناك، لقد سمحت السلطات لكم بالتمتمة فيها للتنفيس فقط، فلم يعد هناك من أمكنة في المستشفيات تستوعب مرضى الضغط المرتفع… لكن حذار أن تتحول تمتمتكم إلى مواقف!!!
ذهبت إلى البيت، دخلت غرفتي، واستلقيت على تختي، وأخذت أنظر في سقف الغرفة وما هي إلا لحظات حتى تراء لي إني أقرا عليه أشياء بدت لي معلومة. مما قرأته لا أزال أذكر:
-ما هذا الذي يسمى شعبا ينتشي كثيرا من سفك الدماء، عندئذ تذكرت “تاجر البندقية”
-ما هؤلاء العربان الذين يكثرون البكاء والنواح، عندئذ تذكرت أن وجود الأطلال للبكاء عليها من عناصر النظم العربي…
-ما هؤلاء الحكام العرب، عندئذ تذكرت أنهم مغتصبون لمواقعهم، عملاء لغيرهم… لا يهمهم من أمر شعوبهم شيئا
-ما هذا العالم المتحضر، عندئذ تذكرت أن الحضارة على النمط الغربي بلا أخلاق..إلا تلك التي تباع وتشرى…
وفي لحظة من لحظات قراءتي لهلوساتي وجدت نفسي أصرخ بصوت مدوي: أين أموالكم؟ أين نفطكم؟ أين جيوشكم… ؟ عندئذ أدركت أن ” واااا …. معتصماه” ليست سوى كذبة كبيرة. فأنتم الأمناء على خزيكم…. وما إن رددت إلى حالة الوعي حتى سمعت صوتا يقول لي : الحمد لله على السلامة، خروج الدم من أذنيك أنقذك… التفت باتجاه مصدر الصوت لأجد نفسي في ما يشبه المستشفى….

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى