غزة تنتظر، هي أيضاً، شيئاً من العالم ومن مصر
حسن شامي
فترة الانتظار انتهت. فقد أقسم باراك حسين أوباما اليمين الدستورية على مرأى العالم كله وسط احتفال حاشد ومليوني مهيب، ليكون أول رئيس أميركي من أصل أفريقي. وهذا، في حد ذاته، انجاز هائل بالنظر الى تاريخ الأمة والمجتمع الأميركيين وبالنظر الى الموقع العالمي والمعولم لأميركا منذ قرن ونصف القرن على الأقل، أي منذ نهاية حرب الانفصال في ستينات القرن التاسع عشر. بقي العالم كله، خلال شهرين ونصف الشهر، في انتظار أوباما (وليس غودو).
ومن نافل القول ان الانتظار هذا كان، وما يزال، مصحوباً بلهفات وتطلعات ورجاءات تلقي على الرجل عبئاً ثقيلاً قد يفوق طاقته الإنسانية المشدودة بالضرورة الى واقع المصالح والمـــواقع وانقسام البلدان والمجتمعات حيالها وحولها. إنه عبء الرجل المخلّص، على ما تلهج أدبيات كثيرة في غير بلد. وصورة الخلاص المعقودة عليه هي على قياس الرغبة العارمة في التخلص من سلفه وسابقه، أي جورج بوش. وهذه ليست دعوة لتشريح صورة الخلاص وتوظيفاتها، بقدر ما هي طريقة للقول ان عالمية الانتظار لا تعني ان العالم المتشكل من بلدان ومجتمعـــات وثقافات متنوعة يتوقف عن الحياة وأزمنتها. ليس هناك وقت ميت في حياة البشر. يمكن لإيقاع عيشهم أن يتسارع أو أن يتباطأ. بعبارة أخرى، أشكال الانتظـار وتعبيراته وما يفعله البشر خلاله، هو ما يعنينا لأنه أكثر اتصالاً بواقع المجتمعات وتاريخها.
ثمة، في الانتظار، من يقلّب رواية أوجاعه وكوابيسه، وثمة من يفعل أشياء رتيبة لقتل الوقت كما يقال مجازاً، وثمة أيضاً وخصوصاً من يجعله فرصة لفرض أمر واقع في محاولة لاستباق الأمور. حرب غزة هي شيء من هذا القبيل، لقد انتهز قادة الدولة العبرية فترة الانتظار الانتقالية واقتراب موعد الانتخابات الإسرائيلية التي كانت ترجّح، وما تزال، فوز زعيم ليكود بنيامين نتانياهو، لتوضيح صورة يبدو أن منتظرين آخرين أملوا في أن تشهد بعض «الغموض البنّاء» أو ربما بعض التبدل. يبدو أن الحاجة كانت قوية لتوجيه رسالة لكل من يخامره الظن بإمكانية الاحتكام الى أي تصور لا يستند الى واقع ميزان القوى، الى لغة الغلبة واشهار القوة العارية. والرسالة هذه هي، في نهاية المطاف، استعراض للقتل الخام ولأغراض «تربوية». لم يكن لقتل المدنيين، بالجملة وبالمفرق، ولاستخدام الأسلحة المحظورة دولياً، مثل الفوسفور الأبيض و «الدايم» المسبب لسرطان الأنسجة، أي وظيفة سياسية حقيقية. الوظيفة، هذه المرة، «تربوية»، وفي اتجاهات عدة تتراسل مع تعدد طبقات الأمن الإسرائيلي ومتطلباته. يمكن لشخصيات أوروبية رسمية وغير رسمية، أن تتحدث عن «عدم تناسب» بين حجم التهديد الذي تمثله حركة حماس ومنتخبيها في غزة وبين استعراض القوة الفالتة من أي عقال. وسيكون على مناصري اسرائيل في الغرب أن يبذلوا جهوداً مضاعفة لتسويق العقاب الجماعي الذي مارسته القوات الإسرائيلية على شعب محاصر. فبعض فلاسفة «السباغيتي» (بحسب عبارة جيل دولوز)، مثل أندريه غلوكسان وبرنار هنري ليفي وغيرهما في فرنسا، حشدوا طاقة استثنائية لتبرير بلاغة القتل وتقنياتها. على أن الرسالة الى منطقتنا الموصوفة جوهرياً بعبادة العنف تتخذ صورة هتلرية صريحة مأخوذة من الأدب الاستعماري وتمثيلاته: ثمة شعوب، خصوصاً العرب، لا يفهمون إلا لغة القوة. إذاً «حسّك عينك»، أي إياك ان، الويل لك إذا… الخ.
لقد سبق لهنه أرنت أن توقفت عند الأفق الانتحاري لمقولة أن الأمن يكون كلياً أو لا يكون، وتكون السيطرة كلية أو لا تكون. فالأمن الإسرائيلي، في عقيدة قادة الدولة ودورها، يتدرج على ثلاث مراتب لا يمكن الفصل بينها وإلا انهارت العمارة كلها: هناك أمن كياني، وأمن اقليمي، وامن استراتيجي قال آرييل شارون أثناء غزو لبنان في 1982، إنه يصل الى حدود الاتحاد السوفياتي سابقاً. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي لم تتقلص حدود الأمن كما قد يخطر للبعض، بل، على العكس، أصبح عالمياً.
ولم يكن صعباً على الدولة العبرية وقادتها أن يجدوا ذريعة لتوضيح الصورة التي تجعل من طبقات الأمن الثلاث المشار اليها بنياناً مرصوصاً. فالقوي لا يعدم حيلة شرعية أو غير شرعية لتظهير ارادته، كما يستفاد من الحرب الأميركية على العراق. والذريعة هذه تجسدت في عرض غانغستري على حركة حماس، لا يمكن لهذه الحركة أو لأي حركة تحترم تمثيلها الشعبي والوطني، إلا أن ترفضه، خلافاً لقولة المافيات الشهيرة عن العروض التي لا يمكن رفضها. لقد بدأت إسرائيل بشن غارات على غزة مستهدفة كوادر حماس ثم زادت من قوة الحصار وطلبت من الحركة ذاتها أن تمدّد التهدئة. ويعني هذا، في ظل الانقسام الفلسطيني والعربي الإقليمي، تعميق الهوة وفتح الباب على التراشق بتهم العمالة والزبانة والتواطؤ.
إرباك مصر، المرتبطة جغرافياً وتاريخياً وانسانياً بقطاغ عزة، لم يكن خارج حسابات الدولة العبرية، وقد جرى الإفصاح عن ذلك بصلافة (سينيكية) كبيرة. فإطلاق وزيرة الخارجية الإسرائيلية تهديداتها بشن الحرب على غزة من قلب العاصمة المصرية وعشية هذه الحرب كان، في أغلب الظن، مقصوداً وليس تعبيراً عن افتعال. فتسيبي ليفني سعت على الأرجح الى تبديد أي التباس في ما يخص «استدعاءها» الى مصر للتشاور والتباحث بعد تصاعد نبرة التهديد الإسرائيلية. ليس مطلوباً من الإدارة المصرية أن تعلن الحرب ولا أن تمرّر السلاح الى غزة. ولكن ألم يكن ممكناً الاحتجاج على إطلاق التهديدات من القاهرة؟ ثمة من يرى أن كلفة مثل هذا الاحتجاج قد تكون باهظة إذ يمكن لإسرائيل أن تعتبره تواطؤاً مع حماس، وإعلان تهديد بالحرب ربما وبالتالي. وهذا ابتزاز محض. وهو ابتزاز يطاول جملة الموقع السياسي الذي يمكن أن تلعبه مصر حاضراً ومستقبلاً، ناهيك عن تعهد العلاقة التاريخية بين مصر والمسألة الفلسطينية، كما أشار الرئيس حسني مبارك في خطابه في الكويت. لنقل ان الابتزاز هذا قد يتسبب بسوء تفاهم بين مصر وبين ثقلها التاريخي والاقليمي.
الحياة