الملاحظات الخمس
خالد غزال
من دون اي حساب للزمن او لردود الفعل العالمية والعربية والاسرائيلية المعارضة للغزو، تستمر اسرائيل في “محرقتها” ضد الشعب الفلسطيني في مناطق غزة، فيما لا يزال هذا الشعب ينوء تحت وطأة العدوان الوحشي وآلته العسكرية المخلّفة الآلاف من الشهداء والجرحى، في ظل مقاومة جريئة تسعى الى الصمود في وجه الزحف الهمجي للجيوش العسكرية الاسرائيلية على رغم الاختلال الكبير في ميزان القوى لغير صالحها. ولا يزال الوضع العربي في الآن نفسه عاجزا عن تقديم عون حقيقي بعيد عن الكلام من أجل فك الحصار المضروب على غزة. في السياق نفسه، يشهد العالم العربي تحركات على شكل تظاهرات واحتجاجات امام السفارات تتفاوت في حجمها بين بلد عربي وآخر، وعلى الرغم من اهميتها الكبيرة، الا انها لا تزال مقصرة عن ان تكون في حجم المأساة وفظاعة القتل الوحشي السائد. يستدعي التحرك العربي “الداعم” للشعب الفلسطيني في معركته الراهنة ملاحظات حول طبيعته والعوامل التي تجعله قليل الفاعلية ويعبّر عن نفسه ضمن هذه الحدود المخجلة.
الملاحظة الأولى: يعبر الموقف العربي الراهن بأشكاله المتفاوتة عن المدى الذي وصل اليه العجز العربي وانعدام القدرة على استخدام مقومات القوة التي تملكها البلدان العربية في جميع المجالات. لا يعني دعم الشعب الفلسطيني في محطته الراهنة ان تلجأ الجيوش العربية الى فتح الجبهات، بعدما بات هذا الامر خارج البحث لدى الانظمة العربية. لكن العرب يملكون من القوى المالية والنفطية والاقتصادية ما يسمح لهم بأن يشكلوا قوة ضغط على الولايات المتحدة الاميركية واوروبا تضع حداً للهمجية الاسرائيلية وزحفها. وهذا أمر لم تتحدث عنه الدول العربية مطلقا، بل ان جل دعمها كان عبر بعض المساعدات الانسانية فقط.
الملاحظة الثانية: ان ما اصاب القضية الفلسطينية من وهن على امتداد العقود الماضية، والضربات العسكرية التي تلاحقت ضد قوى الشعب الفلسطيني، وانتقال القضية الى مرحلة جديدة من نضالها المتمركز في الداخل الفلسطيني وانخراطها في اتفاقات سلام، كلها عوامل حدّت من زخم القضية الفلسطينية في وصفها القضية المركزية للبلدان العربية والتي تمحور النضال الوطني والقومي حولها منذ عام 1948. هكذا، لم تعد فلسطين “الرافعة التاريخية” وعنصر التثوير وملهمة المناضلين العرب من اجل تغيير الانظمة العربية وتحقيق احلام الشعوب العربية. لكن ذلك لم يلغ كون القضية الفلسطينية ظلت ذات طابع مركزي في العالم العربي وبوابة اساسية في مواجهة المشروع الصهيوني والامبريالي في المنطقة.
الملاحظة الثالثة: ساهمت الانقسامات الفلسطينية – الفلسطينية في اضعاف موقع القضية الفلسطينية داخليا وعربيا ودوليا. منذ انطلاقة الثورة الفلسطينية عام 1965 على يد حركة “فتح”، وعلى امتداد القيادة التاريخية لياسر عرفات، انحكم الوضع الفلسطيني في نضال طويل من أجل المحافظة على القرار الوطني المستقل الذي كان همّ الانظمة العربية منذ 1948 مصادرته وإلحاق القضية بسياساتها، وهو نضال لم يكن اقل صعوبة ومشقة على الشعب الفلسطيني من مقاومة الاحتلال الاسرائيلي. وهو أيضا نضال امكن من خلاله بلورة الشخصية الوطنية الفلسطينية التي تظل اهم انجازات الثورة الفلسطينية على امتداد تاريخها. بعد وفاة عرفات، وخصوصا بعد اجتياح اسرائيل للضفة الغربية وقمعها الانتفاضة عام 2002، على غرار ما هو حاصل اليوم في غزة، دخل الوضع الفلسطيني في مرحلة من الانشقاقات والانقسامات الداخلية سعت من خلالها بعض الدول العربية الى الالتفاف على القضية من أجل إلحاقها بها. شكل انقلاب حركة “حماس” على السلطة الوطنية الفلسطينية عام 2007 ذروة الإضعاف للوحدة الوطنية الفلسطينية، وخصوصا ان الانقلاب اتى في اعقاب انقلاب أسبق على “اتفاق مكة” الذي توصل اليه الاطراف الفلسطينيون الى تفاهمات “وحدوية”. اتى الانقلاب بتشجيع من المحور الاقليمي الايراني – السوري ودعمه، وهذا ما شكّل مفصلا خطيرا في مسار الوضع الفلسطيني الذي باتت مقاليد حيّز كبير منه في يد هذا المحور، وبات معه القرار الفلسطيني لـ”حماس” وعدد من الاطراف الاخرين رهن مصالح هذا المحور.
الملاحظة الرابعة: ترتب على هذا التحول في موقع القرار، تحول آخر تجلى في “تطييف” القضية الفلسطينية و”تمذهبها”، من خلال إلصاقها بالمحور الايراني وما يمثله على صعيد الصراع المذهبي في المنطقة العربية، وهذا ما ادخل القضية الفلسطينية في اسار الصراع المذهبي المندلع في المنطقة منذ سنوات. لم تعرف القضية الفلسطينية في نضالها المديد اي انتماء ديني او طائفي او مذهبي. فقد كانت بحق القضية الجامعة التي تحوي في صفوفها ومؤيديها من جميع الاديان ومن القوى العلمانية الى اي بلد انتموا، وكان هذا الموقع يجعلها “قبلة” لجميع المناضلين في العالم ولمناهضي الاستعمار والساعين الى التحرر الوطني والاجتماعي. تتحمل حركة “حماس” مسؤولية كبرى في هذين “التطييف والتمذهب” للقضية الفلسطينية، مما يجعل هذه القضية موضع انقسام في الشارع العربي ويحدّ من الحماسة والتأييد اللذين كانت تعرفهما سابقا.
الملاحظة الخامسة: اذا كان الموقف النقدي الصارم عن حصار الفلسطينيين يظل موجها الى الانظمة العربية، الا ان الموقف الايراني الحالي والسابق يستحق بعض الكلمات. فعلى امتداد الاشهر الماضية لعبت ايران ومن ورائها سوريا دورا كبيرا في الانقسام الفلسطيني ورعايته مباشرة عبر صلتها بحركة “حماس”. وطلع علينا الرئيس الايراني احمدي نجاد بخطب نارية متتالية عن قرب انهاء دولة اسرائيل و”رميها في البحر” اذا ما تجرأت واعتدت على الشعب الفلسطيني او شنت حربا عليه، وكان هذا الخطاب احد العوامل في تشجيع حركة “حماس” على موقفها الانفصالي التقسيمي. اندلعت الحرب ضد الشعب الفلسطيني بأبشع صورها، لكن الخطاب الايراني اعتمد فتوى على لسان ولي الفقيه فيه يمنع ذهاب متطوعين ايرانيين لدعم الشعب الفلسطيني، وهو موقف لا يتناسب مطلقا مع خطب الرئيس الايراني وتحريضاته و”عنترياته” السابقة.
ان رصد هذه الملاحظات الخمس، يفسر الى حد بعيد محدودية الدعم العربي الرسمي اولا والشعبي ثانيا. وقد يستحق الدعم الشعبي قراءة ابعد، والتمييز بين دول تقع في القلب من الصراع ودول عربية بعيدة عن الحدود الاسرائيلية التي لا يكلفها الصراخ من أجل فتح الجبهات اي مسؤولية.
ان المجزرة المتواصلة في حق الشعب الفلسطيني تطرح مجددا وبكل إلحاح مسألة عودة الوحدة الوطنية الفلسطينية، وخصوصا ان القتال الدائر تنخرط فيه جميع الفصائل، بحيث لا تميز اسرائيل في قتالها بين فصيل من “حماس” وآخر من “فتح”. وتطرح ايضاً عودة القضية الى العمق العربي والكف عن توظيفها من المحور الاقليمي الساعي الى الاستفادة منها في المفاوضات المتلهف اليها مع الولايات المتحدة الاميركية واسرائيل. لم يفت اوان تدارك الحال على المستوى الرسمي العربي، كما لم يتلاش بعد إمكان التوحد حول القضية الفلسطينية وقرارها الوطني من ابناء القضية نفسها. ان تصاعد الزخم الشعبي عبر التظاهرات والضغوط على الحكومات يظل يكتسب اهمية ضخمة، ليس في كونه سيؤدي راهنا الى تغيير في المعادلات وقلب الانظمة كما تتوهم اليوم بعض القوى والتيارات السياسية، بمقدار ما يعيد الى الشعوب العربية املاً في التأسيس لمستقبل مقبل يعود فيه الى هذه الجماهير دور افتقدته على امتداد سنوات ماضية في ظل الاستبداد العربي وتسليط آلة القمع على هذه الشعوب، ويمنحها قدرة على التعبير عن آرائها ومطالبها ¶