صفحات سورية

عواطف سياسية لا مواقف سياسية

null


دلال البزري

اللبنانيون ممن يعيشون في لبنان الآن فئتان: ناس اختاروا تجاهل السياسة تماماً؛ وكأن ازمة لا تعصف بالبلاد. وقرروا ان يتوهموا بان الحياة «عادية» وانصرفوا عن همومها، من دون استبعاد قدوم الموت في اية لحظة. وليست معروفة بالضبط نسبة هؤلاء «المرتاحين»، ذلك ان «إحصاءات الرأي» لا تغطي الا الذين «يهتمون».

لكن الفئة الثانية من الناس أكثر حضوراً في المجالس العامة. افرادٌ «مهتمون» يدلون بدلوهم. ولكن على عكس ما يعتقدون، فان الذي يدلون به هو عواطف سيــاسية؛ لا مواقف سياسية. عواطف كلها سلبية متفاوتة في عنفها و»مدنيتها»: البكاء في لحظة التعبير عن ذروة هذه العواطف. المواقف الودية الباردة؛ والتي تلزم المرء يالصمت إن اراد استمرار العلاقة. عدم الانطلاق المبتهج بهذه المشاعر الا وسط الدوائر «المتجانسة» الخ.

على مدخل كافيتريا احدى الجامعات في بيروت، تقرأ الاعلان التالي: «الرجاء عدم التكلّم بالســياسة او الطـــائفية». بعدما تلاحظ الارتباط الوثيق و«الطبيعي» بين السياسة والطائفة، تطرح السؤال الســاذج: «لماذا المنع وهم طلاب، ومن حقهم…؟». والجواب الذي يعرفه الجميع: «كي لا تتكرّر احداث الجامعة العربية التي حصلت العام الماضي وكادت ان تشعل حربا اهلية… يا ساتر!».

اذا تكلموا بالسياسة، اي بالطائفية، يتقاتلون ويتراشفون بالحجر ويحرقون السيارات ويمارســــون القـــنص…! وهذا صكّ لا ريب في دلالتــــه على ان الذي يبطنه اللبناني في السيـــاسة ليس موقفاً (أو مواقف)، بل عواطـــف سياسية عفوية وسلبية.

يمكن للمرء ان يناقش الى ما لا نهاية في ما اذا كان من الافضل ان تكون هناك مواقف لا عواطف. واذا كانت المواقف اقل عنفا، اقل غرائزية من العواطف، اقل شحذاً للحدّة والضغينة والحساسية الفائقة. يمكن ايضا المناقشة مطولا في كيفية تكوين المواقف، واستبدال العواطف بها، والصيرورة التاريخية لهذه العملية.

لكن الواضح حتى الآن ان هذه العواطف تدور حول قطبين: الكراهية المطلقة وصنْوها العشق المطلق. نحن مع هذا الفريق او ذاك لأننا نكره او نعشق. سورية، سمير جعجع، المقاومة، الاصولية، الدولة، حسن نصر الله، اسرائيل. وشجرة العشق والكراهية ذات مستويات عدة. من الاكبر الى الصغير ثم الاصغر.

عواطف سياسية اذاً لا مواقف سياسية. حب وكراهية، واعصاب مشدودة على وتر دقيق، قابلة للانفجار في حال الاقتراب من هذه العواطف. لماذا؟

الصراع في لبنان يُدار بالطوائف، اي الاهل والاخوة والآباء والاجداد؛ وهذا عيار ثقيل من الغريزة. الاستثناءات الخارجة عن اجماع طوائفها تعلم كم من الشرخ العائلي والاهلي يتسبّب لهم به هذا الخروج. الأهل يأتون مع الغريزة، قبل المصلحة وقبل العقل او التعقّل. قبائل قانونها واضح: «أنا على اخي…».

ويزكّي هذه الشحنة العضوية، بعد ضعف الدولة، خطاب السياسيين الممثلين لطوائفهم. خطاب تعبئة طائفية ولغة طائفية واستفزاز طائفي و»كود» طائفي؛ وكله معطوف على نبرة ورمز ونظرة وصوت واصابع مرفوعة بالتهديد.

كيمياء اهلية من الصنف الذهبي، لا مجال فيها لأي عقل، لأية ذاكرة، لأي شك. الأهل على حق. والباقي على الله.

بعد ذلك: ان تفـــتح نـــافذة للعقل مع احدهم، المــخالف لرأيك، كأنك فتحت نافذة البديهيات الضمنية؛ وتحتاج كل واحدة من هذه البديهيات الى تحقـــيق تاريخي، بالارشيف، للتـــأكد من صحتها. ولكنها بديهيات تـــضمن تراص الطـــائفة. والبديـــهيات هنا موزعة بحسب الطــــائفة. كما تتوزع الهوية الوطنية، والتاريخ القريب بحروبه وهدناته، فضلا عن «الثوابت الوطنية».

في الحرب الاهــــلية كانت الثوابت طائفية. والآن اصبحت مذهبية. «ثوابت» هي في الواقع فوضى معرفية، تشــــتّت معرفي. يوثّقها كل فريق على حسابه الخاص، فيبني على مقتضاها جــــبالا لا تهزّها ريح شك او سؤال: ثوابت الغريــــزة، ويسمونها «ثوابت وطنية». وهذه من ســـخريات الوعي التعبوي.

سخرية مكرّرة ايضا. تبعث على الضجر: الزعامات السياسية الصانعة لهذا الوعي لا يُرفع عنها الغطاء، لا تحاسَب. حتى في الانتخابات. مثلاً: ما ييسّر على الطائفة الأكثر وعيا في لبنان، الأكثر عطاء في الفكر والفن والابداع، ان تنضوي بغالبيتها تحت عباءة زعيم يقول لها ان الموت مفتاح الوعي: نصر الله في خطابه الاخير، في ذكرى اربعين عماد مغــــنية يقول، نقلا عن الامام الخميني، «اقتلونا، فان شعبـــنا سوف يعي اكثر فأكثر».

تجاوز هذه الثــــوابت واخـــتراقها او مجرد مناقشتها نقاشـــا حقيــقيا يبدأ يالتوغل في البديهيات الضمـــنية و»الثوابت الوطنية»؛ أي في اعماق الانقسام الوطني الراهن الضاربة جذوره في تاريخ قديم وحديث.

خذْ الحرب الاهلية السابقة مثلا: ليس هناك اتفاق على حقائقها وحولياتها وجولاتها. عند انتهاء هذه الحرب، عام 1990 كان يمكن لنا تسجيلها والاتفاق على مخيلتها. نوع من المصالحة أو المصارحة الوطنيــــتين. لكن النـــسيان والتعب اخذانا عن ذكرى الحرب وذكرياتها والتوثيق لحولياتها. كانت ربما فرصة، وربما لم تكن. لكن النتيجة الآن ان الغريزة عادت بأقوى مما كانت. وتحول الوعي المأتمي الى النموذج المنتصر. فعبثت العواطف السياسية بالمواقف السياسية. وغلبت الغريزة على العقل.

الحياة – 30/03/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى