صفحات سورية

ذكرى حرب العراق… خواطر على الهامش

null


حازم صاغية

لم يتسبّب 11 سبتمبر بتعديل صورة الانتفاضة الفلسطينيّة فحسب، أي إدراجها أميركيّاً وغربيّاً في خانة الإرهاب، بل أدّى أيضاً إلى حربين متتاليتين في كلّ من أفغانستان والعراق. والحربان اللتان اتّخذتا لوهلة شكل مشروع نابوليونيّ كبير للتغيير ما لبث أن تبيّن أنهما مشروعان خائبان.

فحرب العراق، التي حظيت بالاهتمام العربي الأكبر، و”احتُفل” قبل أيّام بذكراها السنويّة الخامسة، لم تكن مغطّاة قانونيّاً، وقد ثبت سريعاً قيامها على أكاذيب لا تُحصى، أكان في شأن وجود “القاعدة” في بلاد الرافدين أو لجهة وجود أسلحة دمار شامل هناك. ولم يكن ثمّة إعداد سياسيّ جديّ للحرب مثل التحالف الذي بناه جورج بوش الأب لتحرير الكويت قبل عقد ونيّف على حرب نجله. لهذا وجدت الحرب أمرّ العداء لا في أوساط الرأي العامّ الغربيّ فحسب، بل لدى حكومات غربيّة كالفرنسيّة والألمانيّة، ناهيك عن الروسيّة. وتبدّى كأن العالم الغربيّ الذي خاض الحرب الباردة موحّداً على وشك التعرّض لانقسام خطير، لاسيّما وقد أعلن وزير الدفاع الأميركيّ آنذاك، دونالد رامسفيلد الذي كان لا يزال الحليف الأكبر لـ”المحافظين الجدد” عن وجود أوروبتين اثنتين، واحدة “قديمة” تعارض واشنطن وأخرى جديدة تؤيّدها، قاصداً بها بلدان أوروبا الوسطى والشرقيّة التي خرجت للتوّ من القبضة السوفييتيّة. وهذه النبرة الانقلابيّة حضرت بقوة في البيئة الثقافيّة، لاسيّما الأميركيّة منها وعلى أيدي كُتّاب “المحافظين الجدد” خصوصاً، ممن ركّزوا على انشطار أميركيّ- أوروبيّ حيث الولايات المتّحدة تطارد “الشرّ” في كلّ مكان، بينما تمالئه أوروبا وتقدّم له التنازل تلو الآخر.

وأبعد من ذلك، وفي سياق ظهور مفهوم “الإمبريالية الليبراليّة” حيث تلتقي للمرة الأولى، حسب مُنظّري “المحافظين الجدد” أنفسهم، قيم الغرب ومصالحه، استُحضرت تجارب ناجحة أريد تطبيقها في العراق: فاليابان أيضاً احتُلّت من الجيش الأميركيّ بعد الحرب العالميّة الثانية، لكن ذلك كان مقدّمة لتحديثها ودمقرطتها وانضمامها إلى أغنى البلدان الصناعيّة المتقدّمة. كذلك ففي نهايات الحرب الباردة، كما قيل مراراً وتكراراً، أمكن لأوروبا الوسطى والشرقيّة أن تستورد بنجاح كبير قيم الغرب وديمقراطيّته السياسيّة وليبراليّته الاقتصاديّة. فلماذا لا يحصل الشيء نفسه في العراق؟

انتهت التجربة على شكل هزيمة مكتومة لأميركا، وفضيحة مطنْطنة للعراق الذي تكشّف حشداً للطوائف والإثنيّات وللعرب الذين لم يبقَ منهم إلاّ العجز.

بيد أن أطنان الورق التي حُبّرت في ترويج هذه النظريّات، ومن ثمّ في شرح أهميّة الديمقراطيّة في العالمين العربيّ والإسلامي، ومعها المشاريع المموّلة لنشر الديمقراطيّة لم تصمد أمام انكشاف فضيحة سجن أبو غريب، بينما العالم الإسلاميّ كلّه لا يزال يتحدّث عن سجن جوانتانامو في كوبا. هكذا فُتح مستنقع دمويّ بات معه وجود العراق نفسه على المحكّ، خصوصاً أن حلّ الجيش وسياسة “اجتثاث” حزب البعث جعلا قاعدة السلطة الجديدة ذات لون طائفيّ محدّد فيما وسّعا قواعد الإرهابيين الذين انضمت إليهم أعداد من المسرَّحين ممن باتوا فجأة عاطلين عن العمل.

لقد تكشّف المشروع الغبيّ عن كونه مشروعاً أيديولوجيّاً صارخاً يراد للواقع أن يحمله، وكان نقص القوات الأميركيّة التي خيضت بها الحرب، وهو ما أطلق نقاشات أميركيّة موسّعة، أبرز الإشارات إلى طغيان الطابع الأيديولوجي: ذاك أن افتراض العشق العراقيّ للديمقراطية، تيمّناً بتجارب ألمانيا واليابان وأوروبا الوسطى، يلغي الحاجة إلى قوات عسكريّة ضخمة أو إلى جمع السلاح، على ما رأى رامسفيلد وبعض عتاة وزارة الدفاع. فتبعاً للسيناريو هذا، تكفي إزاحة صدام حسين وتدمير أدواته القمعيّة حتى يتفجّر الانحياز الشعبيّ العراقيّ الكامل للمشروع الديمقراطيّ الذي تحمله الدبّابات الأميركيّة. وهذا خطأ تشهد عليه أعداد من الشواهد لا تُحصى. فالعراق لا يشبه تلك التجارب التي بدت بلدانها مستعدّة لتقبّل النموذج الغربي، أو، كما في أوروبا الوسطى، شديدة الحماسة له، كما بدت مجتمعاتها حاضنة لبذور تحوّل نحو الديمقراطيّة واقتصاد السوق.

ذاك أن الديمقراطيّة يلزمها ما هو سابق عليها، لاسيّما التشكّل الوطنيّ بدرجة بعيدة من الخيار الطوعيّ. فعلى عكس العراق فإن مسألة الوطنيّة والوحدة محسومة في تلك البلدان الأوروبيّة والآسيويّة التي لا تهدّدها ولاءات أقوى منها لأديان وطوائف وإثنيات. وقد أظهرت لاحقاً تجربة تشيكوسلوفاكيا وانقسامها إلى بلدين أن السكان نجحوا في تطوير أواليّات سياسيّة للتقسيم المتمدّن تنأى بهم عن الحرب الأهليّة. وهذا عكس ما عرفه العراق من توحيد قسريّ للمجتمع بفعل قوة الدولة التوتاليتاريّة وحدها، بعد انقلابات شهدتها أعوام 1936 و1941 و1958 و1963 ودلّت على قصور العمليّة السياسيّة فيه وعلى ضعف التشكّل الوطنيّ. وقد كان للتوحيد القسريّ الصدّاميّ أن تصاحب مع تعزيز قبضة الطائفة السُّنيّة العربيّة على الشيعة العرب كما على الأكراد، بحيث تنامى التفتّت في العتم والخفاء.

كذلك يبقى من العبث التفكير بالديمقراطيّة من دون طبقة وسطى تستند إليها. فكيف وأن الحصار السابق على الحرب الذي مورس ضدّ العراق دمّر الطبقة الوسطى تماماً قبل أن تأتي الديمقراطيّة، بينما عزّز قبضة النظام البعثيّ على المجتمع.

ثم إن صدّام حسين، أقلّه بسبب نزعته التحديثيّة السطحيّة وحاجات سلطته، ولو في الحدود التقنيّة والأداتيّة البحتة، إلى منتجات الحداثة، ليس أكثر العراقيّين كرهاً للغرب أو ضديّة حيال الغربيّين. وهو، بالفعل، وكما حصل إبّان حربه مع إيران، كان مستعدّاً للتعاون مع الولايات المتحدة الأميركيّة والتناسق مع استراتيجيّتها الكونيّة والإقليمية.

لقد كانت الحرب تحريراً واحتلالاً في وقت واحد. لهذا أطلقت الحريّات التعبيريّة والإعلاميّة على نحو غير مسبوق. لكن تحرير بلد ما يحرّر تناقضاته أيضاً، وعندما تكون التناقضات على الحدّة التي هي عليها في العراق، تتحوّل الانتخابات الحرّة، على ما حصل فعلاً، فرصة لاستعراض الطوائف وأحزابها الراديكاليّة قوّتَها. والقوّة هذه لا تُستعرض إلاّ ضدّ الطوائف الأخرى وأحزابها. هكذا يغدو كلّ حديث عن “مجتمع مدنيّ” وديمقراطيّة لغواً لا طائل له.

لقد تغذت التصوّرات الأميركيّة الانقلابيّة في تطبيقها على العراق من تصوّر مبسّط للديمقراطيّة يراها صنواً للحريّة كمفهوم طبيعيّ أكثر منها ثمرة مؤسّسات وتقسيم عمل. وما دام الجميع يحبّون الحرية إذاً الجميع لابدّ أن يكونوا ديمقراطيّين. لكنْ على أرض الواقع، لم يحصل هذا كلّه. ففضلاً عن انفجار المجتمع إلى مكوّناته الإثنيّة والطائفيّة، ولدت ظاهرة “العائدين من العراق” على غرار “العائدين من أفغانستان”، وأطلّت عناصر أزمة كبرى مصدرها الاحتكاك الكرديّ- التركيّ في الشمال. وكان ما يزيد الطين بلّة سلوك العرب وارتباكهم حيال ما يجري في العراق: فهم خافوا من أن ينجح المشروع الديمقراطيّ كما خافوا من أن يفشل. في الحالة الأولى سوف تنتقل العدوى إلى بلدانهم، وفي الحالة الثانية سوف تنتقل الفوضى إليها، خصوصاً أنها فوضى مقرونة بدور علنيّ أكبر للطائفة الشيعيّة في الجنوب المحاذي للخليج وللأكراد في الشمال ممن لا ترتاح تركيا إلى صعود دورهم ووزنهم. هكذا كان الحلّ المفضّل عدم فعل أيّ شيء، إذ لا يجب لأميركا أن تنجح، بما يعنيه ذلك من تراجع حاجتها إليهم، كما لا يجب لها أن تفشل وتتركهم حيال الفوضى والتجرّؤ على الواقع المعطى من قبل كل طرف راديكاليّ مسلّح في المنطقة.

في مقابل ذلك آلت الحربان في أفغانستان ثم العراق إلى تمكين قبضة إيران عبر إزاحة خصمين حدوديّين للنظام الخميني: حكومة طالبان السُّنيّة في كابول، المتعصّبة ضد الشيعة، وحكومة صدّام حسين في بغداد التي خاضت في الثمانينات حرباً مدمّرة مع إيران. وكانت هذه حماقة أميركيّة ما بعدها حماقة وسّعت النفوذ الإيرانيّ وعمّقته على نحو ما لبث أن تحوّل ربحاً صافياً للقوى الضديّة في المنطقة وصعوبات إضافيّة في طريق تحديثها.

لقد انتهت التجربة على شكل هزيمة مكتومة للولايات المتّحدة، ولكنْ على شكل فضيحة مطنطنة للعراق الذي تكشّف حشداً للطوائف والإثنيّات، وللعرب الذين لم يبق منهم إلاّ العجز.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى