هدف الحرب على غزة
علي الشهابي
تحدث الكثيرون عن الهدف من الحرب الإسرائيلية على غزة. ومن الصحيح الذي قالوه إنها تهدف إلى تعزيز المواقع الانتخابية لليفني وباراك، وخصوصاً الأخير الذي كان يجري الحديث قبلها عن إمكانية نيل حزبه لستة أو سبعة مقاعد في الانتخابات المقبلة فبات بعدها عن ١٦ـ.١٧ وإن أولمرت يحاول الخروج من الساحة السياسية بشرف، من خلال حرب سهلة نسبياً، بعدما بدأ عهده بهزيمة سياسية مدوية لإسرائيل. وإن الساسة الإسرائيليين يحاولون التأكيد لمجتمعهم أن شيئاً لم يتغير على صعيد دولتهم بعد حرب ٢٠٠٦؛ فهي ما زالت قادرة على سحق كل من يحاول تهديد أمن الإسرائيليين ولو بصواريخ بدائية. ويمكن أن يدخل في هذا الإطار، التذكير بقوتها، استخدام القنابل الفوسفورية بلا مبرر عسكري. فهي لم تستخدمها كضرورة عسكرية، أي بعدما دفعت بجيشها إلى الهجوم البري وعجز عن التقدم فاستخدمتها ليتقدم، بل استخدمتها وهي تتفادى الاشتباك الواسع مع المقاومة. وفعلاً لا داعي لهذا الاشتباك طالما أنها يمكنها تحقيق هدفها بدونه. لكنّ الهدف الذي لم يكن ممكناً طرحه أثناء المجازر، وحذّرت حماس منه منذ اليوم الأول باعتباره يخدم إسرائيل، وكان يخدمها فعلاً، أن الأخيرة قامت بهذه الحرب لإضعاف حماس تمهيداً للسلام.
فإسرائيل لم تعلن الحرب على غزة لوضع حدٍ لإطلاق الصواريخ، طالما أن إطلاقها لم يقلقل أمن الإسرائيليين كما كانت تقلقله العمليات الانتحارية. وحتى لو كان كذلك، لا شك في أنها تعلمت من اجتياح شارون للضفة الغربية عام ٢٠٠٢: أقصى ما تستطيعه هو ارتكاب المجازر لتعود الأمور إلى ما كانت عليه من قبل. فأي إعلان للحرب لا بد أن يضمر هدفاً سياسياً لم يكن ممكناً تحقيقه بدونها. ولأن هذه حال الحرب على غزة، فكل الوساطات والمبادرات والقرارات التي سعت لإيقافها كانت قليلة الأهمية بوقفها الفعلي، إلا بقدر ما كان يمكنها أن تسمح لإسرائيل بتحقيق هدفها.
فالهدف من هذه الحرب إضعاف حماس، ولا يمكن لإسرائيل إلا أن تحقق هذا الهدف في ظل الشروط القائمة، التي لا يمكن أن تتغير على المدى المنظور. لذا، خلافاً لما ترى نيويورك تايمز من »أن إسرائيل استعجلت وشنت هذه الحرب قبل تنصيب أوباما الذي قد لا يؤيدها بها«، لا شك في أنها قامت بهذا الهجوم بالتنسيق معه تمهيداً لمبادرته إلى حل هذا الصراع انطلاقاً من مبادرة السلام العربية.
فبعدما فشلت الولايات المتحدة وإسرائيل بقطع »ذراع« إيران الرئيسي في المنطقة بالقوة، حرب ،٢٠٠٦ لم يبق أمامهما إلا محاولة قطع كل أذرعها بالحسنى. وهو ما يتم الشروع به بالموافقة على اعتبار مبادرة السلام العربية أساس المفاوضات بين العرب وإسرائيل. هذا ما ستفعله الولايات المتحدة وإسرائيل مباشرة بعد الانتخابات الإسرائيلية لإغلاق البوابة التي تدخل منها إيران إلى العالم العربي، وبنفس الوقت ليتفرغ أوباما إلى التعامل معها وهي محرومة من ورقة هذا الصراع. فليس هناك ما هو أنسب من هذه المبادرة، التي هي نفسها قرارات الأمم المتحدة ٢٤٢ و٣٣٨ و٤٢٥ بالإضافة إلى الإجماع الدولي المطالب بإقامة الدولة الفلسطينية.
فهي مبادرة طرحتها كل البلدان العربية؛ ومن المفترض بتنفيذها أن يوحّد هذه البلدان ضد الأطراف الداعية إلى القضاء على إسرائيل، وخصوصاً حلفاء إيران من الحركات الإسلامية. بهذا، تمسك إسرائيل والولايات المتحدة بالأنظمة العربية من ألسنتها، وخصوصاً النظام السوري الذي ستربكه موافقتهما عليها أيّما إرباك.
فسيطرة حماس على غزة، وتمترسها فيها، تعني انقساماً جغرافياً وسياسياً لسلطتين في الأراضي الفلسطينية. وهاتان السلطتان لا يمكن أن تتوافقا مع إسرائيل على سلام دائم، لذا ينبغي إسرائيلياً وأميركياً وعربياً، من منظور المبادرة العربية، القضاء على حماس وحلفائها الفلسطينيين أو تحجيمهم كي يظل هناك طرف فلسطيني واحد يفاوض إسرائيل باسم الشعب الفلسطيني. والمؤهل الوحيد للقيام بهذه المهمة هو إسرائيل، والتوقيت الحالي مناسب جداً لأوباما لأن إدارته ستتولى مقاليد الأمور، والفلسطينيون ـ وخصوصا أهالي غزة ـ في حال يرثى لها. وبنفس الوقت تظل صورته على ما هي عليه طالما أنه لم يكن في موقع المسؤولية عندما قامت إسرائيل بمجازرها.
طالما أن هذا هو الهدف، فليس هناك ما يدعو إسرائيل إلى اجتياح كل غزة، بل يكفي تقطيع أوصالها ومحاصرتها. بهذا تسجن كل أهالي القطاع، وتعمد إلى خنق حماس من خلال جمع معلومات استخباراتية تقوم على أساسها بضرب ومهاجمة كل ما يمت إليها بصلة. مما يعني عدم انسحاب إسرائيل من قطاع غزة، بل البقاء فيه ويدها على الزناد حتى انتهاء المفاوضات مع الفلسطينيين، بحيث يصير انسحابها منها جزءاً من اتفاق السلام الشامل بينها وبينهم.
أعتقد أن هذا هو، بالأصل، المخطط الإسرائيلي. ولكن لا ضير من بعض التعديل، بعد هذه المجازر، إن اطمأنت إسرائيل إلى مراقبة المعابر وإغلاق الأنفاق دون أن يستهدف أحد حماس عسكرياً. بهذه الحال تضعف حماس لأنها ستظل وجهاً لوجه أمام الشعب الفلسطيني في غزة، بما جرّته عليه من ويلات. وهذا جوهر المبادرة المصرية، ولو أنها أشد فظاظةً شكلاً: إنها تطالب حماس بالمصالحة مع السلطة في رام الله، بشروط الثانية. فماذا ستفعل حماس؟ إن رفضت المبادرة المصرية تصير المسؤولة عن استمرار المجازر وتظل إسرائيل ماضية في مخططها، وإن وافقت عليها تسقط شعبياً لأنها ستبدو كمن استدرج الإسرائيليين إلى القتال وهو عاجز عن مواجهتهم.
كان من الواضح أن حماس ستسوّف وفي النهاية لن تقبل المبادرة المصرية بالشكل الذي اتفق عليه مبارك وساركوزي، مما يعني استمرار المجازر. لذا قدّم الأوروبيون ما صار قرار مجلس الأمن ١٨٦٠ »لإنهاء المجازر الإسرائيلية بحق الفلسطينيين«، هذا الذي يعني تنفيذه إنهاء سيطرة حماس على غزة ببطء من خلال ربط إجراءات التنفيذ بمصر والسلطة الفلسطينية والمجتمع الدولي. فهذا القرار كان ذرّاً للرماد في العيون لأنه أظهر المجتمع الدولي وكأنه قام بواجبه، بينما قام في الحقيقة بربط تنفيذه بالمبادرة المصرية. وبالنتيجة لم يفعل شيئاً سوى أنه أعاد ربط الحلول مرة أخرى بإسرائيل وحماس، للتفاوض في مصر، الضاغطة أيضاً على حماس، كما لو أن الضغط العسكري الإسرائيلي لا يكفيها.
فهذه المجازر، في الوقت الذي تضعف حماس، تعيد لإسرائيل هيبتها السياسية التي تلاشت، أو كادت، بعد حرب .٢٠٠٦ صحيح أنه كان يمكنها إضعاف حماس بوسائل أخرى، لكنّها استبعدتها لأنها أقل ملاءمةً لأهدافها. والمضحك المبكي أن إسرائيل كانت تقتل وهي ترفض السلام، وظلت تقتل عندما اضطرت إليه، فكيف ستعيش بيننا؟ هذا السؤال برسم المستقبل، وقد يكون من الأدق استبدال »هل« بـ»كيف«.
([) كاتب فلسطيني
السفير