صفحات مختارة

عن العمامة والحجاب داخل الرأس لا عليه فقط


جهاد الزين

بالإمكان في محاولة تفكير مسألة أي دور متبق للتيارات غير الدينية في الحياة العامة العربية فعلاً بنا. “منظومتين” من الإجابات على هذا السؤال… المنظومة التي يمكن ان ترى الصورة من زاوية وجود أدوار فعلية وقوية لقوى وسلطات في عدد من البلدان العربية والمسلمة هي فعلاً غير دينية إذا كان الديني هو “الأصولي”.
فمعظم السلطات الحاكمة العربية هي غير أصولية، لا بل تخوض مواجهات مديدة مع التيارات الأصولية مثلما هو الحال في مصر وسوريا والجزائر وليبيا واليمن، او تنخرط، رغم بنية نظامها الاجتماعي السياسي الديني – العائلي – مثل المملكة العربية السعودية في صراع مع أشكال عنفية وتدميرية مسلحة من الاصولية. كذلك داخل المشهد يمكن ان توضع عشرات الاحزاب والحركات (او بقايا الاحزاب والحركات) ذات الخطاب وحتى الايديولوجيا العلمانية في الكثير من الساحات العربية، من اقصى المغرب الى أقصى المشرق، كما في لبنان وسوريا ومصر والاردن… والخروج على ضوء ذلك باستنتاجات واقعية ان المشهد العربي لا زال متنوعاً ايديولوجياً وسياسياً ويحمل قابليات استعادة إحياء بل تنشيط التيارات غير الدينية في مرحلة لاحقة.

 

أما المنظومة الثانية، النقيضة للأولى، فيمكن ان تعتبر ان معيار سيادة التيارات والاحزاب الدينية على الحياة العامة العربية، ليس معياراً إحصائياً، سواء على مستوى السلطات أو على مستوى القوى الاجتماعية… وإنما هو سيطرة التيارات الدينية الأصولية على السلطة الثقافية في البلدان العربية, فإذا كانت الدولة المصرية، كما السورية، كما الجزائرية، كما الليبية، كما المغربية، كما الاردنية منخرطة في مواجهات مع اعداء هذه الانظمة من الاصوليين، فإنها تواجههم أمنياً، ولكن “السلطة الثقافية” في المجتمع أصبحت متروكة لأكثر أنواع الاتجاهات المحافظة في الفهم الديني. فهل هناك اكثر من السلطة المصرية عداء لـ”الإخوان المسلمين”، السؤال نفسه عن السلطة السورية، والجواب معروف ايضاً، المعروف أقل هو الصراع الدموي أحياناً بين النظام الليبي والاسلاميين الاصوليين، وغير ذلك من الامثلة. لكن هل يستطيع متجول في شوارع القاهرة ودمشق وطرابلس الغرب وعمان وحتى في الجزء الغربي المسلم من بيروت الكبرى، في الطريق الجديدة والضاحية الجنوبية وحتى شارع الحمراء ومار الياس ان لا يرى السيطرة “الأصولية” المتصاعدة على المجتمع؟

في هذه الشوارع، ولمن يذهب الى البيوت والمساجد والاندية الاجتماعية والرابطات العائلية، ليس “الحجاب” ضرورياً ليظهر على رؤوس النساء والفتيات في كل مدن المنطقة وعواصمها، او “العمائم” على رؤوس الرجال، لكي نعرف مدى تصاعد المد الديني المحافظ بل المتزمت في مجتمعاتنا… فـ”الحجاب” كما “العمامة” الأقوى والأفعل هما الآن داخل الرؤوس وليس عليها… إنه هذا النزوع الذي يتخطى التفسير السوسيولوجي التقليدي للانتشار الأصولي في البيئات الفقيرة… “الأصولية” الآن صاعدة بل راسخة في البورجوازيات العربية.

هذا هو المعيار الأعمق لتراجع وأحياناً انسحاق التيارات غير الدينية في الحياة العامة العربية: اجتماعياً في الانتشار الى درجة سيطرته على مشهد “الشارع” العربي سنة وشيعة، وسياسياً، في كونه محور كل الاستقطابات الداخلية، فحين تتمحور الحياة السياسية في أي بلد، مع وضد التيارات الدينية، يتحقق شكل خطير في السيطرة، حتى لو كانت السلطة السياسية في مواجهة أمنية مع الاسلام الأصولي.

لم نستخدم تعبير “غير الديني” جزافاً في طرح الاشكالية التي يحملها هذا السجال، وقد تجنبنا، بل أعترف أننا استبعدنا تعبير “التيارات العلمانية” بسبب ليس فقط استمرار الخلاف على تعريف “الحزب العلماني” في بلداننا، وانما أيضاً بعدما دخل عنصر جديد في تاريخنا الحديث على هذه الاشكالية الفكرية. إذ اننا في المشرق العربي، معتادون على تفكير المسألة العلمانية باعتبارها تتعلق بالتنوع الديني بين المسلمين والمسيحيين واليهود، والجديد علينا – الذي يحتاج الآن الى مجهود فكري كبير – هو تعريفها وتحديد مضامينها حين تتعلق بالتنوع المذهبي بين المذاهب المسلمة، او بين المجموعات الآتية من الإرث الاسلامي، أكثرية واقليات، وفي لبنان ثمة تعقيد “عريق” في السجال المتعلق بنظامنا السياسي منذ الاستقلال هو عدم كفاية التمييز بين حزب ديني وحزب غير ديني مثلما هي هذه الثنائية قابلة للتبسيط في دول أخرى كالجزائر او السعودية، ففي لبنان غير العلماني ليس بالضرورة غير الديني، لأن المعيار “التقليدي” هو كون العلماني غير طائفي. أي لا يكفي ان يكون الحزب الطائفي غير أصولي ليكون علمانياً! بل إن عدم علمانيته ناتجة عن كونه طائفياً. وهذا مستوى بلورته كثيراً أدبيات السجال اللبناني. وفي مرحلتنا الراهنة، وقياساً لموضوعنا المطروح، يظهر اكثر فأكثر الاستسلام الثقافي للحزب الطائفي امام الاتجاهات الدينية المتزمتة داخل الطائفة التي يعمل باسمها.

قلت مرة لاستاذنا المطران غريغوار حداد، وبحضور عدد من اصدقائه ومعارفه ومريديه قبل حوالى اربع سنوات وسامحني على ذلك فوراً بسماحته وديموقراطيته وكفاحيته وهو احدى الشخصيات اللبنانية الاكثر احتراماً:

يا سيادة المطران انت “نبي العلمانية” المكرس في لبنان لكن العلمانية الجديدة، يجب ان تتحرر منك أولاً، لاننا ندخل الى زمن، النقاش حول العلمانية فيه لم يعد محصوراً باشكالية “الصراع بين الدولة والكنيسة” وارثها الفكري الاوروبي النهضوي في بلادنا… وانما دخلنا مرحلة جديدة… شديدة التعقيد.

كنت اعني عالمياً تقدم النموذج الاميركي للعلمانية، وهو ما عبر عنه على طريقة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في خطابه أمام حشد كنسي كاثوليكي فرنسي في روما قبل أسابيع عندما دعا الى “علمانية ايجابية” متصالحة مع الدين ومع ما سماه المكونات الجديدة في المجتمع الفرنسي، مشدداً في الوقت نفسه على الفصل الكامل بين الدولة والكنيسة.

واقليمياً في التجربة التركية، التجربة الوحيدة الآن في العالم المسلم التي تقدم نموذجاً جدياً لإمكان استيعاب نظام علماني لحزب “اسلامي”… والسر – الاصلي لهذا النجاح (النسبي) حتى الآن: تلازم الحداثة مع الديموقراطية في “دولة – امة” حقيقية، ذات ثنائية مذهبية وقومية.

 

جهاد الزين

 

النهار


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى