مستقبل المعارضات الليبرالية واليسارية في العالم العربي
عمرو حمزاوي
لن يعثر من يطالع بانوراما الحياة السياسية العربية اليوم على حركة معارضة ليبرالية أو يسارية واحدة غير مأزومة. نعم تتفاوت الخبرات التاريخية والسياقات المحلية بين المغرب والجزائر ومصر ولبنان والكويت، إلا أن ما يجمعها هو إما استمرارية الصيرورة الاختزالية للسياسة وبها ينحصر الصراع على السلطة بين نخب الحكم والمعارضات الدينية، أو هيمنة الهويات العرقية والقبلية والدينية والمذهبية على الفضاء العام على نحو يجرد الإطارات السياسية الحداثية من المضمون ويختصرها لدى الحركات التي ترفع لواءها في يافطات غير موجهة للرؤى والأفعال.
في هذا السياق، ركز الشق الأكبر من الكتابات العربية المتناولة للحركات الليبرالية واليسارية على توصيف أزمتها والبحث في العوامل المسببة لها دونما إشارات منظمة إلى كيفية الخروج من الأزمة هذه وحجبت بالتبعية التساؤل حول المستقبل أو أجابت عنه بسرديات سوداوية تبسيطية. وربما تمثل احدى المقاربات الممكنة لتجاوز هذا القصور في تحليل جدليات التحديات والفرص التي يفرضها الواقع المعاصر على الليبراليين واليساريين العرب ورصد خطوط إدراكهم لها ومساحات تفاعلهم معها.
وحقيقة الأمر أن ثمة جدلية أولى ينبغي أن تكون مناط النظر والتدقيق هنا، وهي تلك المتعلقة بوضعية القواعد الناخبة والوجود الجماهيري للمعارضات غير الدينية في العالم العربي. فعلى الرغم من المخالفات البينة التي ميزت جل عمليات الاقتراع العام بل واختلالات الأطر الدستورية والقانونية المنظمة لها، أظهر الحراك السياسي النسبي الذي شهدته بعض المجتمعات العربية خلال السنوات القليلة الماضية المحدودية الشديدة للوجود الجماهيري للحركات الليبرالية واليسارية مدللاً من ثم على هشاشة قواعدهم الناخبة وعدم استقرارها. فقد رتّب تتابع موجات المد الهويّاتي في الفضاء العام بمفرداتها القبلية والعرقية والدينية والمذهبية خلق حالة مجتمعية ترفض مسبقاً خطابات الليبراليين واليسار أو تتحفظ عنها، وكذلك تراجعت صدقية ذات الخطابات في ظل توظيفها من جانب نخب حكم سلطوية فاشلة لا تحظى بالشرعية كالحال في الجزائر ومصر أو غيبت المعارضات جماهيرياً مع هيمنة المقاربات الأمنية على فعل النخب الحاكمة. نعم هو واقع ضاغط بكل تأكيد، بيد أن الحركات الليبرالية واليسارية لا تعدم الفرص لمجابهة تحدي ضعف الوجود الجماهيري وتطوير قواعد ناخبة مستقرة.
نعم تحايلت التيارات الإسلامية على قمع نخب الحكم السلطوية ومنعها ببناء شبكات واسعة للفعل الدعوي والاجتماعي اخترقت الحياة السياسية مستغلةً في هذا الصدد السياقات المجتمعية المواتية، وهو ما يقع بوضوح خارج حسابات المتاح للمعارضات غير الدينية. على الرغم من ذلك، يمنح واقع المجتمعات العربية لليبراليين فرصاً لإنتاج خطاب جاذب لقطاعات متنوعة من المواطنين المهمومين بقضايا الحريات العامة والمدنية أو بالأحرى انتهاكاتها المتواترة وأولئك الباحثين عن حداثة عصرية متصالحة مع الآخر على اختلاف هوياته المؤسسة ومستويات وجوده. أما اليسار فلديه أيضاً، نظرياً على الأقل، ساحات وساحات للفعل الجماهيري على أرضية التفاوتات الاقتصادية-الاجتماعية وغياب عدالة الحد الأدنى عن جل المجتمعات العربية بل وصيرورتها الراهنة المنتقلة من سيء إلى أسوأ.
لا شك في أن الإسلاميين تماهوا تدريجياً مع بعض مكونات الخطاب الليبرالي واليساري وانتزعوا بحيويتهم التنظيمية بعض المواقع هنا وهناك مدافعين عن الحريات ومنتصرين للعدالة الاجتماعية، إلا أن الصورة العامة لفعلهم خاصة في ما ارتبط بالحريات خارج المشهد السياسي متناقضة وتعوزها الصدقية كما أن رؤاهم حول كيفية إدارة الشأن الاقتصادي الاجتماعي ما زالت غامضة وقاصرة عن صياغة واضحة المعالم لحدود دور الدولة (المؤسسات العامة) ومسؤوليات الأفراد. الأمر إذاً مرهون بفاعلية وحيوية المعارضات غير الدينية وتطور قدراتها على الالتفاف حول قمع النخب والقراءة الإستراتيجية لمواقع قواعدها الناخبة المحتملة وكيفية مخاطبتهم بمنطق متماسك شروطه هي إجلاء نواقص الآخر – حاكم وإسلامي – وإثبات تميز الذات.
جدلية ثانية حاكمة تدور حول مضامين الجوهر الناظم لعلاقة الليبراليين واليسار بنخب الحكم والمعارضات الإسلامية. فقد دفع مزيج من الخوف إزاء إمكانات الصعود السريع للإسلاميين (في المغرب ومصر والأردن على سبيل المثال) والتوجس من استدامة حالة الاستقطاب الحاد بينهم وبين النخب (الجزائر ومصر) فضلاً عن شكوك متواترة إن في جدية أحاديث الإصلاح والديموقراطية الصادرة عن تيارات كـ”العدالة والتنمية” المغربي و”جماعة الإخوان المسلمين” في مصر والأردن أو في مدى التزام تيارات معسكرة كـ”حزب الله” و”حماس” بسلمية الفعل السياسي في الداخل، دفع بعض الحركات الليبرالية واليسارية إلى تبني خيارات رامت الاحتماء بنخب الحكم القامعة للإسلاميين بل والتحالف معها لضمان حد أدنى من الوجود في المشهد السياسي، أو إلى تبرير استخدام الأداة القمعية ضد الإسلاميين من خلال إعادة إنتاج مستمرة لصورة رمزية وسياسية مشيطنة لهم (الفزاعة الإسلامية).
بيد أن مثل هذه الخيارات، ومع اختلاف حدتها وإستراتيجيات تطبيقها عبر حدود الزمان والمكان، لم توسع على الإطلاق من مساحات فعل الليبراليين واليسار بل على نقيض ذلك أنهكتهم ركضاً وراء نخب جل همها هو البقاء في السلطة وانتقصت كثيراً من صدقيتهم أمام قطاعات واسعة من المواطنين تتعاطف مع الدينيين وتراهم ضحية مؤامرة مزدوجة يديرها حكام فَسَدة وحركات علمانية كارهة للدين، ثم ارتدت مقاربات القمع والمنع إلى الفضاء العام على نحو عكسي لتزيد من شعبية وجماهيرية الإسلاميين الذين استحالوا مرادفاً لمقاومة السلطوية.
آن الأوان للحركات الليبرالية واليسارية، إن أرادت انعتاقاً من مأزق التحالف مع النخب أو تجاوز محدودية مردود التكتل ضد الإسلاميين، أن تعمد إلى مقاربات براغماتية جداً في التعاطي مع الطرفين. فعندما يتحول فصيل إسلامي كما هي الحال في المغرب (العدالة والتنمية) والجزائر (حركة مجتمع السلم حمس) إلى قوة تمارس العمل السياسي الشرعي والسلمي وتعترف بأن مرجعيته النهائية هي الإطار الدستوري-القانوني الناظم له وتبدي مرونة متصاعدة إزاء قضايا الحريات المدنية والعامة ثم يتواكب ذلك مع نخب لا تريد إحداث نقلات نوعية في ملفات تداول السلطة وتوازنها، يصبح لزاماً على الليبراليين واليسار البحث عن مساحات للتوافق (جزئية بحكم التعريف) والفعل المشترك مع الإسلاميين بهدف رفع كلفة الحكم السلطوي ومن ثم ربما دفع النخب تدريجاً نحو انفتاح ديموقراطي حقيقي. أما إن تداخلت لدى الحركة الإسلامية هذه وتلك خطوط المشاركة السياسية مع توظيف أدوات معسكرة في فعلها العام (“حزب الله” و”حماس”) أو حين يلتبس الديني الدعوي بالسياسي المدني (“جماعة الإخوان” في مصر) وتسفر الحالة الأولى عن عدم التزام مبدئي بسلمية العمل السياسي ومرجعياته الدستورية (بغض النظر عن عدالتها من ظلمها) وتدفع الثانية نحو تناقضات لا تنتهي حول قضايا المواطنة الجامعة المتخطية لفواصل الدين والعرق والمذهب، لن تجد الحركات الليبرالية واليسارية أمامها من بدائل سوى مواجهة الإسلاميين في الفضاء العام على نحو سلمي ودونما المساومة مع نخب الحكم أو تبرير لقمعها وانتهاكاتها المتكررة لحقوق الإنسان. بعبارة أخرى، المطلوب هو أن تبدأ بجدية “مراجعات” المعارضات غير الدينية وتمتد لتبحث في فرصها في الواقع العربي الراهن غير مقتصرة على كشف مواطن الخلل وعلل التأزم.
عمرو حمزاوي
(كبير باحثين بمؤسسة كارنيجي للسلام – واشنطن
النهار