التاريخ واللحظة الهاربة
الياس خوري
“انه التاريخ”، قالت المعلّقة التلفزيونية في حفل تنصيب باراك حسين اوباما رئيسا. وصارت هذه العبارة على كل لسان. “نعم نستطيع”، قال اول رئيس افريقي- اميركي، فكان الجواب صناعة التاريخ. اراد المعلّقون التلفزيونيون تثبيت اللحظة الهاربة عبر اعطائها سمة تاريخية، معلنين نهاية حقبة كاملة في السياسة الاميركية.
المشهد الذي نافس لحظة القسم في الاثارة، كان مشهد ركوب جورج دبليو بوش المروحية التي اقلّته الى تكساس، معلنةً خروجه النهائي من البيت الأبيض. اربعة ملايين عين نظرت الى المروحية، تستعجلها الرحيل، فالرئيس الذاهب اغرق بلاده في الهزائم والازمات والعار الاخلاقي، وآن له ان يمضي.
لا شك ان الرئيس الخلاسي، الذي وقف على شرفة العالم حاملا خطابا اخلاقيا، صنع بمجرد انتخابه تاريخا جديدا. انها المرة الاولى تغيّر فيها اميركا لونها في شكل واضح. “الواسب، اليانكي”، لم يخرج من السلطة، لكنه وجد نفسه مضطرا الى تغيير لونه، و/او افساح المجال امام لون جديد كي يتصدر المشهد. اوباما يأتي كي ينهي المرحلة الريغانية التي اوصلها جورج بوش الى الحضيض، معلنا تجديدا داخليا عميقا للثقافة السياسية الاميركية، في مواجهة اكبر ازمتين تواجههما الولايات المتحدة:
الازمة الاقتصادية التي جاءت تتويجا للاقتصاد الريغاني المتوحش، الذي افلت الرأسمالية من عقالها، واوصلها الى المأزق الحالي.
والأزمة الاخلاقية، التي صنعها “انبياء الظلام” من المحافظين الجدد، الذين اندفعوا الى حرب العراق الحمقاء والمدمرة، وسمحوا للعربدة الاسرائيلية بالوصول الى ذروتها في حرب غزة الهمجية.
يرث اوباما من سلفه ازمة اقتصادية طاحنة، كما يرث معتقل العار في غوانتنامو، ويجد نفسه مضطرا الى اعادة البناء من حضيض كامل وصلت اليه الولايات المتحدة. ادارة بوش- تشيني قدّمت برهانا نادرا على تبديد القوة، من خلال سياسة خرقاء انتفخت بالوهم. فبعد نهاية الحرب الباردة، صارت اميركا دولة عظمى وحيدة في العالم، وصار من الممكن مقارنتها بروما. غير ان الاستخدام اللاعقلاني للقوة الفالتة من عقال ايّ ضابط اخلاقي، وجشع الرأسمالية المتوحشة، حوّلا قوة اميركا ضعفاً، جاعلين من الولايات المتحدة تجسيدا ملموسا لجنون القوة وحمق التسلط والكبرياء.
ماذا يستطيع اوباما ان يفعل بالتاريخ الجديد الذي صنعه انتخابه؟
لا يستطيع المراقب ان لا يسجل علامات الفرح التي اجتاحت اميركا. هنا في نيويورك بدت المدينة في عيد حقيقي. مقاهٍ تقدم القهوة مجانا، واحتفالات عفوية في الشوارع، وشاشات تنقل الحدث في الاماكن العامة. تسأل فيكون الجواب ابتسامات تضيء الوجوه. كأن حملاً ثقيلا قد انزاح، فالناس تعبّر في شكل عفوي عن فرحتها بهذا التغيير الذي يراد له ان يمحو الاعوام الطويلة من التمييز العنصري. مارتن لوثر كينغ هو المنتصر الأكبر. الرجل الذي مات مضرّجاً بحلمه، وجد في “نعم نستطيع” التي اطلقها اوباما، تجسيدا لنضال طويل من اجل الحقوق المدنية.
السؤال هو كيف يتحول الحلم الى حقيقة، ام ان مصير الاحلام المضي مع اللحظات الهاربة؟
قلت لصديقي الاميركي الذي كان لا يستطيع اخفاء فرحته، انني ارى ما يشبه الكلينتونية المغطاة بلون جديد. فابتسم ولم يجاوب.
من الواضح اننا لسنا امام ثورة، على رغم ان كاريزما اوباما الساحقة توحي بملامح القادة الثوريين. نحن امام تغيير داخلي عميق نجح النظام السياسي الاميركي في اجتراحه، لأنه كان وسيلته الوحيدة للخروج من مأزقه التاريخي.
هنا تكمن قوة المؤسسة السياسية الاميركية. الركام الذي صنعته ادارة بوش- تشيني بدا كأنه مؤشرات النهاية. لذا كان الخروج منه صاخبا ويحمل سمات جذرية، ويختزن روحا شبابية لم يسبق لها ان انخرطت في السياسة قبل بداية المشروع الاوبامي.
هذه الروحية الجديدة تعمّ كل الاوساط الليبيرالية هنا، لكنها يجب ان لا تخدع المراقبين السياسيين، وخصوصا في العالم العربي.
البناء على التغيير الذي يقترحه اوباما على المستوى العربي بالغ الصعوبة. وهذا يعود الى سببين:
السبب الاول عربي، ويكمن في تخشب النظام العربي وافتقاره الى الحد الادنى من المبادرة والخيال. انظمة لا تسعى سوى الى البقاء في السلطة، وليست معنية بقضايا شعوبها، ولا بتخلفها الفلكي عن العالم.
السبب الثاني اميركي، اذ ان فريق اوباما الشرق اوسطي سوف يكون كلينتونيا في شكل كامل. اي ان المبادرة في حقل الصراع مع الاحتلال الاسرائيلي سوف تبقى محدودة بكمب ديفيد، الذي فتح المجال امام تصفية ياسر عرفات سياسيا وجسديا.
غير ان الامر مرهون بالفلسطينيين، اذ تستطيع قيادة فلسطينية جديدة وحكيمة ان تبدأ من طابا وليس من كمب ديفيد، اي ان تستعيد المبادرة السياسية، وان تفتح كوة في الوضع المقفل الذي وصل الى ذروته في الحرب البربرية التي شنّتها اسرائيل على غزة.
هذه مسائل للتفكير العميق، كي لا يكون العالم العربي خارج تطور هائل سوف ترتسم ملامحه قريبا في السياسة الدولية.
غير انني لم استطع اخفاء حزني، ففي الوقت الذي نجحت فيه اميركا في الانتصار على صورة الوحش التي ألبسها اياها المحافظون الجدد، وفي تجديد زعامتها السياسية، يجد العالم العربي نفسه اسير الخيبة والمومياءات التي تحكمه. لم تعد الثقافة السياسية العربية قادرة على انتاج سعد زغلول آخر او جمال عبد الناصر. علينا ان نبقى اسرى هذا العصر النفطي الذي يمتد من ايران الى السعودية، جاعلا عالمنا العربي بلا قيادة ولا رؤية.
لذا تتوجه الانظار الى فلسطين، من اعماق السجون وظلام الاحتلال، تتنظر فلسطين قيادة جديدة تعيد القضية الى نصابها، تقاوم وتحرر، تواجه المحتل وتفتح افقا.
النهار