«شايلوك» شكسبير .. ومادوف «وول ستريت»
د.نديم معلا
في مسرحية شكسبير ذائعة الصيت «تاجر البندقية» يبحث المُرابي اليهودي عن المبررات الدينية والأخلاقية للربا،
ولا يتوانى عن تحريف الكتاب المقدس، لكي يعطي نفسه شرعية مزيفة لجمع المال.
فيزعم أن «يعقوب الذي كان يرعى غنم عمه، اتفق معه على أن تكون الخراف ذات اللونين، حديثة الولادة، أجراً ليعقوب، عمد الراعي اللبيب الى بضعة أغصان، فعراها من قشرها، ونصبها في طريق النعاج الولود. فلما حملت توحمت عليها، وحل موعد الوضع، وولدت حملان رقطاء بلقاء، وكانت هذه من نصيب يعقوب».
ويصر «شايلوك» على أن ما فعله يعقوب ليس الا إحدى وسائل تنمية الثروة! «ولقد بورك له فيها» ويمضي «شايلوك» قائلاً :
«ولا ريب في أن تنمية الثروة نعمة مباركة! ولكن شريطة ألا يسرقها الناس».
الربا بالنسبة إليه «تنمية ثروة» ولكن على المرابي أن يكون حذراً حتى لا يسرقه الناس. ولقد أدرك «أنطونيو» تأويل «شايلوك» وما ينطوي عليه من مكر وخطل. «وهل ضربت هذا المثل لكي تقول إن الربا حق؟! أو هل ذهبك وفضتك نعاج وخراف؟!».
نهاية شايلوك ومادوف
والعقد الذي وقعه «شايلوك» مع «أنطونيو» ينص على أن يقتطع الأول رطلاً من لحم الثاني، إذا لم يسدد الثاني المال الذي أقرضه الأول الى صديق الثاني، خلال مدة محددة.
ولعل النهاية معروفة لدى الكثير من القراء، إذ قاد الطمع والجشع وسوء الطوية، شايلوك الى نهاية مأساوية، خسر فيها كل شيء.
وقد لا تكون نهاية اليهودي الأميركي برنارد مادوف، أفضل من شايلوك.
استغل مادوف- وهو أحد أركان الأزمة المالية التي تعصف بالعالم هذه الأيام-، صندوق الاستثمار الذي يديره، وخدمات الاستشارات المالية، التي تقدمها شركته في تدبير عمليات الاحتيال.
وبرزت شخصيته كأحد نشطاء «وول ستريت» منذ العام 1960.
بل كان «مادوف» الرئيس السابق لبورصة ناسداك في نيويورك، وعرف كيف يوظف سمعته الإدارية والمهنية، ليُنمي ثروته.
كان مادوف هذا يأخذ أموال المستثمرين الجدد في صندوقه، ليعطيها لمستثمرين آخرين، إضافة الى إقراضه لآخرين بفوائد مرتفعة.
وليس مهماً هنا، في هذا السياق، أن نوغل في التفاصيل الميدانية، بل الأهم إضاءة شخصية المرابي، والذي ارتبط تاريخياً ومنذ عصر النهضة الأوروبية (القرن السادس عشر) وربما قبل ذلك بكثير، باليهودي.
ومن المعروف أن الصورة النمطية، التي أنتجها الأدب الأوروبي لليهودي، هي المرابي.
بل إن كثيراً من الكُتاب (كريستوفر مارلو معاصر شكسبير) رأوا في اليهودي الشر المطلق، والذي يكتنز الذهب والفضة، عن طريق الربا، باعتباره (الربا) مهنة نظيفة لا تحتاج الى جهود مضنية، وتتكاثر بطريقة خرافية.
الشخصية وشرطها التاريخي
وأذكر أن الروائي السوري الراحل والأكاديمي المعروف د.هاني الراهب، حدثني عن المتاعب الجمّة التي واجهها أثناء إعداده لبحثه «الشخصية اليهودية في الرواية الإنجليزية» في بريطانيا.
رغم أنه لم يسعَ الى تكريس الشخصية «النمطية» بل جل ما كان يرومه التحليل، ومن ثم الربط بين الشخصية وشرطها التاريخي والاجتماعي.
وإذا لم يكن الربح السريع و«النظيف» هاجس المرابي، فلماذا نجده إذن ينغمس في الأسواق المالية العالمية؟
لقد أملت التغيرات الاقتصادية والاجتماعية الهائلة، في القرن الماضي –ولعل أهمها– تعاظم وتنامي دور أسواق الأوراق المالية، في العملية الاقتصادية، على المرابي التقليدي، الانتقال الى مواقع متقدمة، والمهارة في ابتكار وسائل النصب والاحتيال.
لم يعد المرابي إذن تلك الشخصية التي تستقطب المحتاجين الى القروض والغرقى الذين يبحثون عن «قشة» النجاة لديه، بل صار في وسعه تكييف الوسائل مع الظروف.
وفي الأحوال كلها، فإن المرابي يتجرد من كل ما هو إنساني، ويسخر من أولئك الذين يخاطبون إنسانيته، لأنها غادرته وأصبح في حِل منها!.
الآخر لديه مشروع تجاري، هو الخاسر فيه حتماً وإلا لكان (المرابي) مغفلاً يُستخف به.
لا يهم شايلوك من يخسر أو من يهوي الى القاع، طالما أنه هو الذي سيربح في النهاية.
وعلى الرغم من أن شكسبير أراد أن يبرز الأمثولة، من خلال النهاية، الا أنه لم يُغفل الوجه الأخر –الوجه الانساني- للشخصية اليهودية، إذ مايز بين «شايلوك» وابنته التي تحررت من آثامه.
برنار مادوف شريك في أزمة كونية، شأنه في ذلك شأن بنك «الأخوة ليمان» الذي أسسه أخوة يهود جاؤوا الى أميركا مهاجرين، في نهاية القرن التاسع عشر، ومارسوا أنواع الربا كلها وأقرضوا أبناء الطبقة الوسطى، ثم كونوا ثروة هائلة.
انهار الأخوة ليمان في عاصفة الرهون العقارية، ولكن أحداً لا يعلم أين انتهت ثرواتهم، وكيف أعدوا للإفلاس الكبير؟.
كاتب من سورية