الدور التركي في المنطقةصفحات العالم

تركيا الصاعدة كمعضلة للغرب… وكمعضلة للعرب

جهاد الزين
تميل نخب عربية واسعة، تحترف التصفيق أو الشتائم حسب المنعطف الاخير لاي حدث، الى ربط تصاعد الاهتمام – الفعالية التركية في منطقة المشرق العربي، الى وجود “حزب العدالة والتنمية” الوحيد الجانب في السلطة السياسية العليا للدولة التركية.
لكن الى ما قبل الحرب الاسرائيلية على غزة، كانت هذه النخب العربية من مصر الى السعودية الى سوريا الى لبنان – الاردن – فلسطين، كانت “تراقب” الدور التركي بانشداد ايجابي عام الى وتيرته السياسية المتراوحة بين المزيد من الحضور في دول المنطقة وبين المزيد من التوسط بين “العرب” واسرائيل.
كانت السنة المنصرمة تشهد في الواقع تبلور بعد آخر سياسي – وفي النتيجة تحديثي – للدور التركي مختلف عن الابعاد الاخرى التي كانت بدأت تشد انتباه النخب العربية في اواخر القرن العشرين او في اوائل هذا العقد من القرن الحادي والعشرين وهي الديموقراطية والتحديث الاقتصادي والمقدرة الذاتية لدولة عضو راسخ في الحلف الاطلسي على اتخاذ قرارات مستقلة عن الغرب، كما ظهر مع رفض الدولة التركية (بتوافق تام بين الحكومة والمؤسسة العسكرية) تقديم تسهيلات للجيوش الاميركية التي كانت آتية الى العراق عام 2003.
هذا البعد الآخر – الاضافي – لتميز الدور التركي والذي هو بالنتيجة مُكمّل طبيعي للبعد الديموقراطي التحديثي – هو المتعلق بالموقف من الحساسية المذهبية الشيعية السنية التي تحولت الى احدى حقائق المنطقة، اجتماعياً وجيوبوليتيكياً في السنوات الاخيرة انطلاقاً من الوضع الجديد في العراق.
ببساطة: لقد كسرت تركيا بصورة من الصور حدة الاستقطاب المذهبي في منطقة المشرق عبر كسرها لـ”قواعد اللعبة”. فبين ايران، الدولة الشيعية، وبين المملكة السعودية الدولة الوهابية، المتحالفة مع مصر الدولة السنية، اذا بتركيا الدولة السنية الكبرى في المنطقة، بل الوريثة الوحيدة للامبراطورية الكبرى الاخيرة السنية في العالم المسلم، تتخذ مواقف على قواعد سياسية وامنية واقتصادية لا علاقة لها بالاستقطاب المذهبي. هذه الدولة المتنافسة مع ايران، والتي سيزداد تنافسها مع ايران كدولتين – امتين كبيرتين في المنطقة في ظل تراجع “مركز عربي” للاستقطاب، تحتفظ بكامل علاقاتها مع اسرائيل، بل تلعب دوراً وسيطاً بين سوريا واسرائيل، وتبقى على تنسيق حيوي مع الرياض والقاهرة كما تزداد علاقاتها وثوقاً مع دمشق والسلطة الفلسطينية، وفي الوقت نفسه لا تمنعها علاقاتها الطبيعية مع ايران من ابقاء مسافتها السلبية عن بعض السياسات الايرانية.
باختصار: الدولة التي يبلغ عدد سكانها حسب آخر احصاء نشر امس حوالى 71 مليوناً ونصف المليون، يقيم 75 بالماية منهم في المدن، بينهم حوالى الثلث في اسطنبول (17 في الماية) وانقرة وازمير، كما التي تضم – وهذا ما لم يذكره الاحصاء المشار اليه – 55 مليون سني، و15 مليون علوي (12 – 14 مليوناً في تقديرات بعض الاوساط التركية السنية، و20 مليوناً في تقديرات الهيئات العلوية)… كذلك حوالى 7 الى 10 مليون كردي يضمون بدورهم، كالاتراك اغلبية سنية واقلية علوية…
… هذه الدولة التركية ترسم – ولربما لاحقاً تنشر – نمطاً من الاتزان المذهبي في منطقة من العراق الى لبنان والبحرين وغيرها كادت تفقد هذا الاتزان.
كل هذا كان يتبلور قبل الحرب الاسرائيلية على غزة.
هذه الحرب دفعت الى الواجهة، بسبب تصريحات رئيس الوزراء التركي، زعيم “حزب العدالة والتنمية” (AKP) مسألة نقاشية كبيرة داخل تركيا كما في الاوساط الاقليمية والدولية تتعلق بالمسألة التالية: هل تخطى اردوغان حدود الدعم التركي العام للموقف الفلسطيني ليتحوّل الى دعم لفريق فلسطيني هو حركة “حماس”؟ وهل أدت – وهذا هو السؤال الاهم – هذه التصريحات، او قد تؤدي الى خلل خطر في رصيد تركيا على لعب دور وسيط بين اسرائيل والعرب؟
لقد فتحت تصريحات اردوغان هذا النقاش الجدي في وقت لم يكن ممكناً توجيه اي انتقاد رصين لسلوكية الديبلوماسية التركية في هذه الازمة. فمبعوث اردوغان الى مصر المتجوّل بين دمشق والقاهرة، كما مساعده الآخر الذي لم تركز الانظار عليه، السفير فريدون، المتجول بين اسرائيل وانقرة، كانا يقومان بدور بنّاء بنظر جميع الاطراف، سوريا و”حماس” كما القاهرة وتل ابيب. حتى ان القاهرة التي تعرضت بحكم القدر الجيوبوليتيكي كدولة عربية وحيدة متصلة بغزة كانت تنظر الى الدور التركي عملياً كدور مساعد لها، على الاقل من زاوية ما لعبه الاتراك من دور “وسيط” غير معلن بين سوريا ومصر. بهذا المعنى كان الدور التركي اقرب الى دور الوساطة بين مصر وسوريا منه عملياً الى دور الوساطة بين اسرائيل و”حماس”، وهو الموقع الذي كانت تلعبه القاهرة.
هذا يعني ان المشكلة “انحصرت” بتصريحات اردوغان المتحمسة، لا سيما ولربما بسبب الوضع الشعبي التركي الذي كان يشهد تأججاً في مشاعره الدينية كادت تبلغ حد العداء للسامية اي لليهود في بلد لا تقاليد عداء عنفي لليهود فيه تاريخياً منذ طردهم مع المسلمين من اسبانيا بعد سقوط الاندلس واستقبالهم في الاستانة.
تصريحات اردوغان تثير لمراقب من المنطقة بين ما تثير سؤالاً دقيقاً هو التالي:
اذا كان من الثابت ان الانفتاح التركي على النظام السوري اتخذ بقرار مشترك بين المؤسسة العسكرية والمؤسسة السياسية في تركيا ممثلة بحكومة اردوغان، فهل وضع ما بعد احداث غزة يشهد قدراً من التحفظ لدى المؤسسة العسكرية التركية على دور تركي في الموضوع الفلسطيني، احدى نتائجه الاولى رفض المؤسسة العسكرية اي دور لمراقبين عسكريين – ناهيك عن قوات عسكرية – في غزة؟ وهو ما جعل رئيس الوزراء اردوغان يعلن ان مشاركة عسكرية تركية غير واردة في المستقبل وان المطروح – كما قال – هو مشاركة مراقبين مدنيين اتراك، وبما يذكّر بتحفظات المؤسسة العسكرية نفسها حيال المشاركة في “القوات الدولية” في لبنان بعد صدور القرار 1701 عام 2006. حينها أمكن لأردوغان تجاوز تلك التحفظات. اليوم لا. فالجيش يفضل التركيز الجدي على شمال العراق.
على ان العنصر الذي قد يخفف من هذه الهواجس حول “مبالغات” اردوغان الاعلامية في الاوساط الاميركية والدولية، هو ان العلاقة التركية مع “حماس” قد تصبح مطلوبة، بل هي ضرورية، اذا كان تفعيل ديناميكية سلام فلسطيني – اسرائيلي تقوم به ادارة الرئيس باراك اوباما سيتطلب استيعاب حركة “حماس” داخل العملية السلمية. وهذا ما لا يمكن بعد الآن تصوّر اي سلام بدونه. من هنا اصبح بامكان اردوغان الآن – ومعه طاقم الديبلوماسية التركية – لعب دور ضروري في السعي لعملية الاستيعاب. مع العلم ان قراءة تصريحات خالد مشعل خلال الازمة تظهر مدى ايحاءاتها بامكانية الانخراط السلمي ضمن الشروط المعروفة في مقدمها الاعتراف التحاوري بـ”حماس”. كذلك تصريحات الرئيس السوري ايضاً لم تخرج جوهرياً عن هذا السياق.
• • •
مشاكل تركيا او المشاكل مع تركيا ربما تأتي الآن من تغيير تاريخي كبير: لقد كانت تركيا القرن التاسع عشر والعقدين الاولين من القرن العشرين “الرجل المريض” في اوروبا والشرق. كانت الصراعات معها وحولها قائمة على هذا الاساس. ربما الآن اصبحت اشكالاتها المتصاعدة ناتجة عن كونها “الرجل المعافى” او “الآخذ بالتعافي” في المنطقة قياساً بدولها الاخرى المتخلفة بل المعاقة على مستويي التحديث: السياسي والاقتصادي، رغم كل المسافة التي على تركيا ان تقطعها بعد في طريق التقدم.
بهذا المعنى يجب التفريق، كما الرصد، بين تركيا الجديدة الصاعدة كمعضلة للغرب، وبين تركيا الجديدة الصاعدة كمعضلة للعرب.
وعلى رجب طيب اردوغان ان يكون حذراً مرة اخرى بحيث لا يؤذي امكانات الدور التركي المطلوب بمبالغات “شعبوية”. نريد تركيا النموذج الجديد… البادئ اصلاً قبل “حزب العدالة” ومعه.. وقطعاً بعده.
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى