أوباما: لهجة جديدة للغة قديمة
سمير كرم
ما الذي يجعل المواطن العربي يظن أن باستطاعته أن يغير سياسة الولايات المتحدة إزاء الصراع العربي ـ الإسرائيلي بمناسبة مجيء رئيس جديد من أصل أفريقي اسم والده كان حسين … في حين انه ـ أي المواطن العربي ـ لا يستطيع تغيير سياسات حكامه تجاه هذا الصراع، أو أي صراع كان؟
إنني أطرح هذا السؤال الاستنكاري لسبب بسيط هو أن المواطن العربي ـ حاكما أو محكوما ـ لم يحصل من الرئيس الجديد للولايات المتحدة على وعد صريح بتغيير سياسات الولايات المتحدة تجاه الصراع العربي الاسرائيلي أو تجاه طرف من أطراف هذا الصراع أو كلها معا. للحقيقة والتاريخ ـ كما يقال ـ فإن باراك أوباما ظل منذ البدايات الأولى لترشيحه للرئاسة وفيا للعلاقات الخاصة الاستراتيجية والسياسية والامنية مع اسرائيل. كما انه عندما أدى طقوس الولاء لهذا التحالف أمام أكبر منظمات اللوبي الصهيوني الاميركية (الايباك) في منتصف العام المنصرم أظهر بكل وضوح وصراحة انه مستعد للذهاب الى أبعد من الآماد التي ذهب اليها الذين سبقوه الى هذه الطقوس دفاعا عن أمن اسرائيل ووضع مصالح اسرائيل موضع الاولوية للسياسة الخارجية الاميركية: اسرائيل اولا وان لم ينطقها حرفيا. وقتها ناله ما ناله من انتقادات عربية مخلصة ومزيفة من كل نوع. ولم تلـبث أن نسيت.
فهو، اذاً، قد اختار الطريق نفسه الذي اختاره سلفه المباشر جورج بوش وأسلافه السابقون حتى عاشر سلف .. الطريق الى الفوز في الانتخابات الأميركية.
بل الواقع ان أوباما نال أصوات العرب الأميركيين والمسلمين الأميركيين في انتخابات العام الفائت بالأعداد والنسب ذاتها التي نالها جورج بوش في انتخابات عام ٢٠٠٠ عندما توهم هؤلاء الناخبون أنه سيكون رئيسا مختلفا يأخذ السياسة الأميركية بعيدا عن تقاليد الحزب الديموقراطي الملتزمة بإسرائيل ولا أذكر ـ ولا أظن أن أحدا يذكر ـ أن بوش كان قد وعد أو دعا الى سياسة لأميركا في الشرق الأوسط تختلف عن سياسات ترومان أو نيكسون أو جونسون … حتى انه قيل وقتها ان بوش نجح بأصوات العرب الأميركيين والمسلمين الأميركيين في فترة رئاسته الاولى، وانه نجح في انتخابات فترة الرئاسة الثانية على الرغم من حجب أصواتهم عنه.
إنه فقط الميل الجارف لدى عرب أميركا (داخل أميركا وفي أرجاء الوطن العربي) الى الاستسلام السريع والكامل للتفــكير تحت تأثير الأماني. انه فقط الاعتقاد ـ دون أساس من الواقع أو النظرية ـ أن بالإمكان أن يغير رئيس أميركي سياسة بلاده الخارجية تحت تأثير النوايا الحسنة لجانب من الناخبين تصادف أنهم ينتمون الى بلاد لم تعرف الديموقراطية. ولابد ـ وفقا لهذا المعنى ـ أن يمد يده إليهم لينقذهم من عجز حكامهم عن مقاومة أعدائهم الخارجيين، فهم ـ أولئك الحكام ـ مشغولون دوما بمقاومة أعدائهم الداخليين.
لا تلبث الأحداث والتطورات أن تثبت أن العلاقات الاستراتيجية الاميركية ـ الاسرائيلية أقوى وأثبت من أي تغيير يمكن أن يخطر ببال مرشح أو رئيس أو مجموعة من الناخبين.
ولن تلبث الأحداث والتطورات التي واكبت رئاسة كل رئيس أميركي منذ ترومان الى جورج برش الابن أن تبرهن على أن باراك أوباما يختلف في لون بشرته ومنطوق اسمه والديانة الأصلية لأبيه وأصله وفصله .. إلا أنه ـ بحكم انه انتخب رئيسا للولايات المتحدة ـ لن يختلف في توجهات سياسته في هذه المنطقة الحيوية الاستراتيجية والهامة. واذا كان قد قيل الكثير الكثير عن براعة أوباما في فن الخطابة وهو نفسه فن الإقناع، فإن الرجل، وبكل إخلاص لأهدافه، خاض معركة انتخابه رئيسا بوجه تيارات مناوئة عاتية، وسعى بالتزامات محددة الى إقناع الناخبين الأميركيين ـ البيض قبل السود ـ بأنه جاء الى الرئاسة في هذه المرحلة الخطرة .. ليس فقط لأن الناخبين الأميركيين أرادوا أن يبتعدوا بأكبر مسافة ممكنة عن سياسات سلفه بوش، بل لان الرئاسة ذهبت لأول مرة الى هذا الافروأميركي مثقلة بأعباء أزمة الرأسمالية العالمية، بالإضافة الى أعباء حربين خارجيتين مفتوحتي النهاية حتى الآن في العراق وفي أفغانستان، وبأعباء صراع عسكري أمني سياسي شامل هو الصراع العربي ـ الاسرائيلي .. تخوضه الولايات المتحدة بأسلحتها ودعمها المالي والسياسي والاستراتيجي الى جانب طرف ضد الأطراف الاخرى التي تصادف أن بينهم حلفاء وأصدقاء لأميركا وبعضهم ـ أقلية منهم ـ خصوم لها ولسياساتها.
لكن باراك أوباما، على مدى سنتــين من الحملة الانتخابية، لم يعط للناخبين تصوراً تفصيليا كاملا عن أي مشروع محدد له، سواء بالنسبة لأزمة الرأسمالية العالمية أو غيرها. التزم بعموميات بشأن كل ما تواجــهه أمـيركا من صراعات ومشكلات. ربما كان هذا سبب نجاحه. فقد أراد الناخبون أن يعطوه فرصة الاجتهاد تفصيليا وهو في مقعد الرئيس. وربما يكون قد بدا لهم أهون الشــرين بالمقارنة بغريمه »بوش الثالث« أو جون ماكين. وتصادف ان قاعدة أهون الشرين انطبقت هذه المرة على مرشح أسود اسمه باراك »حسين« أوباما. وهذا اسم يمكن ان يذكر كل مسلم بإسلاميته .. إلا باراك (…)
الاميركيون ينظرون الى أوباما بأمل … لكن هذا لا يمنع انهم يفهمون جيدا انه إما أن ينضم الى قائمة أفضل الرؤساء الاميركيين، وهو لهذا حرص على أن يدخل اسم ابراهام لنكولن في اليومين الاخيرين اللذين سبقا تنصيبه، الامر الذي لم يفعله أثناء الحملة الانتخابية، واختار في لحظة التنصيب أن يأتي بنسخة الكتاب المقدس التي أقسم عليها لنكولن يمين الولاء يوم تنصيبه، وإما أن ينضم الى قائمة أسوأ الرؤساء الاميركيين التي يحتل سلفه بوش رأسها.
ولا يستطيع محلل مهما كانت براعته، ولا حتى عرّاف مهما بلغت قدرته، أن يقول من الآن اذا كان أهون الشرين سيكون على قائمة أفضل الرؤساء أو على قائمة أسوئهم. كل ما يستطيع مراقب للأحداث أن يقوله ان أوباما محمل بأعباء تهون الى جانبها أعباء الحرب الأهلية التي تحملها لنكولن ولم تلبث أن أنهت وجوده برصاص الاغتيال الذي ساعد بلا شك في وضعه على قائمة الرؤساء الأفضل. وهو ما حدث بعد مئة عام باغتيال جون كيندي ليصعد باغتياله على قائمة الأفضل.
ويدرك الاميركيون ـ وسط وهج الفرحة بأنفسهم وقد تخطوا حاجز اللون وما كان بظن أحد أن بالإمكان تخطيه خلال القرن الحالي ـ أن باراك أوباما سياسي وليس زعيماً. لكننا نحن المواطنين العرب لا ندرك هذه الحقيقة، مع اننا ـ اكثر من غيرنا ـ ندرك الفرق بين سياسي وزعيم لأننا نعاني من إصرار ساسة يحكموننا على أن يعاملوا أنفسهم ويعاملونا وكأنهم زعماء. وقد أظهرت الفترة الانتقالية بين ادارة بوش الذاهبة وإدارة أوباما المقبلة، الى أي حد تمسك الأخير بلعب دور السياسي المرن مع الرئيس المنتهية صلاحيته. وفيما يعنينا نحن العرب لا بد أن نعي أن بوش سمح لنفسه بما كان ينبغي ألا يسمح لنفسه به لو أن أوباما لم يكن ما هو:
سمح بوش لنفسه، في ما يخصنا نحن العرب، بأن يعطي إشارة ضوء أخضر لإسرائيل لشن حربها الهجومية الشعواء على غزة. فهل صحيح ان الادارة الذاهبة لم تبلغ الادارة المقبلة بهذا؟ مستحيل (…)
سمح بوش لنفسه بأن يغير موقف الولايات المتحدة إزاء قرار مجلس الامن رقم ١٨٦٠ الى امتناع عن التصويت بعدما كانت وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس قد أبلغت وزراء الخارجية العرب أثناء اجتماعات مجلس الأمن بأن الولايات المتحدة ستصوت بالموافقة على القرار. وقد أدى الامتناع الاميركي عن التصويت الى منح اسرائيل أسبوعين إضافيين من الهجوم على غزة ورفع أعداد القتلى من خمسمئة الى أكثر من .١٣٠٠ فهل يمكن أن تكون الادارة الاميركية الذاهبة قد غيرت تصويتها دون إبلاغ الادارة المقبلة؟ مستحيل.
سمح بوش لنفسه ـ ثالثا ـ بأن يجمع بين وزيرتي الخارجية الاميركية والاسرائيلية في واشنطن لتوقعا على اتفـاق أمني غــير مســبوق يفرض رقابة ويتخذ إجراءات تنفيذية لمنع »تهريب الأسلحة لغزة عبر الأنفاق« من أراضي مصر، بتعبير أدق تجريد المقاومة من السلاح بمعاونة من الاتحاد الاوروبي ومن حلف الاطلسي. فهل صحيح ان الادارة الذاهــبة لم تبلغ الادارة المقبلة بالامر. للمرة الثالثة الاجابة هي مستحيل. والاجابة هي ذاتها عن السؤال اذا كان اتفاق ليفني ورايس قد وقع من وراء ظهر مصر (…)
لكن هذا هو أوباما وتلك هي حدوده.
لقد اتضح ان أميركا المقبلة كما الذاهبة تعمل يدا بيد مع إسرائيل لتحقيق أهداف محددة:
ـ الحيولة دون إدانة وحتى محاكمة اسرائيليين باتهامات تتعلق بارتكاب جرائم حرب ضد سكان غزة.
ـ الإبقاء على توصيف حركة حماس بأنها منظمة إرهابية وتجريدها من أي صفة شرعية بما في ذلك انها الحكومة المنتخبة ديموقراطيا.
ـ الاستمرار الأكيد في سياسات أعدّتها ادارة بوش السابقة لإدخال حلف الأطلسي في دور عسكري وسياسي في المنطقة يبدأ بتنفيذ الاتفاق الثنائي الاميركي الاسرائيلي لمنع تهريب الاسلحة للمقاومة عبر الأنفاق.
ـ قصر الاتصالات من الآن فصاعدا على الأطراف العربية التي تعترف بإسرائيل وتطبع العلاقات معها، وهو شرط ينطبق فقط على مصر والاردن والسلطة الفلسطينية … وايضا على السعودية باعتبار ما سيكون.
إننا نــأخذ من اســتمرار أوبـاما على نهج بوش دليلا مرئيا على أن توقع اختلاف جذري من ادارة أوباما عن ادارة بوش لا يعدو ان يكون تمنيات في صورة أفكار أو أفـكار في صورة تمنيات.
ليس من العسير ـ حتى على من يتخذ موقفا نقديا من حماس ـ أن يرى أن المرحلة القادمة من سياسات ادارة اوباما ـ في اطار الايام المئة الاولى التي تعد الفترة الاختبارية لكل رئيس اميركي جديد ـ انما تهدف الى تمكين اسرائيل من تصفية حركة حماس لا باستخدام طائرات الاف ١٦ والبوارج الحربية والدبابات والفرق المظلية وقنابل الفوسفور واليورانيوم النضد، بل باستخدام ضغوط أخوة في مصر والسعودية والاردن وفي السلطة الفلسطينية … وباستخدام ضغوط الاتحاد الاوروبي الصديق وطائرات الاطلسي وسياسييه … كل هذا محاطا بالدور الاميركي الضامن الاول لأمن اسرائيل وأهدافها ومستقبلها … على النحو نفسه الذي اعتدناه لأكثر من ستين عاما.
فهل يلام باراك أوباما اذا ما لعب بالطريقة نفسها التي كسبت بها مباريات الشرق الاوسط كل الادارات السابقة؟!
يتحدث الرئيس الاميركي الجديد بلهجة جديدة .. أهدأ، عن العرب والمسلمين. واللغة الاميركية تبقى كما هي. فهل نعــتبر ـ كمــا يريد بعضهم ـ أن موافقة أوباما على إجــراء مقابلة مع فضائية عربية قبل غيرها مكسبا كافيا وتغييرا جذريا؟!
([) كاتب سياسي عربي من مصر