تحديات مشروع باراك أوباما… وانكماش الأذرع الأميركية
د.محمد السعيد إدريس
دعوة «التغيير» أو «الحلم» الذي جاء الرئيس الأميركي الجديد باراك حسين أوباما ليبشر به من الصعب تصور أنه محض دعوة أخلاقية، وإن كان من غير اللائق تجريده من المعاني النبيلة لدعوة التغيير، لكنه في جوهره يُعد استجابة واقعية لضرورات وتحديات باتت تحول دون استمرار سياسة القوة الأميركية المفرطة لفرض مشروع الهيمنة الأميركية المطلقة على العالم، الذي ابتدأه الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان وهو يسعى إلى تقويض أركان «إمبراطورية الشر» السوفييتية، كما كان يسميها، وأنهاه الرئيس السابق جورج دبليو بوش بسياساته الخرقاء واستراتيجيته اللاأخلاقية للسيطرة، التي حملت اسم «استراتيجية الضربات الاستباقية» وكانت الدافع للتورط الأميركي في حرب الاستنزاف للقدرات وللمكانة في العراق.
لم يعد ممكناً، في ظل الواقع الأميركي والعالمي الجديد الذي أعقب الفشل الأميركي في العراق وانهيار النظام المالي العالمي بانهيار سوق المال الأميركية، وظهور قوى عالمية وإقليمية قادرة على إظهار التحدي للهيمنة الأميركية، أن يواصل باراك أوباما اتباع سياسات واستراتيجيات سلفه جورج بوش أو أن يبقى أسير تيار المحافظين الجدد الذي ورّط «بوش» في تلك السياسات والاستراتيجيات، وكان عليه أن يحمل لواء التغيير، لكن تبقى المعضلة الكبرى في معرفة ماهية هذا التغيير، أي التغيير إلى ماذا وكيف؟
صعوبة الإجابة على هذا السؤال شغلت العديد من كبار المفكرين والمنظرين الاستراتيجيين الأميركيين الذين اهتموا بقراءة الواقع وفهمه وحرصوا على الوصول منه إلى إجابات تضيء آفاق المستقبل، خصوصاً مسؤول التخطيط السياسي الأسبق في وزارة الخارجية الأميركية والرئيس الحالي لمجلس العلاقات الخارجية الأميركي ريتشارد هاس، ووزير الخارجية الأسبق هنري كسينجر، وأستاذ العلوم السياسية وأحد أبرز مفكري تيار المحافظين الجدد وصاحب دعوة أو فكرة «نهاية التاريخ» فرانسيس فوكاياما الذي تخلى أخيراً عن كل أفكاره ذات الصلة بالمحافظين الجدد، ثم مستشار الأمن القومي الأسبق وأحد أبرز مستشاري الرئيس الجديد باراك أوباما زبيغنيو بريجينسكي.
مابعد الهيمنة الاميركية
ريتشارد هاس الذي كان قد بادر منذ ثلاث سنوات تقريباً بنشر دراسة مهمة في مجلة «فورين أفيرز» التي يترأس الآن رئاسة تحريرها حملت عنوان «شرق أوسط جديد- نهاية الحقبة الأميركية» إذ تنبأ بحدوث تغيرات دراماتيكية في إقليم الشرق الأوسط من شأنها تقويض الهيمنة الأميركية على هذا الإقليم، عاد من جديد ليحاول الانتقال من التخصيص إلى التعميم، أي من مجال الشرق الأوسط إلى المجال العالمي وضمن الفكرة ذاتها أي أفول أو زوال عصر الهيمنة الأميركية.
ففي عدد مايو (آيار) يونيو (حزيران) 2008 من مجلة « فورين أفيرز» نشر «هاس» دراسة بعنوان «ما بعد الهيمنة الأميركية: اللاقطبية العالمية» وفيها يقرر بداية أن الولايات المتحدة لم تعد القطب العالمي الأوحد في العالم، وأن عالم الأحادية القطبية الذي استطاعت الولايات المتحدة أن تفرضه بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وانتهاء النظام العالمي ثنائي القطبية لم يعد له الآن أي وجود، لكنه لا يرى الآن نظاماً عالمياً متعدد الأقطاب ولكن ما يراه هو «نظام اللاقطبية» الذي يأمل أن يتطور إلى نظام متعدد الأقطاب كي يمكن ضبط سباق الحوادث والتطورات العالمية وكي لا تكون الفوضى هي القانون العام الحاكم للعالم.
يقدم «هاس» ثلاثة أسباب رئيسة أدت إلى التحول من نظام الأحادية القطبية إلى نظام اللاقطبية هي على الترتيب:
أولاً، سبب تاريخي، فالدول تتطور وتصبح أكثر دراية بكيفية توظيف المصادر المالية والتكنولوجية والموارد البشرية في سبيل تحسين الإنتاج والازدهار، والنتيجة بروز عدد متزايد من اللاعبين المؤثرين إقليمياً ودولياً مثل الصين والهند واليابان وروسيا.
وثانياً، السياسة الأميركية، ويعطي سياسة الطاقة الأميركية مثالاً على ذلك. فمنذ سبعينيات القرن الماضي ازداد الاستهلاك الأميركي من النفط بنسبة 20 % وتضاعفت الواردات الأميركية من المشتقات النفطية. النتيجة المباشرة لذلك تمثلت في ارتفاع أسعار النفط وتراكم ثروات الدول النفطية وتحولها إلى مراكز قوة أساسية. هناك نماذج أخرى للسياسات الأميركية الخاطئة مثل الحرب على العراق وتكاليفها الباهظة التي أرهقت كاهل الخزينة الأميركية إضافة إلى أنها جعلت الجيش الأميركي في حاجة إلى جيل كامل كي يتعافى من آثار مستنقعات العراق، وجعلت الولايات المتحدة عُرضة لمقولات نظرية المؤرخ بول كيندي عن التوسع الإمبريالي المتزايد الذي يؤدي في النهاية إلى سقوط الإمبراطوريات. أما السبب الثالث فهو العولمة. فالعولمة زادت من حجم وسرعة وأهمية التدفقات العابرة للحدود من البريد الإليكتروني مروراً بالغازات والفيروسات، وصولاً إلى الأسلحة. والعولمة تحث على اللاقطبية من خلال مسألتين: الأولى، تكمن في حصول الكثير من التبادلات عن طريق جهات غير حكومية وخارج سيطرة الحكومات. أما الثانية، فمردها إلى تعاظم قدرات هذه الجهات كالشركات المصدرة للنفط والشبكات الإرهابية والأنظمة المتطرفة.
اللاقطبية والاستقرار العالمي
لقد أدت هذه التطورات إلى ظهور قوى إقليمية ودولية جديدة قادرة على المنافسة لكنها غير قادرة على أن تتحول إلى أقطاب عالمية قائدة كما هي الحال بالنسبة للصين واليابان والهند وروسيا، كما أدت إلى أفول القدرة الأميركية كقوة أحادية عالمية مسيطرة والنتيجة هي ظهور نظام اللاقطبية بكل ما يحمله من أخطار عدم الاستقرار العالمي، ويبقى السؤال المهم هنا: ما مهمة أميركا الآن: هل أن تتحول إلى قطبية أحادية مسيطرة، ولكن كيف في ظل الأوضاع الأميركية الحالية، وعبر أية وسائل هل القوة العسكرية كما كان الحال في عهد جورج بوش، أم عبر وسائل أخرى اقتصادية وسياسية ومعنوية، أم تدفع باتجاه تأسيس نظام متعدد الأقطاب، ويبقى السؤال نفسه من دون إجابة: كيف؟
وسط هذا الغموض جاء هنري كسينجر ليزيد الأمور تعقيداً بما كتبه مؤخراً في صحيفة «الإندبندنت» البريطانية تحت عنوان «على العالم أن يصيغ نظاماً جديداً أو أن يدخل في فوضى».
لم يتحدث كسينجر عن خيار ثالث بين ما يطالب به من نظام جديد أو الفوضى. وإذا كانت الفوضى غير مرغوبة فتبقى المعضلة في ماهية هذا النظام العالمي الجديد، ما هيكليته أحادي القطبية أم ثنائي القطبية أم متعدد الأقطاب، ومن بيده أن يحدد أياًً من هذه الخيارات التي لا تتحول إلى واقع بقرارات لأنها محكومة بشروط وقواعد وتطورات عسكرية واقتصادية وتكنولوجية وسياسية. فالعالم يتحول من نظام إلى آخر عبر مراحل تطور درامية قد تكون الحروب الكبرى أحد منافذها.
«كسينجر» تجاوز كل هذه الصعوبات وتحدث ببساطة غير معهودة في كتاباته بقوله إنه «ربما يكون من البدهي القول إن الطبيعة غير المستقرة للنظام العالمي تصنع فرصة فريدة للتغيير». ويشرح «كسينجر» فكرته بالقول إن هذه الفرصة تشتمل على عدد من المتناقضات، فإذا كان الانهيار العالمي قد وجه ضربة قوية لمكانة الولايات المتحدة، فإن حجم الهزيمة التي مُنيت بها الولايات المتحدة يجعل من المستحيل بالنسبة لبقية العالم أن يختبئ بعد ذلك خلف الهيمنة الأميركية أو الفشل الأميركي، وأن على كل دولة أن تعيد تقييم مشاركتها في الأزمة السائدة في العالم.
انكماش الاذرعة الاميركية
خلاصة فكرة «كسينجر» أن المسؤولية لم تعد أميركية بل مسؤولية عالمية وبالتحديد مسؤولية القوى العالمية والإقليمية الناهضة. هذه القوى، حسب رؤيته، يجب أن تسعى للاستقلال، لأقصى درجة ممكنة، عن القواعد التي أدت إلى هذا الانهيار (يقصد الانهيار المالي)، وأن تتعهد، في الوقت نفسه، بالتعامل مع حقيقة أن مشكلاتها لا يمكن أن تحل إلا بالعمل المشترك.
على العكس من «كسينجر» مازال فرانسيس فوكوياما أكثر قدرة على أن يراهن على مستقبل الدور الأميركي والمسؤولية الأميركية في استعادة موقع الهيمنة، أي أنه مع العودة إلى نظام الأحادية القطبية بقيادته الأميركية عبر برامج إصلاح وتغيير أميركية بحتة، وهنا يقترب كثيراً من رؤى «بريجينسكي» الأقرب الآن إلى باراك أوباما.
ففي الوقت الذي اعترف فيه فوكويا (في طبعته الجديدة التي افترق بها عن المحافظين الجدد) بأن قدرة أميركا على صياغة الاقتصاد العالمي عبر الاتفاقيات التجارية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ضعفت وتضاءلت بعد وبسبب الأزمة المالية الهائلة، يرى أن العالم سيعاني على الأرجح من انكماش اقتصادي، وأن هذا الانكماش سيؤثر سلباً على فرص القوى العالمية المنافسة في الصعود مثل الصين أو غيرها، ويرى أن تجربة الانهيار المالي الحالية لن تخرج عن القوانين التي حكمت التجارب السابقة التي شهدها العالم في ثلاثينيات وسبعينيات القرن الماضي، إذ تمكنت الولايات المتحدة من التعافي منها بفضل قابلية نظامها للتكيف ومرونة شعبها، لكنه يرى أن تعافي أميركا من أزمتها هذه المرة يتوقف على مدى براعتها في إحداث تغييرات جوهرية يتمثل أولها في ضرورة الخروج من عباءة عصر الرئيس الأسبق رونالد ريغان فيما يتعلق بالضرائب ووضع الضوابط، أي البحث عن رؤى وسياسات اقتصادية جديدة، وثانيها في التغيير السياسي، إذ إن الاختبار الأخير للنموذج الأميركي يتمثل في قدرته على إعادة اكتشاف نفسه، والوصول إلى المنتج المثالي الذي يجب ترويجه عالمياً، وهو هنا يعني النموذج أو المثالية التي يجب أن تكون عنواناً للسياسة الأميركية. ولكنه إذا كان قد حرص على اعتبار الديمقراطية القيمة المثالية التي يجب أن تكون عنواناً للتغيير الأميركي، فإنه لا يرى فكاكاً من الصدام الحتمي بين الديمقراطية كقيمة مثالية وبين ضرورات أو حسابات المصالح الأميركية التي عادة ما تفرض التضحية بالنموذج لصالح حسابات المصالح، الأمر الذي يهدد مجدداً الصدقية الأميركية ويدخل الولايات المتحدة في دورة جديدة من اهتزاز أو اختبار المكانة.
الواقعية الجديدة
وهكذا تتجدد إشكالية التعقيد في الإجابة على سؤال ماهية التغيير الذي يجب أن يكون مشروع باراك أوباما ويستطيع أن يحقق به حلم التجديد، وهنا تبرز أهمية أنصار «أوباما» من المنتمين إلى التيار الجديد الذي يسمى الآن بـ «الواقعيين الجدد» وهؤلاء ينتمون إلى مجموعات نشأت داخل الحزب الديمقراطي وكانوا يحاولون بشكل أكثر جدية وعمقاً التمايز عن تيار المحافظين الجدد وحتى عن الواقعيين التقليديين أو المحافظين، وهو تيار يركز على صياغة التحالفات ليس على أساس ثوابت استراتيجية ذات خلفيات أيديولوجية أو عقيدية، وهو الأساس الذي يطرح المحافظون الجدد عليه رؤيتهم للعلاقات الدولية خصوصاً العلاقات الأميركية- الإسرائيلية على سبيل المثال، ولكن على أساس آخر يستهدف، قبل كل شيء، «خصوصية المصلحة القومية الأميركية» ومن ثم عدم تطابقها بالضرورة مع أي مصلحة أخرى.
لكن المشكلة أن «أوباما» لم يستطع الاعتماد كلية على هؤلاء في حملته الانتخابية خصوصاً بعد أن دخلت هذه الانتخابات مرحلة الضراوة، الأمر الذي جعله يتجه باطراد للاعتماد على تيار الواقعيين التقليديين أو المحافظين من الذين عملوا مع الرئيس بيل كلينتون، ولذلك فإن توليفة الإدارة الجديدة التي تجمع بين كل هؤلاء من الواقعيين الجدد والواقعيين التقليديين أو المحافظين بل ومن الجمهوريين التقليديين لا توحي بوجود فرص قوية لنجاح عملية التغيير المأمولة التي قد تبقى محصورة ضمن الإطار الضيق للإصلاح الأمر الذي من شأنه أن يبقي الأسئلة الكبرى الخاصة بمستقبل النظام العالمي ليس فقط من دون إجابة بل من دون فعل حقيقي وخلاق.
كاتب من مصر