فرصة عناق الغنم الأخيرة

د. مضاوي الرشيد
جرت العادة في واحات نجد (السعودية) وقراها ان يخرج الصبيان عند نهاية النهار لعناق الغنم العائدة من مراعيها وترحالها فيتم بعدها تجميعها وعدها والاطمئنان على صحتها من اجل الحجر عليها ليلا في مأوى آمن. وتتميز لحظة عناق الغنم بحركة وتوقعات وتأهب للاستقبال بعد انتظار طويل يشوبه الحذر والخوف على الغنم من السرقة او الضياع، وبعد ان ينتهي مهرجان العناق هذا تعود الطمأنينة الى النفوس بعدما تتأكد من استتباب الحال والامان. لا ندري لماذا أثارت قمة الكويت مشهد عناق الغنم هذا والذي انقرض منذ زمن بعيد من مخيلتنا.
لقد انتظر العالم العربي هذه القمة والتي سبقتها قمم مصغرة فضحت الزيف العربي والتخاذل والانقسام الحالي واستهلت قمة الكويت بمهرجان اعلامي اختلطت فيه الكلمات الجميلة والنصرة الحميمة بمبادرات المصالحة العربية ـ العربية بين زعماء تعاركوا في السابق بسبب تضارب المصالح والاستقطاب الخارجي الذي ساهم بدوره في شق الصف العربي وتوسيع الهوة بين اقطابه المتصارعة والمتناحرة.
اكثر ما لفت انتباهنا في مهرجان الكويت هو المصالحة التي تفضل بها العاهل السعودي الملك عبدالله، حيث حملت كلماتها اكثر من معنى، وأهم ما جاء فيها طي صفحة الخلافات الماضية بين الزعماء العرب والتبرع لغزة بمليار دولار لاعادة اعمارها بعد التخريب والقتل الاسرائيلي الذي دمرها ودمر بنيتها التحتية ناهيك عن المجازر التي تعرض لها سكان هذه المنطقة المنكوبة.
فرح الطاقم الاعلامي المتفرج على قمة المصالحة ورفع سقف التوقعات للمشاهد العربي وركزت المؤتمرات الاعلامية على صفحة تاريخية جديدة تجتمع تحت سقفها شخصيات تتناحر وتتعارك يوميا على صفحات الاعلام المملوك من قبلها، بعضهم يخوّن ويتهم بالعمالة والآخر يرد بنفس الاسلوب المعهود في ملاسنات الزعماء العرب وإعلامهم المسيّر. فرحة المشاهد العربي لم تكتمل إذ بعد اقل من 24 ساعة على خطاب الملك عبدالله عادت الشكوك والملاسنات الى وضعها السابق ولم تتمخض القمة الا عن تحذيرات مبهمة لاسرائيل تهدد وتتوعد بأن المبادرة العربية التاريخية والتي لم يقبلها الاسرائيلي والفلسطيني منذ عام 2002 لن تبقى مطروحة الى الأبد. وبدلا من سحب هذه المبادرة التي ولدت ميتة لوح الملك بسحبها في المستقبل البعيد او القريب. ولم يقف كاتبو خطاب الملك على التغيرات الاقليمية والعالمية التي جعلت هذه المبادرة مبادرة تجاوزتها المرحلة الحالية والتي بدأت منذ عام 2006 تعيد رسم الخارطة العربية السياسية بشكل واضح وصريح.
فمنذ معركة لبنان وظهور القوة اللبنانية في الجنوب كرادع لتدخل اسرائيلي عسكري على الارض وفشل اسرائيل في تصفية حزب الله اللبناني ومن ثم الالتفات الى حماس في غزة ومحاولة استئصالها من مجتمعها ومحيطها، نجد ان المعادلة السابقة والتي قسمت العرب الى فريقين لم تعد جزءا من المواجهة مع اسرائيل. الفريق الاول خرج من الصراع تماما، احد هؤلاء الفرقاء التزم الصمت المطبق خلال حرب غزة والفريق الآخر يحاول جاهدا ان يجعل من موقعه الجغرافي نقطة مهمة في مشروع التسوية وحل الأزمة الفلسطينية، اما الفريق الآخر المستميت في عملية التطبيع مع اسرائيل وانهاء القضية الفلسطينية بأي شكل من الاشكال ولو على حساب ابتلاع الضفة الغربية من قبل اسرائيل وضم غزة الى مصر تحت مظلة بيروقراطية ما، نجده التزم الصمت ايضا خلال 3 اسابيع دامية ما عدا منشورات الادانة التي جلدت الضحية ولم تتطرق لعملية القتل الاسرائيلية الهمجية. فالسعودية اليوم تواجه اكبر تحد في تاريخها وعلاقاتها الخارجية وثقلها الاقليمي. استطاعت السعودية خلال النصف الثاني من القرن العشرين ان تواجه التحدي المصري اولا والعراقي ثانيا. وبعد الصلح المصري ـ الاسرائيلي وتدمير العراق منذ عام 1995 وجدت السعودية نفسها سيدة الموقف ما عدا النفوذ الايراني في منطقة الخليج وفي عمق المجتمع العربي في مصر ولبنان وسورية وغيرها من البلدان العربية المجاورة.
لكن مشكلة السعودية اليوم هي مشكلة جديدة مرتبطة بظهور لاعب جديد صغير لكنه كبير في موارده وقدرته على اتخاذ مواقف براغماتية صريحة لا تستطيع السعودية ان تحذو حذوها دون ان تخسر الكثير من سمعتها وطاقتها وموقفها. انها قطر، تلك الجزيرة الصغيرة الكبيرة بفعلها واعلامها. ورغم المصالحات السابقة مع قطر لم تستطع السعودية حتى هذه اللحظة استيعاب الدور القطري. مشكلة السعودية مع قطر لا تنطلق من المنافسة والرغبة في السيطرة التامة على القرار الخليجي وتبعيته الى الاخ الاكبر، بل هي مشكلة عنصرية واستعلائية على قطر والتي هي من منظور سعودي غير مؤهلة للعب اي دور خارج اللعبة السعودية وموقفها من قضايا المنطقة الخليجية والعربية.
استطاعت قطر ان تتجاوز السعودية وتلعب دورا في حل مشاكل المنطقة وأهمها المعارك اللبنانية ـ اللبنانية. طبعا لا تستطيع هذه القيادة ان تقوم بما تقوم به قطر علنا لان قطر تحررت من عقدة لا تزال السعودية غير متخلصة منها وهي عقدة عدم الصراحة واللجوء الى السرية في تدبير شؤونها الداخلية والخارجية. وعندما كان وزير الخارجية القطري يدعو الله ان يسلم الانظمة العربية في كلمة قالها ‘الله يسلمنا’ من ضغط حالة الغضب العربية التي رافقت مجازر غزة، كانت القيادة السعودية تلتزم الصمت المطبق وتحكم قبضتها على شارع غاضب حرم من التعبير عن موقفه بعد ان حرمت عليه المظاهرات والاعتصامات.
وجاء المليار المتبرع به لغزة ليتوج الموقف السعودي والذي يفضل ان يعوض الفلسطينيين عن ارواحهم ومنازلهم ومرافق حياتهم بالمليار وهو يدفع ثمنا باهظا لمجازر اسرائيل في المنطقة. هذا الموقف يجعلنا نعتقد ان السعودية اليوم مكلفة بدفع فاتورة الخراب الاسرائيلي وغزواتها المتتالية على جيرانها تماما كما فعلت السعودية عندما دفعت فاتورة تحرير الكويت. انتبه عزيزي القارئ فنحن لا نعارض عملية الاغاثة واعادة اعمار ما تبقى من غزة لان هذا ينبع من منطلق انساني بحت، ولكننا نطرح علامة استفهام كبيرة على الدور السعودي الحالي والذي يريد ان يتصدر بالمال عملية اعمار لتدمير اسرائيلي متتال في غياب حل واضح وصريح وموقف عربي موحد. لقد خرجت السعودية من ازمات المنطقة رغم شعارات العروبة والتضامن الاسلامي واصبحت خزينة تحت الطلب تستعمل لتغطية الدمار واعادة ما تهدم. وها هي السعودية المتقلصة تلجأ الى خطابات المصالحة علها تعيد التوازن ولكنها وبعد اقل من يوم واحد تبدد الاماني والاحلام. لماذا لا تنظر السعودية كيف اصبحت المعادلة العربية اليوم: تحتضن تركيا وايران وكلاهما دخلتا على الخط العربي حتى اصبحتا منافستين حقيقيتين للدور السعودي المتقلص او المعدوم. كفانا اساطير تستحضر فخر العروبة وخدمة الاسلام وها نحن حتى في عناق الغنم المحلي المنبثق من تراثنا نجد انفسنا محاطين بلاعبين جدد يملون علينا دورهم ويفرضون علينا قدراتهم السياسية.
لقد خرجت السعودية من اللعبة السياسية الاقليمية لان مشروعها اقترب اكثر من اللازم من مشروع العدو الذي يهدد الامن والاستقرار في المنطقة، لذلك لم تعد تستطيع ان تلعب دور الوسيط او الحكيم او المقرب للمواقف. ظهر ذلك في ازمات لبنان المتتالية وبعدها مصيبة غزة. لقد استبعدت القيادة السعودية نفسها تحت ضغط عملية تدمير البرجين في نيويورك ومن اجل تفادي المصادمة مع الولايات المتحدة التي استنفدت جميع طاقاتها لتركيع السعودية وتدخلت في مجتمعها ودينها وماضيها وحاضرها ومستقبلها، وفقدت السعودية قدرتها على مقاومة الضغط الخارجي وفقدت بذلك دورها كلاعب مهم في السياسة الاقليمية والخارجية.
هذه الخلفية أثبتت تقلص القدرة السعودية على فرض موقفها من المسائل العالقة في العالم العربي والخوض في معارك جانبية مع اطراف عربية على حدودها الشرقية او الشمالية. ورغم دعوة الوزير القطري بالسلام والامن للأنظمة الا ان المستقبل السعودي في ظل التطورات والتراكمات الاقليمية قد لا يبشر بالخير خاصة بعد ان تجلت بوضوح خيوط الوهن الداخلي السعودي وبروز لاعبين اكثر حنكة سياسية وصراحة. على السعودية ان تتجاوز عقدة قطر وتتخطى حدود استعلائيتها وربما بعدها تدرك ان الحجم والطول والعرض والمدخول قد لا يكون مهما في سياسة القرن الجديد، وانما ما هو اهم من ذلك الصراحة مع الذات واستعادة الاستقلالية بعد ان اختطفتها احداث تراكمت خلال السنوات الماضية وضغط مورس من الخارج، لم تكن القيادة السعودية مهيأة لمواجهته خاصة وأنها تفتقد لنصرة داخلية من قبل شعبها وشرائحه الاجتماعية والسياسية المتنوعة.

‘ كاتبة واكاديمية من الجزيرة العربية
www.madawialrasheed.org
القدس العربي