أوجه القوة الأميركية في خطاب أوباما
جورج كتن
عراقة الديمقراطية في أميركا وتطورها الدائم، أحد أهم عناصر النجاح في جعلها الدولة الاقوى سياسيا واقتصادياً وعسكرياً، مما يبقي الأنظار معلقة فيما تقرره أو تفعله. ويكفي متابعة الحملة الانتخابية التي تجاوزت السنتين للاستدلال على مدى تغلغل مفاهيم الحرية في المجتمع، ليأتي انتخاب الرئيس أوباما بمشاركة الملايين إعلاناً رسمياً لبداية عصر جديد تجاوزت فيه أميركا قطوع الحرب الاهلية والتمييز بين مواطنيها ورسخت المساواة للجميع إلى أي أصل أو جنس أو ديانة أو طائفة .. انتموا.
فإشارة الرئيس الجديد لأن الامة الاميركية مكونة من “مسيحيين ومسلمين ويهود وهندوس ولادينيين”، هي أوضح، وربما أول، تأكيد رئاسي لنهاية أميركا “المسيحية البيضاء” إذا جاز التعبير، لصالح الأمة التوليفة التي قال عنها أنها “حصيلة صهر حضارات وثقافات من جميع أنحاء المعمورة”، بحيث أصبح هذا القول بعد تنصيب رئيس من أصل إفريقي، إقراراً من غالبية الشعب الاميركي لحقيقة التعددية الإثنية والثقافية والدينية، وترجيحاً لمجتمع ليس فقط متعدد سياسياً بل متعدد الجذور والديانات والعادات واللغات، إلى جانب لغة واحدة للتفاهم، حتى يكاد يكون هيئة أمم لا تجمعها اللغة والقومية الواحدة بل مصالح العيش المشترك بين متعددين.
والدليل على تماسك المجتمع وكون التعددية ذات الأوجه المختلفة أهم عناصر القوة الأميركية، استيعاب أميركا لما لا يقل عن مليون مهاجر كل سنة يأتون من القارات الخمس، تقدم لهم فرص حياة افضل مما في بلدانهم وتستفيد من كفاءاتهم وتدمجهم ضمن أسلوب الحياة الأميركية. فالوطنية الأميركية ليست تمسكاً بقومية كما هو سائد في منطقتنا، بل هي ضمان حق الحرية في التفكير والتعبير والمشاركة السياسية، وحق البحث عن السعادة والحياة الافضل، وحكومة منتخبة من الشعب تعمل للشعب ولمصلحة الإنسان.
رافقت التقاليد الديمقراطية الدولة الأميركية منذ تأسيسها وأعطتها القوة لتصبح في موقع الريادة عالمياً، ويذكٌر تداول السلطة بأسلوب حضاري في احتفال تنصيب الرئيس الجديد أمام الملايين، ببؤس ما يجري في بلداننا حيث السلطة للأقوى كما في الغابة، لتنتقل بالتوريث مترافقة مع مظاهر مسرحية لاستفتاءات مفبركة ومبايعات صورية. فمعظم انظمة المنطقة:”المتمسكة بالسلطة عبر الخداع والفساد وإسكات أصوات المعارضين.. والسائرة عكس حركة التاريخ..” –حسب خطاب أوباما- ، لم ترعو من السقوط المدوي للديكتاتوريات الشرقية رغم الخداع حول اشتراكيتها وعملها لمصلحة شعوبها.
كما أن أحد أهم عناصر القوة الاميركية عامل “التغيير”، الذي ليس خاصاً بالرئيس الجديد رغم تأكيده عليه، وهو لم يأت بجديد بقوله أن “العالم تغير ويجب أن نتغير معه”، فالتغيير سمة بارزة للمجتمع الاميركي، حيث الاستعداد دائم للتخلي عن القديم، فيتجدد المجتمع باستمرار بمواطنين أتوا من بقاع الأرض تاركين ورائهم حياتهم القديمة البائسة على الأغلب، قابلين لأسلوب الحياة الجديدة التي لم يألفوها سابقاً، متحولين مع أجيالهم التالية لتمثل كل جديد ولنبذ القديم في شتى المجالات. تغيير وتجديد أميركا دعوة مستمرة لا تتوقف كأحد أهم أسرار قوتها، بعكس مجتمعاتنا الراكدة التي لا تكتفي برفض الجديد والتمسك بالقديم رغم ثبوت ضرره، ف”صحوتها” المزعومة تريد الحياة كما كانت منذ 14 قرناً.
تفوق أميركا برأي الرئيس الجديد – الذي وصف من قبل المراقبين بأنه ذو كاريزما ومثقف ومفكر وهادئ وقادر على الإقناع..- ليس بقوتها العسكرية بل بمواطنيها الذين أنتجوا وتخطوا المصاعب وعملوا بجد وتفاني وتسامح وفضول.. فعظمة أميركا ليست معطاة بل مكتسبة تعود لجهود رجالها ونسائها، أي أنه أعاد للشعب نفسه سر قوة أميركا وتقدمها. كما أرجع نجاحها لقيمها وقوة مثالها وتحالفاتها، ورفض تفضيل أمنها على مثلها، أو أن قوتها العسكرية وحدها تضمن أمنها أو تخولها أن تفعل ما تشاء في العالم. ووعد بتنفيذ خطة طموحة لإعادة “صنع أميركا” باتخاذ القرارات المناسبة بحكمة واتزان وتعقل، والعمل في وضح النهار والمحاسبة الشفافة، وبازدهار للأمة الاميركية بأجمعها وليس للأثرياء فقط، وبفرص للجميع كحق وليس كمنحة خيرية..
قوة أميركا خولتها دورها العالمي الذي تمارسه، وهو قابل للتغيير حسب الرئيس الجديد، الذي مد يداً لكل امة تريد السلام والحياة الأفضل، كما دعا العالم الإسلامي لعلاقات تستند للمصالح المشتركة والاحترام المتبادل، ووعد بمساعدات عالمية للدول النامية والمشاركة الفعالة في حل النزاعات بالمفاوضات والإقناع وليس بالقوة، وبهزيمة الإرهاب العالمي ومغادرة مسؤولة للعراق وتركه لشعبه، وإعادة دور أميركا بمواجهة الاخطار الكونية: هدر الموارد الطبيعية والاحتباس الحراري والأخطار النووية. وانتقد الانظمة التي تلقي بمسؤولية تخلف بلدانها على الغرب ورفض أن تكون أميركا غير مبالية تجاه المعاناة خارج حدودها، وهو وعد بأن أميركا لن تقبل أن تكون الديمقراطية والتقدم خاصاً بأميركا من دون العالم. وحرك منذ أيامه الأولى في البيت الابيض معظم ملفات القضايا الساخنة الداخلية والدولية.
لو حكمنا على ما يعرضه أوباما في خطابه لقلنا أنه افتتاح لعصر عالمي جديد، بدور رائد لأميركا في تحقيق السلام والتقدم لكافة الشعوب وخاصة المغلوبة على أمرها، ولكننا بما أننا لدغنا مراراً من الخطابات المتناقضة مع التطبيق، نفضل التريث لنرى ما سيحدث في الواقع، رغم ما يمكن أن يلمس من جدية محتملة في التوجهات الجديدة. وإذا افترضنا جدية الخطة لتغيير أميركا والعالم، فلا يعني ذلك أنها مضمونة النجاح، الذي لن يتوفر إلا باقتناع الشعب الاميركي ومساهمته وبالتوافق مع الأنظمة والشعوب على امتداد العالم..
أميركا القوية بديمقراطيتها وشعبها التي خاضت معركة تخليص أوروبا من براثن الوحش النازي وإعادة بنائها بمشروع مارشال، وانقذت آسيا من الفاشية اليابانية، ولعبت دوراً هاماً في تخليص أوروبا الشرقية من الديكتاتورية السوفييتية بتقديم نموذج ديمقراطي ومزدهر، ربما يكون لها دوراً ما في إنقاذ الشرق الاوسط من الانظمة الاستبدادية والأصولية المتأسلمة المعاديتان للتقدم والحداثة وحقوق الإنسان..
• كاتب من سوريا
خاص – صفحات سورية –