أوباما… أكثر من رئيس
د.نصر حسن
لعل حملة الانتخابات الأمريكية التي استمرت تهز أمريكا والعالم على مدار سنتين ماضيتين وتوجت بخيارالشعب الأمريكي لباراك أوباما رئيساً واستلام سفينة القيادة الأمريكية بأعطابها الوفيرة , لاشك أنها تمثل مفصلاً تاريخياً يفصح عن خيار استراتيجي جديد على المستوى الداخلي كما الخارجي , خيار أمريكي بقدر ماهو عالمي , في سطحه الخارجي تقليداً لممارسة اللعبة الديمقراطية في مجتمع متعدد الأعراق والثقافات والألوان , وفي عمقه الأمريكي يؤشر حالة المزاج الأمريكي الذي أرهقته سنوات الفوضى الخلاقة والحروب الإستباقية العبثية وتعطيل القيم الديمقراطية والقانون الدولي ,وأنتجت عدم الاستقرار وزيادة التوتر الدولي وسلسلة طويلة من الأزمات الاقتصادية والمالية والإنسانية التي طالت العالم كله , إنه خيار الحاجة إلى تجديد المجتمع الأمريكي والقيم الأمريكية من جهة ومن أخرى يظهر رغبة في إعادة ترتيب مخلفات الفوضى الخلاقة , وإعادة تنسيق لقديم ترك إرثاً ثقيلاً على المجتمع الأمريكي والدولي , خيار تجاوز مابدا أنه ثابتاً مستمراً يتوازى مع التاريخ ويعانده , خيار قلب وسيقلب الكثير من الموازين والكثير من التراتبية الإجتماعية والإنسانية التي بدت أنها مستقرة وحيدة تعبث بكل شيء دون ناظم ودون اعتبار لأي قيمة سوى مصالح مجموعة تحتكر كل شيء في حياة الأمريكيين والعالم , إنه بدون شك خيار الضرورة التاريخية الإنسانية الذي يحاول احتواء خوار القوة المتغطرسة ليوقفه عن جنونه وطغيانه وفوضاه وعبثيته , خيار له قسمات الحدث التاريخي التأسيسي لمرحلة جديدة في حياة الأمريكيين والعالم , خيار أمل دولي جديد في واقع حالي يعصره الألم وتطحنه الأزمات.
والحال كذلك إن المرحلة الأمريكية الجديدة بقيادة الرئيس الجديد الشاب الطموح ذو الأصول الأفريقية , تمثل خطوة نوعية انتصرت فيها الديمقراطية ممثلةً بخيار الشعب الأمريكي الواعي بعد سنوات من الإرباك السياسي والاقتصادي والإجتماعي والقيمي والأخلاقي , لتصحيح مسار القوة الجبارة ووضعها في المنحى السليم لخدمة الإنسانية والتاريخ البشري ضمن مفهوم شراكة حقيقية عادلة مسؤولة لانتشال العالم من النكوص الثقافي والحضاري الذي طبع الفترة الماضية , وقد تكون الكلمات التي قالها الرئيس أوباما في حفلة الإنتصار ” إن قوة أمريكا تكمن في قيمها لافي سلاحها وثروتها ” مبشراً بأفق إنساني نوعي جديد ستكون له انعكاساته الإيجابية على العالم وعلاقاته وعلى أزماته المالية والسياسية والأخلاقية وبشكل خاص على الكتلة البشرية التي تضررت من سياسات الماضي .
أمريكا اليوم بظل قيادة رئيس التغيير والاصلاح هي في فرصة تاريخية نادرة لتقويم الاعوجاج في العلاقات الدولية المعاصرة , ففي قراءة عقلانية عملية نرى أن أمريكا تلعب دوراً أساسياً في تحريك عتلات العالم السياسية والاقتصادية والإعلامية والتجارية والثقافية , وهي قوة جبارة لها دور كبير في الحرب والسلم ودورها أساسي في صناعة الاستقرار والسلام والأمن الدولي في غياب التعددية القطبية في العالم ,فمن العبث القفز فوق تلك الحقائق الموجودة على الأرض , لكن كل مايلزم تلك القوة هو تنمية مايوازيها من عقلية إنسانية كافية لضبطها وجعلها في خدمة البشرية وأمنها واستقرارها والحفاظ على سلمية العلاقات الدولية وتوازن مصالحها.
وأمريكا غداً هي مايتطلع إليها الأمريكيون والعالم بعد سلسلة طويلة من المآسي والحروب والأزمات , وعليه تكون عملية تضميد الجراحات الكثيرة في الجسم الأمريكي والإنساني هي المقدمة الأولى للتغيير يتبعها اجتراع مقاربات عملية قانونية إنسانية لحل النزاعات الدولية وفي مقدمتها تضميد الجرح الإنساني النازف في فلسطين منذ عشرات السنين والعمل الجاد على إعادة قيم القانون والعدل والشراكة الإنسانية وحق تقرير المصير وردم الهوة والانقسام بين شرق فقير وغرب غني , وهذا يحتاج أولاً وأخيراً إلى تصحيح مخلفات العهد الماضي بسرعة والتخلص من مغامراته المكلفة للإنسانية التي أوشكت على كسر التاريخ الإنساني ووقف تطوره وحرفه وإرجاعه إلى زمن العبودية والاحتلال والتحكم وفرض صورة الأمر الواقع التي تحدده معايير القوة الطاغية بدل مفاهيم العدل والحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية واحترام حرية الشعوب وخياراتهم في تقرير مصيرهم , باختصار على الرئيس الجديد مهمة كبيرة مكثفة في إعادة صناعة اسم أمريكا في الخارج على وجه التحديد وإعادة الهيبة إلى القانون الدولي من جديد.
بقي أن نمر بسرعة على رؤية العرب إلى هذا الحدث الكبير في الحياة الأمريكية , وكيف ينظرون إليه , وماذا هم فاعلون للدخول على خط الحدث واستغلاله لصالح الحقوق والسلم والاستقرار والحرية والتنمية العامة على مستوى العالم العربي ؟ المؤسف أن نفس المواقف السطحية المجرورة بتراكمات قاصرة تتكرر مع كل انتخابات أمريكية , تطغى عليها حسابات المراهنة والاستجداء والانتظار وغياب مقدمات التعامل العقلاني المبادر الفاعل والمتفاعل مع الأحداث , مواقف تتأرجح بين التمنيات المتضاربة المتناوبة والأسيرة في ثنائية التشاؤم أوالتفاؤل , والتي لازالت تبقى على تخوم الحدث في مجملها.
تتكرر حملات الانتخابات ويذهب رئيس أمريكي ويأتي آخر والعالم العربي تزداد أزماته مساحة ًوعمقاً , حيث لازال تحكمه ديكتاتوريات ونظم حكم فردية جمهورلكية فاقدة الشرعية الدستورية والشعبية والصلاحية أيضاً , أنظمة هجينة تستمد ديمومتها من القمع والإقصاء والفساد والتشريد وتغييب الرأي ومحاربة التنمية الديمقراطية والفشل الذريع في كل برامجها التنموية الوطنية والقومية ,أنظمة في مقدمتها النظام السوري وأشباهه , مابرحت تعطل دعوات التطوير والإصلاح ومواكبة العصر مصرةً على الإستمرار في إنتاج معدلات قياسية من انتهاك الحريات وحقوق الإنسان ومستوى مخيف من الفساد والفقر والذل والتخلف عن العالم , معتاشة على تدوير أزمات شعوبها والمتاجرة بكرامتهم ودمائهم وإنسانيتهم مع أمريكا والعالم في إصرار غريب عجيب على خطاب متخلف مخادع برنامجه الوحيد هو القمع والنهب والمساومة بحقوق شعوبها في سبيل الحفاظ على ديمومة الفساد والعجز والفشل التي هي فيها , فماذا يخبئ المستقبل في زمنه الأمريكي للعالم العربي ؟!.
وحدهم العرب معنيون بالحضور الموحد لمواجهة واقعهم بعد غياب شارف الغيبوبة …وتشرذم طاول الفناء…ومهانة فاقت كل وصف …وحدهم معنيون بمواجهة واقعهم بجرأة وصراحة ومنهجية جديدة تكون عوناً لهم كما للغير على حلحلة استعصاءات واقعهم وتحسين حياة شعوبهم والحفاظ على حقوقهم وأمنهم ومستقبلهم .
خاص – صفحات سورية –