أميركا الإسرائيلية وفرنسا الأطلسية
حسين العودات
وقّعت وزيرتا خارجية الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل في منتصف يناير اتفاقاً حول منع «تهريب» الأسلحة إلى غزة، ومر الاتفاق ـ رغم خطورته ـ وفي حمأة العدوان الهمجي الإسرائيلي، دون أن يلقى الاهتمام الكبير الذي يستحقه من الصحافة ووسائل الإعلام ومن السياسيين العرب، وكان تسرع الطرفين في الوصول إلى الاتفاق وتوقيعه واضحاً وملفتاً قبل أربعة أيام من انتهاء ولاية الرئيس بوش، وكأنهما أرادا اقتناص الفرصة في اللحظات الأخيرة.
وأعتقد أن إدارة الرئيس بوش قدمت هبتها الأخيرة لإسرائيل قبل رحيلها وكأنها كانت تريد وضع إدارة أوباما أمام الأمر الواقع، في الوقت الذي اغتنمت فيه إسرائيل الفرصة لتوحي بأن الاتفاق واحد من الانتصارات التي حققها عدوانها المشكوك فيه داخلياً وخارجياً، ولتخفيف وقع جرائمها أو على الأقل لتبرر هذه الجرائم من خلال الاعتراف الأميركي بالأخطار التي تتهددها.
يطنب الاتفاق في تأكيد الموقف الثابت لالتزام الولايات المتحدة الأميركية بأمن إسرائيل، ويتضمن «حدوداً آمنة وقابلة للدفاع عنها، وتقوية قوة الردع الإسرائيلية والحفاظ عليها»، وينوه بأن هذا الالتزام «ينسحب على الأمن والتعاون العسكري والاستخباراتي بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وعلى الحوار الاستراتيجي بينهما»، ثم يدين «تهريب» الأسلحة ويظهر «المخاطر» على إسرائيل من «المنظمات الإرهابية»… إلى آخر المعزوفة.
ولكن الأخطر في هذا الاتفاق هو التزام الولايات المتحدة بأن تعمل مع شركائها في حلف شمال الأطلسي لمعالجة «مشكلة تزويد الأسلحة وتنقلاتها إلى المنظمات الإرهابية»، شاملاً النقل في البحر المتوسط وفي خليج عدن والبحر الأحمر وفي شرقي افريقيا، من خلال «انخراط حلف شمال الأطلسي والجهات التابعة للحكومة الأميركية مثل القيادة المركزية للجيش الأميركي، والقيادة الأميركية في أوروبا، والقيادة الأميركية في أفريقيا، وقيادة العمليات الخاصة الأميركية»، أي أن الحكومة الأميركية تضع جميع إمكانياتها العسكرية والاستخباراتية في خدمة إسرائيل، هذا فضلاً عن توريط قوات حلف شمال الأطلسي في لعبتها.
لقد بدأ تنفيذ الاتفاق فوراً وكأن الطرفين في حالة حرب قصوى، فبدأت القيادات العسكرية الأميركية التي أشار إليها الاتفاق استعداداتها لتنفيذه، وتوجهت «فرقاطة» فرنسية لترسو في مواجهة شواطئ غزة لمراقبة احتمالات تهريب السلاح ومنعه (ولا نعرف كيف، وهل يصل ذلك إلى القصف!)، ولم يترك تحرك القوات الفرنسية أي التباس قي أنها تنفذ الجزء من الاتفاق المتعلق بحلف شمال الأطلسي، الذي غابت عنه فرنسا عسكرياً عدة عقود منذ أيام الرئيس الراحل شارل ديغول، وعادت إليه مؤخراً وبحماس ملحوظ جاوز امتثال الشركاء الأطلسيين التقليديين للأوامر الأميركية! ويبدو أن السياسة الفرنسية تعمل لتدارك ما فات وتعويض «عدم مساهمتها العسكرية» في نشاطات الحلف سابقاً، بدليل مشاركتها العسكرية الفعالة في أفغانستان ومساهمتها هذه في مراقبة شواطئ غزة.
إن الموقف الأميركي والالتزام الأميركي ليسا مفاجئين لأحد، فهذه سياسة الحكومات الأميركية المتتابعة والتي لم تحد عنها منذ البيان الثلاثي عام 1951 حتى الآن، وما من جديد فيها، فكل مواقف السياسة الأميركية من إسرائيل تؤكد أن الولايات المتحدة تدعم إسرائيل وكأنها الولاية الأميركية الواحدة والخمسون، سواء كانت الإدارة الأميركية جمهورية أم ديمقراطية، وقد شهدنا ذلك في عدوان 1967 أيام إدارة جونسون الديمقراطي، وحرب أكتوبر 1973 أيام إدارة نيكسون الجمهوري، والعدوان الإسرائيلي على لبنان واحتلال بيروت عام 1982 أيام إدارة ريغان الجمهوري، والعدوان على العراق عام 1998 من قبل إدارة كلينتون الديمقراطي، وغزوه واحتلاله عام 2003 بأوامر إدارة بوش الابن الجمهوري.. وهكذا.
إذن إن الدعم الأميركي المطلق (والأعمى) لإسرائيل ليس جديداً ولم يتغير بتغير الحكومات والرؤساء والأهواء، ولكن الأمر الجديد هو هذا التنسيق العسكري بين الولايات المتحدة وفرنسا باسم «حلف شمال الأطلسي» والاستجابة الفرنسية العاجلة لأي طلب عسكري أميركي، بما لا يأخذ مصالح فرنسا واستقلالها وعلاقاتها التاريخية مع المنطقة بعين الاعتبار، ولا يأخذ أيضاً المصالح الأوروبية.
وقد عبر العديد من القادة الأوروبيين عن امتعاضهم من المواقف الفرنسية هذه، خاصة وأنها ترافقت مع نهوض أوروبا وسيرها في طريق الاستقلال وإمكانية وصولها يوماً لكي تكون قطباً رئيسياً في عالم متعدد الأقطاب، بعد أن بدأ القطب الأميركي يواجه صعوبات وربما بدأ ينحدر شيئاً فشيئاً، تمهيداً لعالم لا يكون فيه هو القطب الأوحد. لا أظن أن الأجوبة على هذه التساؤلات تشي بإيجابيتها تجاه السياسة الفرنسية الجديدة، وفي الوقت نفسه ماذا سيحل بالعلاقات الفرنسية مع دول العالم، وخاصة دول المتوسط إن تورطت السياسة الفرنسية بتبني السياسة الأميركية دون تبصر، مما يضطرها لحمل أوزارها وأمركة سياستها وإضعاف دورها وثقافتها وعلاقاتها المتوسطية، وهي مأثرتها ومجالها الحيوي.