حرب وقمتان… وتتويج
موفق نيربية
الاسم الأكثر جدارةً بحرب غزة هو المجزرة، فكأن إسرائيل قد خاضت حرباً ضد المدنيين وأمنهم، على طريقة الصياد الأعمى، ولعلّها كانت تستبق بداية عهد باراك أوباما، حتى لا تتحمل اللوم لأنها استقبلته بحرب فور تنصيبه، وهي لا تستطيع الانتظار، وانتخاباتها على الأبواب. فلا بدّ أن نجاح أوباما وإقلاع ولايته، الحدث الأبرز حالياً في العالم، في كلّ إقليم منه، وإقليمنا (الشرق الأوسط) هو الأكثر أهمية وتوتراً وتأثيراً في السياسة الدولية، وها هو استبق قدوم العشرين من يناير «كانون الثاني» بحرب وقمتين، قامت الحرب من الناحية السياسية بين «حماس» وإسرائيل، ومن الناحية العملية من إسرائيل على الشعب الفلسطيني، وعلى قضيّته خصوصاً. في حين اندفع النظام العربي في ردّه خبط عشواء، فعقد قمة مقصورة في الدوحة سادتها أجواء «الممانعة»، وقمة أخرى في الكويت كانت مقررة أساساً للشؤون الاقتصادية العربية في زمن الأزمة المالية العالمية… فما نالَ «لا عنب الشام ولا بلح اليمن».
أرادت الأطراف الأكثر «حماسة» أن تستدعي سياساتها السابقة السائدة قبل الحادي عشر من سبتمبر، المعتمدة على الاندفاع إلى الأمام بقوة وجلبة، حتى يضطر الذين «يَحسِبونها» أن يمسكوا بهم ويرجوهم الهوينى، أو لعلهم يسترضونهم في النهاية. وباعتبار أن الأخبار الواردة من دائرة أوباما تتحدث عن لغة الحوار والمصالحة ونبذ العنف، فهنالك ما يستدعي استحضار بعض أشباح الحرب الباردة المتقاعدين، بطرائقهم وتكتيكاتهم ووسائلهم العتيقة.
ربما كان في الأمر سوء تفاهم، فالبعض يقول إن سياسة أوباما الخارجية في النهاية والمضمون لن تكون أكثر ليناً من سياسة سلفه، بل لعلّها أشد في الحقيقة، وأدهى، فإدارته سوف تُضطرّ لاستعمال كلّ ما في يديها، (والحالة حالة طوارئ دولية، لا تنفع معها تلك المحلية) ولن تألو جهداً من أجل تحقيق مصالحها، بطريقة مختلفة وحسب.
من المفيد أن ندرس الحالة الأميركية بحذر، ولا نستعجل الاستنتاجات. كذلك مراقبة السياسة الأميركية أولاً بأول، ومقاربة ظاهرة باراك أوباما، الحدث التاريخي الأكثر أهمية في العقود الأخيرة.
فهذا الليبرالي اليساري الأسود- ابن الشعب البار!- يبدأ عهده بخطوات بونابرتية لا تخفى على عين المتأمّل، وهو خارج من الظلال بأبهة ومجد إلى حيث أقسم اليمين الدستورية… «إنه تتويج، أكثر من أن يكون تنصيباً وقسماً» كما قال أحد المدعوين إلى الحفل الهائل الحجم.
لكنها الولايات المتحدة الأميركية، اقتصادها ثلث العالم، وميزانية قواتها المسلحة أكبر من ميزانيات الدول العشر التي تليها في القوة، هي ليست إحدى دول العالم الثالث، بظواهرها البونابرتية الكاريكاتيرية الكارتونية. هنالك شخص أسود للمرة الأولى، يحمل مشروع تغيير مختلف عن غيره، سوف تتأثّر السياسات الدولية به سلباً أم إيجاباً، ونحن لانزال غياباً!
للوهلة الأولى يبدو أن لظاهرة أوباما وجوهاً ثلاثة: الشعبوية والبراغماتية والمبدئية. ويمكن ترتيبها بطرق مختلفة، ربما بعد فترة من تجربته في مكتبه الجديد، ويمكن الحكم الآن فقط من مسار حياته وسياسته وحملته الانتخابية.
شعبويته تعتمد على التسويات والحرص على رضا الأطراف المختلفة، ليست كشعبوياتنا المسكونة بروح الحرب وإغضاب الآخرين تمهيداً لابتزازهم. لم يفعل أوباما ذلك في اختياره لكلينتون وغيرها من حكومته وحسب، ولا في دعوته قساً يمينياً من كنيسة مختلفة ليصلي في يوم تنصيبه أيضاً، بل منذ نجح في انتخابه رئيساً لتحرير مجلة هارفارد للقانون، في ظاهرة جديدة لم تألفها هارفارد قبله. بل إن بعض أصدقائه يذكرون دخوله إلى وسط المعركة الوشيكة بين لاعبي فريقين لكرة السلة في جامعته، وحلّه للخلاف بجرأة ومرونة. باختصار، سيبقى أوباما حريصاً على استرضاء الأغلبية بكلّ الوسائل، ولن يبقى خارجها إلاّ المنبوذون.
البراغماتية كانت دائماً نهجاً له، يكتسب بواسطته احترام ولين الآخرين ومن خصومه أساساً، فهو رجل قانون قادر على الحوار المستند إلى ركائز، يمكن التنازل فيما يخصّ غيرها.
أما المبدئية فهي ما قد يختلط بالإيديولوجيا، لكنه قائم على ما يمثله حتى الآن من قيم، فلقد وضعه البعض ثالث اثنين مع لينكولن ومارتن لوثر كنغ، وابتدأ ولايته بإلغاء سجن غوانتانامو كما وعد، وبمراجعة الاتفاقيات الدولية التي طالما امتنعت أميركا عن توقيعها.
إذا كان هذا صحيحاً، فلابدّ أن يدرس العرب- الضعفاء الآن- سياساتهم اللاحقة بشكل أفضل، ولا بدّ لأطرافهم الأكثر ضعفاً أن يكونوا حتى أكثر حذراً، فالآتي هو أكثر الرؤساء الأميركيين قوةً منذ زمن بعيد، ويُقال إن شهر عسل ولايته سيمتد لستة أشهر، الأمر الذي يتفوق فيه على سابقيه باثنتي عشرة مرة… وسوف يكون حصيناً في بلاده، وأكثر حرية خارجها، لفترة طويلة!
* كاتب سوري