محاصرة المحاصَرين وقتل القتلى!
عيسى مخلوف
هل تنتهي الحروب فعلاً عندما تنتهي؟ وإلى أين يذهب كلّ هذا الدم المراق؟ مات الذين ماتوا، لكن ماذا حلّ بالذين اجتثّت أطرافهم وأحلامهم، وأولئك الذين رموهم بتلك القنابل التي تركت سمومها في الأجساد لتموت ببطء؟
الذين قتلوا وجُرحوا لم تقتلهم وتجرحهم إسرائيل وحدها. ساند إسرائيل الانقسامُ الفلسطيني وتخاذل السلطات العربية وانقساماتها وعجز الأمم المتحدة وصمت الدول التي تنادي بالديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان. منذ أكثر من ستين عاماً، يُحاصَر المحاصَرون، ويشرَّد المشرَّدون، ويُقتَل القتلى! للقضاء على عنصر واحد من حركة »حماس«، لا تتورّع إسرائيل عن قتل عشرات المدنيين الفلسطينيين وعن تدمير أحياء بكاملها.
لا تعرف الدولة العبرية كيف تتخلّص من هذا الشعب المتمسك بإصرار بجذور أرضه. على مرأى من العالم كلّه، يجمع قادة إسرائيل شعباً كاملاً داخل سجن كبير. يسوّرون إقامته بالجدران العالية. يحرمونه من الماء والكهرباء. يدفعونه نحو البطالة والعطش والجوع. يذلونه عند المعابر. يفعلون كل ما يحيل حياته يأساً عظيماً. ثم ينقضون عليه بأحدث الطائرات والدبابات ويقصفونه بحراً وبراً وجواً، بصورة هستيرية مروّعة.
نعرف أنّ إسرائيل لا تولي اهتماماً بحياة الفلسطينيين، لكن ألا تفكّر لحظة واحدة في مستقبل مواطنيها في العقود الآتية؟ ألا تخشى عليهم من ردود الأفعال ومن الغضب الكبير الآتي؟ الدولة التي لا تتردد في قتل الأطفال بالمئات ألا تخشى من ارتدادات القتل على أبنائها؟ من جهة ثانية، هل بإمكان الدول التي أمعنت بالأمس في قتل اليهود وإبادتهم، هل بإمكانها أن تغطّي إلى ما لا نهاية جريمة بجريمة أخرى؟ ألا تفكّر تلك الدول بمصير إسرائيل نفسها إذا ما تغيّر يوماً مسار التاريخ وتغيّرت معه موازين القوى؟ وحتى لو لم يتغيّر شيء، ألا تنتبه إلى ما يمكن أن يسفر عنه الاستمرار في إذلال الآخر ورفض حقه في الوجود؟
أسلحة محرّمة دولياً!
استخدمت إسرائيل، في حربها ضدّ غزة، »أسلحة محرّمة دولياً«! لماذا، إذاً، تمّ تصنيع مثل هذه الأسلحة؟ ما الهدف من صناعتها؟ ولماذا يتم إرسالها إلى دولة تقتات خبزها اليومي من الحروب؟
أسلحة محرّمة دولياً ويجري استعمالها ضدّ أحياء سكنية هي من بين الأكثر اكتظاظاً في العالم! وحين يجتمع تجّار الجثث والموت، ممثّلو الدول الحضارية المتمدّنة، لا تعود المشكلة الأساسية تتمثّل في الاحتلال، بل في وضع حدّ لتهريب الأسلحة إلى »حماس«!
الإعلام والحرب
لم تسمح إسرائيل بدخول الإعلام الغربي غزة لحظة القيام بعمليتها العسكرية. بعض العمليات العسكرية ينبغي أن يبقى سراً، على الأقلّ لحظة الإعداد له والقيام به. الذي يرشق بحممه من بعيد لا يسعه أن يرى الموت ويسمع أنين الجرحى، حتى على الشاشة الصغيرة.
المهمّ أن يغيب الشهود لحظة ارتكاب المجازر ويبقى الضحايا وحيدين وغرباء حتى عن موتهم. لكن، وللأسف، حتى لو سمحت الدولة العبرية بدخول الصحافيين فإنّ بعض وسائل الإعلام في الغرب ما كانت لتغيّر في نهجها المعهود، وفي ترداد قولها إن حرب إسرائيل ليست إلا حرباً دفاعية، وإنّ الحرب ما كانت بهذه الضراوة لولا صواريخ القسام!
ماذا كان يمكن أن تفعل الدولة العبرية إذاً لو كان لحماس جيش مثل جيشها، مزود بطائرات ودبابات وناقلات جنود؟ وهي كذلك، للأسف، في ذهن بعض الإعلاميين الغربيين. صحيفة »لوموند« الفرنسية الرصينة تختار عناوينها العريضة بعناية فائقة ومنها: »في أنقاض غزة، بعد الحرب بين إسرائيل وحماس«. ونقرأ في صفحتها المخصصة للسجال المفتوح العنوان التالي: »وراء الوقوف إلى جانب الضحايا والمطالبة بالعدالة، ألا تخفي ردود الفعل بالنسبة إلى إسرائيل الحقد القديم في معاداة السامية؟«…
بعض الوسائل الإعلامية عمدت إلى نشر تحقيقات مصوّرة عن المحرقة اليهودية بينما كان يرتفع عدد القتلى الفلسطينيين. وبعض قنوات التلفزة الفرنسية أحرجتها تغطية الموضوع، وكانت، لفرط »موضوعيتها«، تضع صواريخ حماس وصواريخ إسرائيل في منزلة واحدة، وتتحدث عن معاناة الطرفين معاً. وكان يبدو أحياناً، من طريقة الصياغة »المتقنَة«، أنّ الأعداد الكبيرة للموتى والجرحى تتوزّع بصورة عادلة بين المتنازعين. أحياناً أخرى، كانت تبدأ نشراتها الإخبارية بخبر عن قصف المستوطنات حتى يتسنى لها الحديث لاحقاً عن قصف غزة، وحتى تتبدى للمشاهدين العلاقة العضوية بين هذه وتلك، ولإظهار أنّ إسرائيل إنما تدافع عن نفسها لأنها مهددة، أي أنها مضطرة اضطراراً إلى القيام بالمجزرة، وهذا ما يعبّر عنه باستمرار بعض القادة وكذلك بعض المثقّفين الإسرائيليين وفي مقدمتهم ضمير المأساة اليهودية إيلي فايزل الذي كان بكى وهو يدافع عن ضرورة الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام .١٩٨٢
قناة الجزيرة
أما قناة الجزيرة فجاءت، في غياب الإعلام الغربي، لتسد ثغرة كبيرة ولتقول للجميع انظروا إلى ما يحدث هناك، في تلك البقعة المنكوبة. لكن مشكلة الجزيرة في تصويرها للمجازر تتمثل في الطريقة التي كانت فيها الكاميرا تتوقف عند الجروح وتحاول أحياناً الاقتراب منها بل حتى الالتصاق بها. شيء أشبه بالتلصص الذي يستحيل معه الجرح النازف مادة للاستعراض. كانت الصورة هنا، لاقترابها إلى هذا الحد من الجرح، كأنها تريد الذهاب أبعد في أعماقه والكشف عن المستور منه، حتى ليتساءل المشاهد: هل هناك جرح آخر، باطن، يختبئ وراء الجرح الظاهر؟ إلى أين تمضي العين مع كاميرا »الجزيرة«؟ إلى أي غور؟ إلى أي جحيم؟
موقف المثقفين
رد فعل المثقفين الغربيين، باستثناء بعض التحركات والتظاهرات والبيانات، لم يكن على المستوى المطلوب، خصوصاً في فرنسا. الصمت مريع لولا بعض الأصوات التي تجرأت وأدانت العدوان الإسرائيلي، وثمة أصوات أخرى طالبت بالتدخل الإنساني العاجل على الأقل، ومنها المفكر ريجيس دوبريه والممثلة كارول بوكيه. أما الأصوات التي حضرت في وسائل الإعلام الفرنسية فهي الأصوات نفسها دائماً ومنها بالأخص أصوات من سُمّوا بالفلاسفة الجدد ومنهم أندريه غلوكسمان وبرنار هنري ليفي الذي سبق له، في افتتاحيته في مجلة »لوبوان« الفرنسية، أن اتهم الفلسطينيين بمقتل محمد الدرة مستنداً في كلامه إلى مصادر الجيش الإسرائيلي.
الفيلسوف الآخر، ألن فنكلكروت، الذي لم نسمع صوته كثيراً في الآونة الأخيرة، تقتصر مهمته على انتقاد كلّ من ينتقد إسرائيل، حتى لو كان المنتقدون إسرائيليين. ألم ينتقد الرئيس السابق للكنيست الإسرائيلي أبراهام بورغ معتبراً أنه »يتحدث عن إسرائيل كأحد أعدائها الأوروبيين«، وذلك لأن بورغ وصف سياسة إسرائيل بالسياسة الاستعمارية وبأنها لا تحترم القوانين.
اللافت أن بعض الكتّاب والمثقفين الغربيين والعرب كانوا يزايدون على أصوات بعض السياسيين والمثقفين الإسرائيليين أنفسهم في الدفاع عن حرب إسرائيل واعتبارها مجرد حرب ضد حماس. لكن، فيما وقف الإسرائيليون، في غالبيّتهم، إلى جانب الجيش الإسرائيلي في حربه ضدّ غزّة، طالعتنا أصوات أخرى قليلة، من داخل إسرائيل، تدعو إلى إيقاف العدوان. من هذه الأصوات المؤرخ الإسرائيلي توم سيجيف الذي اعتبر أنّ الهجوم ضد غزة لا يستدعي فقط الإدانة الأخلاقية، بل يتطلّب إعادة نظر شاملة في بعض المسائل التاريخية المهمّة. ولاحظ أن المنطلقات التي تدفع إسرائيل دائماً إلى شنّ مثل هذه الحروب إنما تنطلق من معطيات خاطئة. يقول سيجيف: »إسرائيل تقصف الفلسطينيين لتلقّنهم أمثولة. نظرية الأمثولة هذه رافقت المشروع الصهيوني منذ البداية، حين اعتقدنا أننا نحن من يمثّل التقدم وعصر الأنوار، العَقلانية المميّزة والأخلاق، بينما العرب ليسوا سوى شعب بدائي عنيف ويحتاج إلى تربية«. ويضيف المؤرّخ الإسرائيلي: »يقولون إنّ هدف الهجوم الأخير هو تصفية نظام حماس وإنّ معاناة المدنيين الفلسطينيين ستؤدي، بالضرورة، إلى وقوف هؤلاء ضد زعمائهم. غير أنّ هذه الفكرة كانت خاطئة… كل حروب إسرائيل انطلقت من فرضية مفادها أننا لا نقدم على الحرب إلا لحماية أنفسنا، كأن قطاع غزة ليس محاصَراً ذاك الحصار الذي دمّر حياة جيل كامل من الفلسطينيين«.
صوت آخر يأتينا من الضفّة الأخرى هو صوت الكاتب الإسرائيلي يوري أفنيري الذي تدفعنا كلمته الموضوعية والجريئة التي نشرت أثناء الحرب إلى التوقف عند أبرز محطاتها. اعتبر أفنيري أنّ »إسرائيل، في حربها ضد غزة، أفادت من حربها ضد لبنان صيف ،٢٠٠٦ أي أنها قررت أن تخوض حرباً بدون ضحايا وبدون المغامرة بحياة جندي واحد من جنودها. وهذا يقضي باتباع منهج يقوم على استعمال القوة القصوى لجيشنا من أجل سحق كل شيء وقتل كل حركة. هذا التوجه لا يستهدف فقط مقاتلي الطرف الآخر، بل أيضاً كل إنسان يمكن أن يكون، بصورة افتراضية، حامل نوايا عدائية، حتى لو كان هذا الإنسان سائق سيارة إسعاف أو طبيباً ينقذ حيوات الجرحى أو شخصاً يحمل مساعدات غذائية. الهدف هو تدمير كلّ مبنى يُظنّ أنه قد يستعمل لاستهداف جنودنا حتى لو كان مدرسة تغصّ باللاجئين، بالمرضى أو الجرحى. الهدف هو أن تقصف وتلقي القنابل فوق الأحياء السكنية، فوق المباني والمساجد والمدارس وقوافل المساعدات الإنسانية، وحتى فوق الأنقاض التي دفن تحتها الجرحى«.
في رصده للإعلام الإسرائيلي قال يوري أفنيري إنّ »هذا الإعلام خصص ساعات طويلة للحديث عن صاروخ قسام سقط على منزل في عسقلان تعرض فيه ثلاثة مواطنين لصدمة نفسية، بينما تناول بصورة عرَضيّة الأربعين امرأة وطفلاً الذين ماتوا في مدرسة تابعة للأمم المتحدة والتي »تمّ استهدافنا منها« وهو زعم تأكد أنه كذب صارخ«. وأبدى أفنيري استغرابه من »فقدان الشعور عند الإسرائيليين الذين ما عادوا يصدمون لرؤية طفل شوهته القذائف أو لأطفال تركوا لأيام قرب جثة والدتهم لأن الجيش منعهم من مغادرة منزلهم المدمّر. يبدو أن أحداً ما عاد يهتم. لا الجنود ولا الناس ولا رجال الإعلام والسياسة ولا القادة. إنها حالة اغتراب أخلاقي يشكّل إيهود باراك الممثل الأول والأساسي لها، حتى ولو كان بالإمكان أن تتفوّق عليه تسيبي ليفني التي كانت تبتسم وهي تتحدث عن الأحداث المروّعة«.
يضيف أفنيري: »كان يمكن أن نتفادى صواريخ القسام بدون اللجوء إلى حرب مدمرة لو أن حكومتنا أبدت استعدادها للحوار مع حماس بعد انتصارها في الانتخابات الفلسطينية. والأنفاق ما كانت حفرت تحت الحدود المصرية لو لم تفرض حكومتنا حصاراً قاتلاً على قطاع غزة. إن النتائج السلبية لهذه الحرب لم تظهر بعد ولن يمكن تحسسها إلا في السنوات الآتية. سيظهر في السنوات الآتية أيضاً كيف أن هذه الحرب لم تكن سوى ضرب من الجنون«.
وختم الكاتب الإسرائيلي بالقول: »لقد طبعت إسرائيل في ضمائر العالم صورة مرعبة عن نفسها. مليارات البشر رأوا كيف أننا تصرفنا كوحش يسبح في الدماء. ولن يرى هؤلاء إسرائيل، لن يروها أبداً كدولة تبحث عن العدل والتقدم والسلام«.
ما الذي تمكن إضافته، الآن، إلى ما قاله يوري أفنيري والذي لا يتجرأ على نشره الكثير من وسائل إعلام الدول المتقدمة؟
تأخر الرد
تأخر الرد العربي. تأخر الرد الغربي. طال أمد المجزرة. غزة لطخة سوداء جديدة تضاف إلى تاريخ الإنسانية. ردود الفعل الخجولة، المتباطئة، المترددة، المتخاذلة، للإسراع في العمل على إنقاذ شعب يموت، ردود الفعل هذه لا تطمئن ليس فقط بالنسبة إلى مستقبل الصراع العربي ـ الإسرائيلي، بل أيضاً بالنسبة إلى مستقبل البشرية جمعاء.
باسم الحرب على الإرهاب أصبح الإرهاب حالة قائمة في أرجاء العالم، وأصبح عبور المطارات والتنقل من مكان إلى آخر، حتى ولو كان في الجزر النائية، مسألة محفوفة بالمخاطر، لأن الدول التي تحارب الإرهاب، وفي طليعتها الولايات المتحدة الأميركية، ظنّت أن الاستعمال المفرط للقوة هو الذي يحسم الموقف لا السياسة القائمة على الحق والعدل!
قال الكاتب الأميركي بول أوستير، إثر صدور رواية له بعنوان »وحيداً في الظلام«: »إنّ انتخاب باراك أوباما هو أفضل ما تمكّن الأميركيون من القيام به في السنوات الأخيرة، لكني أخشى أن يكون الوقت قد تأخّر لكي نواجه حالة الفوضى الشاملة«.
حالة الفوضى الشاملة التي يجد فيها العالم نفسه اليوم تحتاج مواجهتها إلى فطنة وحكمة وتعقّل لا إلى مزيد من الهمجية والحروب والمجازر. وتحتاج إلى سياسيين يقرّبون بين الثقافات والجنسيات والشعوب، وبين التوجهات والألوان مهما اختلفت وتباينت، ومن أمثال هؤلاء مارتن لوثر كينغ الذي قال مرة: »ينبغي أن نتعلّم كيف نعيش معاً كإخوة حتى لا نموت معاً كالمجانين«.
السفير الثقافي