قضية فلسطين

غزّة: والآن؟ المنعطف والمهمّات

نهلة الشهال
«لا نريد تعويضات ولا أموالاً، نريد العدالة، نريد محاكمة المسؤولين عن الجريمة». هذا ما يقوله كل الفلسطينيين في غزة. يقولونه للصحافيين الأجانب الذين يدخلون هناك بعد ثلاثة أسابيع من المنع أثناء «العمليات»، ويقولونه لكل من يأتي إليهم، كهذه البعثة المدنية الفرنسية التي دخلت قطاع غزة مع لحظة وقف إطلاق النار، وتمكّن أعضاؤها من التجوال فيه طولاً وعرضاً، مصحوبين بالصدمة الهائلة بما رأوا. يريد الفلسطينيون، الذين لم تركعهم قنابل الفوسفور وأسلحة الـ«دايم» التجريبية، تعريف هذا الذي عاشوه، وصفه ونعته، كما يريدون الحصول على اعتراف قانوني بواقعهم: ليس بأنه «الصراع» الفلسطيني ـــ الإسرائيلي، ليس بأنه «الأحداث» في غزة، ليس بأنه «الهجوم على حماس»، بل وقوع جرائم حرب وجريمة ضد الإنسانية. وقوعها «لايف» أمام أنظار العالم، بفضل تقنيات النقل المباشر. هنا يرتدي الكلام كل أهميته، وتصبح انتفاضة الضمير مسألة حيوية… للإنسانية، قبل أن تكون للفلسطينيين. فبدونها، يثبت أن لا «مجتمع إنسانياً» ولا قيم ضابطة، ولا تقدم. يثبت أن توازن القوى العاري، التطاحن الفج، هو ما يسيّر الكون. الفلسطينيون اليوم، ومعهم أحرار العالم، هم في الصف الأمامي من المعركة ضد سيادة شريعة الغاب، قوية الحضور ومحدّثة على الدوام تحت مسمّيات شتى، آخرها كان «صدام الحضارات» و«الحرب ـــ الدائمة ـــ والشاملة على الإرهاب». الكلام الواضح الصافي القوي يفرض نفسه اليوم كأولى المهمات، مسجلاً بهذا التطلب طبيعة اللحظة: إنها منعطف. وككل المنعطفات، فهي لا تحتمل الحياد، ولا الالتباس.
أما تحويل مجرمي الحرب من المسؤولين الإسرائيليين إلى محكمة جزاء، فيصطدم بعدة صعوبات، منها التحفظ التقليدي للدول الغربية حيال أي درجة من الإدانة الواضحة لإسرائيل، والحماية من المساءلة التي نعمت بها هذه الأخيرة على الدوام. ومنها مسألة ثانية مهمة، هي النظام نفسه الضابط لقيام محاكم الجزاء والأشكال القانونية الأخرى من المساءلة الدولية، الذي يجعلها رهينة الإرادة السياسية للسلطات المهيمنة. ويعكف قانونيون موثوق بهم على تقليب الأمر من مختلف أوجهه لتجاوز هذا الانحياز، ولتخطي البناء القانوني المحكم الذي يصاحبه. والهبّة القائمة في العالم اليوم، التي تعكسها مئات المبادرات المنطلقة في هذا الاتجاه بسبب ما جرى في غزة، هي علامة أخرى على طبيعة اللحظة: إنها منعطف.
ما يطلبه فلسطينيو غزة ينتقل بهم من «ضحايا» إلى مقاومين. كل الجهات، مهما أوغلت في التآمر مع إسرائيل، كلها مستعدة للاعتراف بالضحية الطيبة، ليبدأ سجال بشأن تقاسم المسؤولية عن وقوعها. أما التفجع على الثمن الباهظ المدفوع، واستغلاله للادعاء بأن خيار عدم الاستسلام غير معقول، فهو تزوير لإرادة من دفعوا ذلك الثمن، ومصادرة لكلامهم. هو قتلهم مرتين.
هل غزة خارج سياق ما يحدث في فلسطين منذ ستين عاماً بلا انقطاع؟ بالطبع لا، ولكن ربما ما جرى فيها تكثيف له، ربما كان نقطة التحوّل تلك، الشهيرة، من الكم إلى الكيف على ما يرصد العلماء في أحوال كل الأجسام، وما يدخل في الفلسفة الاجتماعية. لم يكفّ الفلسطينيون يوماً عن رواية مأساتهم، عن سرد تفاصيلها منذ بداياتها، عن إلالحاح على وقائعها وأحداثها. وهم بذلك يشهدون تكراراً ويحتاجون إلى إصغاء الآخرين، ليشهِّدوهم. يجمع على الملاحظة كل من مر بفلسطين، في أي جهة منها، من الصحافيين إلى الباحثين إلى المواطنين من أعضاء البعثات المدنية. واليوم، ينتقل الفلسطينيون إلى الخلاصة: تطلّب الموقف، وتطلّب تسجيل نتيجة. ليس من المبالغة القول إن في هذا الانتقال ما هو أخطر من الإقرار العام بالعملية السلمية، الذي عنى أكثر ما عنى توصل الوعي الفلسطيني إلى إدراك تعقيد القضية الفلسطينية وتداخلها مع معطيات خارجة عنها، وارتضاء الفلسطينيين ألا يتطابق حقهم البديهي، الجلي والبسيط، بوصفهم معتدى عليهم بالكامل ومستلَبي أرض، مع الحلول المقدمة إليهم، التي تتأسس على تسويات مع المعتدي، سوى أن المعتدي ومن معه، وبغطرسة وغرور يليقان بأصحاب منطق القوة العارية، فوتوا الفرصة… على أنفسهم، وعادت المسألة الفلسطينية مطروحة للصراع وللتفاوض المشرع على نتائج بقاء الضحية حياً، ليس جسدياً فحسب، بل روحياً: إنه مقاوم. وهذا معطى موضوعي.
إلا أن ذلك يثير في ما يثير، الشروط الذاتية التي تفعل في المعطى الموضوعي ذاك، وتجعله فاعلاً، أو تحيله هباء منثوراً ـــ وهو مصير وارد في كل التجارب. ولعل أول الشروط وأهمها هو التخلص من الحلقة المفرغة: تلك التي ترهن الوعي كما التحركات بالضرورات الداهمة، بالحاجة إلى أقصى التحفّز والنشاط أثناء مواجهة الحدث ثم التلاشي والتشرذم وترك سائر العادات والاعتبارات السيئة المستمدة من تردي الواقع (الذي نحن أبناؤه) تعود إلى التغلب والتحكم! بل إن هذا الميل معزز اليوم بإحدى أقوى خاصيات الايدولوجيا المهيمنة نفسها، أعني طغيان الراهنية، اللحظية، الفوات، وسرعة الانتقال من شيء إلى آخر. إن مكافأة تضحيات أهل غزة تتطلب اليوم بناء حركة ـــ ومبادرات ـــ تمتاز بالاستمرارية والعقلانية وتطلّب التراكم، وهذا لا يمكن أن يتحقق بدون تلاقٍ، تحالف أو تآلف، كل الفاعلين.
الأخبار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى