إنها الحرب بوسائل أخرى
نهلة الشهال
ثمة مشهدان متلازمان/ منفصمان لا يمكن، كما في المرض إياه، فهم واحدهما دون الآخر.
المشهد الاول:
يقول لويس ميشيل، المفوض الأوروبي لشؤون التنمية والمساعدة الإنسانية، إن مسؤولية «حماس» عن الحرب التي وقعت على غزة «ساحقة»، وإنه يجب «فضحها كمنظمة إرهابية تقتل المدنيين الأبرياء»، ولا يمكن للاتحاد الأوروبي التحاور أو التعامل معها. وقد أدلى الرجل بتصريحه ذاك من داخل غزة، موحياً بأن ما شاهده يبيح له مثل هذه الاستنتاجات. وصدم كلامه العنيف والقاطع منظمات حقوق الإنسان العالمية قبل غيرها، وكذلك النواب الأوروبيين المعنيين بالمسألة الفلسطينية، وهم جميعاً معتادون على التعامل معه كرجل متمسك بقواعد حقوق الإنسان.
وهؤلاء، كأصحاب منهجية تستند إلى أصول وثوابت، لم يفهموا موقفه الذي أربكهم واستفزهم، ملتقطين تعجله في إصدار أحكام قبل أي نوع من الاستطلاع والمسح الميداني، وقبل أن تتأسس هيئة تحقيق عالمية ومستقلة – وهو مطلب فلسطيني، وقبل أي نوع من المحاكمة لما جرى.
في الأثناء، كان الرئيس نيكولا ساركوزي، الطامح إلى احتلال موقع رائد في القدرة على التعامل مع مشكلات الشرق الأوسط، يرسل فرقاطة عسكرية ترابط أمام شواطئ غزة للمساهمة في تشديد الحصار عليها، ومنعاً لتهريب السلاح إليها! وقد بدت الخطوة استعراضية وخرقاء كالعادة، ولكنها تمتلك دلالة رمزية قوية، هي إبراز أولوية «همّه»، أي ما يسمى «أمن إسرائيل»، ومعالجة تسرب السلاح إلى أيدي المقاومين في غزة عبر الأنفاق التي سيتولى، كما يبدو، خبراء ألمان رسميون معالجتها إلى جانب السلطات المصرية، بينما يعلن الرئيس الفرنسي استعداده لتولي الجانب البحري منها. وبالتوازي مع ذلك، يجري تفعيل الاتفاقية التي وقعتها رايس وليفني في عز القصف، والمتعلقة بتدابير إحكام إغلاق نقاط تسريب السلاح إلى غزة. وها اجتماع قمة فلسطيني-مصري-أوروبي-أميركي يوشك على الانعقاد لبحث تطبيق هذه الاتفاقية.
ثم أدلت السيدة هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأميركية الجديدة، بأول تصريح لها بخصوص الموقف، يشدد على «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، مستبقة – وإن شكلاً – نتائج «استطلاع» السيد جورج ميتشيل، المبعوث الأميركي الخاص، الذي بدأ جولته في المنطقة، ومتناسية طبعاً كسائر أقرانها، أن حجة «الدفاع عن النفس»، المركزية في تبرير السياسة الإسرائيلية ودعم حلفائها لها، لا تنطبق على قوة احتلال.
وفي موازاة ذلك كله، كان السجال العربي والفلسطيني حول الأولويات قد حمي وطيسه: تشكيل حكومة وحدة وطنية أم رفع الحصار وفتح المعابر؟ ويخفي العنوانان البريئان وراءهما تضاداً قديماً أوصله العدوان على غزة إلى هاوية سحيقة. وكتعبير عن استعصاء ترميم الشرخ في هذا الجانب من المشهد، برزت مشكلة «شرعية» الجهة المعنية في استقبال المساعدات المقررة.
> المشهد الثاني:
يعرفه الجميع، فقد امتد طوال ثلاثة أسابيع مثقلة بالدمار وبفظاعات تفوق الخيال. لكنها تبدو وكأن وطأتها باتت مستوعبة بالنسبة لفاعلي المشهد الأول. ليس أبداً و»كأنها لم تقع» كما قالت بعض الأطراف السياسية الفلسطينية بذهول، بل بسبب توظيفها بشكل جزئي واعتباطي في تعزيز نتائج سياسية مخالفة للوصف الواقعي المصاحب لها، ولما يبدو انه المنطق البديهي للأشياء.
تلك هي قدرة معطى «الهيمنة»: قد يتمكن عموم الناس وقوى سياسية واجتماعية بعينها من الخروج عن المعادلات التي تتحكم بها وتفرضها القوى المهيمنة بوصفها الحالة الطبيعية للأشياء. قد يتمكنون في لحظة من تجاوز القوانين الحاكمة لتوازن القوى. يتمكنون بفعل إرادتهم وارتضائهم دفع ثمن باهظ، كما حدث في صمود غزة، ناساً وقوى سياسية على رأسها حماس. ثم، وعند توقف المجابهة العنيفة، وهي استثناء، تبرز معادلة غريبة: تسخر القوى المهيمنة (التي كانت تمثل الطرف المقابل فهزمت في المواجهة الحارة، بمعنى أنها لم تحقق ما كانت تأمله من وقوع أطنان القنابل على رؤوس الناس، كما في مثالي لبنان 2006 وغزة اليوم) من ذلك الصمود وتستخف بالثمن المدفوع. ويكون ذلك على شكل استدعائهما من زاوية مصالحها: تتفجع على القتلى والدمار بوصفهما عبثيين، بل تعمل على توصيفهما كإجرام فُرض على عموم الناس أو جُروا إليه بسذاجة، وينبغي المحاسبة عليه، حيث تطال المحاسبة… الضحية!
انها العملية القائمة الآن، والتي يشترك فيها معاً، وكل من موقعه، الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والاعتدال العربي، إضافة إلى إسرائيل. وهي تسعى إلى استيعاب وقائع الأسابيع الثلاثة، والفشل في تغيير المعادلة التي كانت قائمة قبل العدوان. أما ميكانيزماتها، فتستند إلى ركيزتين أساسيتين هما من جهة تقديم رواية أخرى لما جرى، تأويل للواقع غير ذاك الذي طغى في لحظة التكثيف المصاحبة للعنف، ومن جهة أخرى تعطيل النتائج المضادة لمشروعها المتولدة عن لحظة العنف تلك: ما يمكن تعيينه بأنه العودة إلى الإمساك بزمام الأمور (وهو الذي يعبر عنه على المستوى الفلسطيني طرح أولوية حكومة الوحدة الوطنية). وقدرة معطى الهيمنة على ممارسة ذلك هائلة – وإلا فلا يعود توصيفه بالهيمنة صحيحاً! وتلخيص تلك القدرة هو معادلة «تحقيق ما عجزت عنه الحرب بوسائل سلمية وديبلوماسية». وبهذا المعنى، فكما كانت الحرب على غزة سعياً لتعجيل السياسة، على ما سبق لكلاوسفيتز أن قال، فالصراع الحالي حول خلاصات غزة هو استمرار للحرب بوسائل أخرى.
وكل ذلك مفهوم وكلاسيكي، رغم ما يثيره من غضب ومرارة. لكنه يطرح أمرين: أولاً تكرار اندهاش القوى المتجاوزة على الصيغة المهيمنة من سعي هذه الأخيرة لسلبها منجزاتها أو رفضها التسليم لها بها، وكذبها حول ما حصل أو خيانتها للواقع، على ما عبر عنه بألم صادق السيد حسن نصر الله بعد عدوان صيف 2006. بينما تبدو حماس أكثر مراناً على «الخديعة»، ربما بسبب من أصالة انتماء بنيتها التأسيسية إلى معطيات السياسة السائدة وقوانينها… لكن الأمر الآخر المهم هو حدود الانضباط الذاتي الممارس من قبل الأطراف المتجاوِزة على الصيغة المهيمنة: متى ستقع القطيعة؟ وهل يوجد مثل هذا الاحتمال (ومستلزماته) في منطق واستراتيجيات القوى المتجاوِزة؟ إذ عندها ينتقل الموقف من التجاوز الى التثوير. لكن متطلبات هذا الانتقال تتخطى من بعيد القدرة على الصمود العسكري فحسب، مما لا يبدو له حتى الآن مقومات…
الحياة