دمشق و «لعبة الجمع بين الاعتدال والممانعة»
عريب الرنتاوي
تلتزم الدبلوماسية السورية جانب الحذر (تُقرأ الصمت) حيال مجريات التفاوض والحوار في القاهرة: التفاوض غير المباشر ، عبر الوسيط المصري بين حماس وإسرائيل حول عناوين التهدئة ورفع الحصار وفتح المعابر ، والحوار المقرر أن يكون مباشرا بين فصائل العمل الوطني الفلسطيني تحت شعار المصالحة وترتيب البيت الفلسطيني ، على أمل أن يفضي وصول الحوار والتفاوض إلى نتيجة تمكن من إعادة إعمار ما دمرته “القدم الهمجية” في القطاع المنكوب.
حذر دمشق وصمتها ، لا يعني للحظة واحدة أن دمشق غائبة عن وقائع الحوار والتفاوض ، أو أن فريقها لا رأي له في في هذا وذاك ، فلدمشق رأيها ومصالحها وحلفاؤها وكل ما يكفي لإثارة فضولها وتدخلها ، ولها أيضا حساباتها وتحسباتها التي تدفعها للاكتفاء بمتابعة المشهد من “مقعد خلفي” وليس من على “خشبة المسرح”.
حماس تعتبر نصر غزة وصمودها ، نصرا لها وتعزيزا لدورها ، وهي ترقب بارتياح (أحسب أنه حذر نوعا) النفوذ المتزايد والشعبية المتعاظمة لحركة حماس ، والسبب ببساطة أن تنامي قوة حماس تعزز موقع دمشق وموقف المحور الذي تنتمي إليه ، بيد أن لدمشق حسابات أبعد من اللحظة الراهنة ، ومن ضمنها أن صعود حلفائها (من الحركات الإسلامية عموما) على هذا النحو ، يطرح أسئلة “البديل الإسلامي” السوري في نهاية المطاف ، فإذا كانت المقاومة التي تعتبرها دمشق ، خيارا استراتيجيا تضاءل أمامه خيار السلام ومبادرته العربية ، وإذا كانت هذه المقاومة إسلامية الشكل والمضمون في فلسطين ولبنان ، فلماذا لا تكون كذلك ، في سوريا أيضا؟،.
لهذا لا تبدو دمشق قد قطعت مع بقية الأطراف الفلسطينية ، فأبوابها ما زالت مفتوحة لفتح والسلطة والمنظمة ، وأحسب (مجرد تخمين) أن ثمة شيئا غير مصرّح به ، في “دواخل” النظام وعقله الباطن ، تريد لحالة توازن القوى على الساحة الفلسطينية أن لا تختل ، أما عن موقف النظام السوري من مسألة المنظمة والمرجعية البديلة ، فلدي يقين (معلومات) أن دمشق أُخذت على حين غرة بهذه الدعوة ، وأنها لم تكن مرتاحة لها أبدا.
في حراكها السياسي المباشر ، وفي مواكبتها لما يجري في القاهرة أساسا ، تبدو دمشق محكومة بأكثر من عامل ومؤثر: فهي من جهة أولى ، لا تريد أن تقفل الباب في وجه “رياح المصالحة العربية” التي هبت بخجل من قمة الكويت ، والأرجح أن الدبلوماسية تنتظر الخطوة السعودية التالية ، وإن كان التفاؤل في إمكانية خَطْوًها قد تضاءل في أبو ظبي…وهي من جهة ثانية ، حريصة على مصائر حلفائها وتجد العذر لهم ولا تريد إحراجهم (خصوصا حماس) ، فالجغرافيا في مسألة غزة حاكمة وضاغطة تماما ، وخروج حماس من عنق زجاجة استحقاقات ما بعد الحرب ، أمر يهم الدبلوماسية السورية ويتصدر أجندتها كذلك.
ثم أن دمشق من جهة ثالثة ، وهي تتابع وتتتبّع خطوات الوسطاء والموفدين والحوارات والمفاوضات ، تضع في صدارة أولوياتها أن عهد أوباما يبشر بصفحة جديدة من العلاقات مع الغرب ، وسوريا تريد أن تظهر كقوة اعتدال وعامل استقرار في المنطقة ، لا كجزء من المشكلة أو كمصدر للاضطراب.
أما من جهة رابعة ، فإن سوريا ترقب بتحسب واهتمام انزياح المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين ، وعودة شبح نتنياهو للإطلالة برأسه من جديد ، ما يعني أن مزيدا من العقبات ستتراكم على طريق الوساطة التركية في المفاوضات السورية الإسرائيلية غير المباشرة ، وما يعني أيضا ، أن مناخات من التأزم والتصعيد قد تخيم في سماء العلاقات بين دمشق وتل أبيب.
والخلاصة ، أن سوريا في مرحلة ترقب وتجميع أوراق ، بانتظار معرفة الوجهة التي ستسلكها المنطقة في مفتتح عهد أوباما ومرحلة ما بعد غزة وما بعد الانتخابات الإسرائيلية ، وإذا كانت دمشق تنظر بكلتا عينيها إلى البيت الأبيض ومستقبل العلاقات السورية الأمريكية ، فإنها تستمسك وبكلتا يديها بأوراق القوة التي جمعتها في الفترة القليلة الفائتة ، والتي أتاحت لها فرصة الخروج من شرنقة الحصار الذي ضرب عليها بعد احتلال العراق واغتيال الحريري ، إلى فضاء الانفتاح على الإقليم وبعض المراكز الدولية ، إنها لعبة “الجمع بين الاعتدال والممانعة”.
المصدر:الدستور الاردنية