عيّنة على مخاطبة الوعي الأوروبي وتناقضاتها
محمد حاج صالح
يعلق موقع «الجزيرة نت» في 2/1/2009 بهذه الكلمات على استشهاد نزار ريان، القيادي الحمساوي: «عرف عن ريان خطبه المؤيدة للمقاومة، كان يصب جام غضبه على إسرائيل، لكن أيضاً على السلطة الفلسطينية… وبعد سيطرة حماس على القطاع، تعهد ريان بملاحقة السلطة الفلسطينية إلى الضفة وطردها منها…».
هذا بعض ما صادفني وأنا أبحث بالإنترنت عن اسم الشهيد، بعد أن أرسل لي أحد الأصدقاء المقيمين في أوروبا رسالة إلكترونية، تتضمن اقتراحاً بضم اسمي في تحرك إعلامي دعائي وإنساني يستهدف الأوساط الأكاديمية والثقافية. المناسبة طبعاً وحتماً العدوان الاسرائيلي على القطاع، وتوظيف كون الشهيد نزار ريان أستاذاً أكاديمياً.
في صفحات الانترنت قرأت أيضاً أن الشهيد أستاذٌ في قسم الحديث النبوي، وحامل لشهادة الدكتوراه فيه، وأنه كان المشرف على عملية ميناء أشدود التي خلفت 12 قتيلا اسرائيليا. وفي الصور رأيته بلحية طويلة على الطريقة السلفية، وبلباس مدني أحياناً وبلباس عسكري أحياناً أخرى. في إحدى الصور العسكرية كان محشواً بالذخيرة. وفي كل الصور كان الشيخ الدكتور الشهيد بدينا سمينا. الصورة، هنا في أوروبا، لا تذكر إلا بمقاتل شديد الشكيمة، على استعداد للخوض في أنهار الدماء. فقدكانت صور مشابهة قد اشتهرت هنا لعسكريين صرب وبوسنيين في تسعينات القرن الماضي. لكن المفاجأة الحقيقية، والتي غابت في أدغال المدح، هي أن الشهيد كان متزوجاً من أربع نساء، كلهن قضين معه، وله اثنا عشرة ولداً، لم ينج منهم إلا واحد، وله أيضاً حفيدان، وهو الذي في الخمسين.
صديقي يساريّ النشأة، لم يرب لحية أبداً حتى لو كانت على الطريقة اليسارية الغيفارية، وكان يكنّ عداء مرضياً للإسلاميين. عداؤه الهوسي هذا كان محط تندر بيننا. لذلك لم أجد حرجاً في أن أكتب له رسالة أشير فيها إلى أن الشهيد ريان لا يصلح محور نشاط لنصرة فلسطين في الأوساط الأكاديمية والثقافية الأوروبية.
بعد أقل من ساعتين وصلني رد مباغت، يتهمني ويتهم أمثالي من اليساريين الذين تحولوا إلى الليبرالية (هذه مسبة غليظة في عرف البعض) بتهم غرائبية. في الحقيقة هي شتائم.
المفاجأة جعلتني أعد إلى العشرة. لم أتوقع أبداً شيئاً من هذا. لذلك اقترحت عليه أن ننتقل إلى «الماسنجر»، فوافق. في الحقيقة أردت أن اسمع نغمة صوته وهو يشتم؛ كما لو أنني لم أصدق ما قرأته.
هنا يمكنني تلخيص حججنا نحن الاثنين:
من ناحيتي تمسكت بأن تقديم الشهيد كمثال للفلسطيني الأكاديمي المثقف لن يكون موفّقاً في عيون الأكاديميين والمثقفين الأوروبيين، فهو إسلامي ملتح يذكرهم بأسامة بن لادن، وهو متزوج من أربع نساء، مع ما هو معلوم من حساسية لدى الأوروبي تجاه تعدد الزوجات والعدد الكبير من الأولاد، وهو بدين وبلباس عسكري أحياناً. والحال أن الأكاديمي الأوروبي منذ زمن بعيد، نسي ولم يعد يقبل، أن يكون الأكاديمي بلباس عسكري، لأن الأمر يذكّره بالنازية، وبالستالينية. الساسة هنا قلما تجد بينهم بدينا، فكيف بالعسكري. كل الأمور غير «راكبة»، وعلى الأرجح أنها سترتد علينا بعكس ما قصدنا. والأهم أن التخصص صار جزءاً من السلوك العفوي عند الأوساط الأكاديمية والمثقفة هنا، فهم سيتساءلون حتما، كيف لأكاديمي ناجح (يفترضون على الدوام أن الأكاديمي باحث يمضي وقته في طلب العلم، إلى درجة التاثير السلبي على حياته الشخصة؛ باختصار هم «متزوجون» من عملهم وبحوثهم في الأعم الغالب) أن يكون زوجاً لأربع نساء، وأبا لدزينة من الأطفال، وحفيدين. هكذا سيتساءلون. فإما إنه أب فاشل وشريك في المسؤولية مع المعتدي عن موت أحد عشرة ولداً وأربع نساء، أو أنه أكاديمي فاشل لا يجد وقتا لعمله، فتأمين الحاجات النفسية والمادية لأربع نساء واثني عشرة ولدا أمر في منتهى الصعوبة. ردود صديقي كانت عذراً أقبح من ذنب، لكن أهمها وأكثرها إزعاجاً ومدعاة للتفكير بالمدى الذي انحططنا إليه يتمثل في قوله: يمكننا أن نخفي هذا الجانب الشخصي من حياة الشهيد، ونقدمه فقط كأكاديمي.
أي أن نغشّ.
لكن ماذا لو أن هؤلاء الأكاديميين والمثقفين، وهم ليسوا أغبياء، بل إنهم هم الذين اخترعوا الانترنت والبحث فيه، بحثوا، ووجدوا هذه المعلومات!
الأرجح أنهم سينفعلون بطريقة لا تخدم فلسطين، بل قد تخدم اسرائيل، ونكون نحن من فتح لهم الباب. أليس هذا ما يحصل الآن؟
يا للحظ العاثر!
* طبيب وروائي سوري يقيم في الخارج.
الحياة