صحف منها “الحياة”، تفتح صفحاتها للإساءة لشهداء غزة! .. لماذا؟
الطاهر إبراهيم
ما تنشره الصحف الورقية العربية، المهاجرة منها إلى لندن وغير المهاجرة، كثيرا ما نقرأ فيه مقالات يختلط فيه الطالح بالصالح، ما يجعل من تلك المقالات ما يجافي العرف العام، وينبو عن الذوق السليم في محيط القراء العرب.
صحيفة الحياة اللندنية مثلا، لايكاد يخلو عدد منها من مقال أو أكثر ينتقد الحركة الإسلامية في الحق والباطل. قد نتغاضى عن مثل ذلك انسجاما مع حرية التعبير، حتى لو اشتد النقد، طالما يتم ضمن قواعد الأدب في التعبير، لأنه لا أحد فوق النقد إلا المعصومون من الأنبياء.
لكن ما لا يمكن السكوت عنه أن يحاول البعض نفض غبار النسيان عن نفسه، فيركب الطريق الخطأ للشهرة، فيبحث عن موضوع يصلح أن يكون سلما للشهرة، فيعصر ذهنه حتى يقول في فم ملآن:وجدتها! وهل أنسب موضوعا هذه الأيام من قضية غزة التي تنام على قصف مدفعي لتصحو على صواريخ الطائرات. وهكذا فعل الدكتور “محمد حاج صالح” المقيم خارج سورية فاختار موضوعا ظنا منه أنه سينال به النجاح، لكنه ليته ما فعل. فتعالوا نرصد ما كتبه “محمد حاج صالح” في “الحياة” اللندنية يوم 8 كانون ثاني 2009، تحت عنوان “عيّنة على مخاطبة الوعي الأوروبي وتناقضاتها”.
ابتداءً يختلق “محمد حاج صالح” حوارا مع صديق يساري يعيش في أوروبا وقد طلب الصديق منه أن يشترك في (تحرك إعلامي دعائي وإنساني يستهدف الأوساط الأكاديمية والثقافية. المناسبة طبعاً وحتماً العدوان الإسرائيلي -الذي ما يزال مستمرا- على القطاع، وتوظيف كون الشهيد “نزار ريان” أستاذاً أكاديمياً) حسب ما جاء في مقال حاج صالح.
وبدلا من أن يرى “حاج صالح” ما رآه العالم كله –وليس أهل غزة فحسب- في الدكتور “نزار ريان” مثالا للإنسان الفلسطيني الذي قدم روحه وأرواح أسرته شهداء في سبيل الله، دفاعا عن بلد مقدس، تعالوا نقرأ ما قاله “حاج صالح” في الشهيد “نزار ريان”. فهو يراه: (بلحية طويلة على الطريقة السلفية، وبلباس مدني أحياناً وبلباس عسكري أحياناً أخرى. وفي إحدى الصور العسكرية كان محشواً بالذخيرة. وفي كل الصور كان الشيخ الدكتور الشهيد بدينا سمينا). (والصورة، هنا في أوروبا، لا تذكّر إلا بمقاتل شديد الشكيمة، على استعداد للخوض في أنهار الدماء. فقد كانت صور مشابهة قد اشتهرت هنا لعسكريين صرب وبوسنيين في تسعينات القرن الماضي. لكن المفاجأة الحقيقية التي غابت في أدغال المدح، هي أن الشهيد كان متزوجاً من أربع نساء، كلهن قضين معه، وله اثنا عشر ولداً لم ينج منهم إلا واحد، وله أيضاً حفيدان، وهو الذي في الخمسين). وأترك للقارئ لكي يستخرج من هذا الوصف للشهيد “نزار ريان” ما قد انطبع في ذهن “حاج صالح” من صفات حسية بدلا من أن ينطبع عنده مثال في التضحية والفداء بعيدا عن صور كان يمكن تناولها فيما لو كان الشهيد ما يزال حيا بيننا. لكنه الحقد وقد ملأ حنايا صدره على الشهيد.
ويتساءل “حاج صالح” نيابة عن الأوروبيين الذين يريد صديقه ترشيح الشهيد “نزار ريان” إليهم كأكاديمي قاتَلَ واستشهد فيقول:(فإما إنه أب فاشل وشريك في المسؤولية مع المعتدي عن موت أحد عشر ولداً وأربع نساء، أو أنه أكاديمي فاشل لا يجد وقتا لعمله، فتأمين الحاجات النفسية والمادية لأربع نساء واثني عشر ولدا أمر في منتهى الصعوبة. وقد كان رد صديقي: يمكننا أن نخفي هذا الجانب الشخصي من حياة الشهيد، ونقدمه فقط كأكاديمي. أي أن نغشّ)؟
لقد بلغت الضحالة عند “حاج صالح” أنه، وبدلا من أن يذكّر بمحاسن الشهيد نزار ريان، فقد طمست عيناه عن رؤية المكانة السامقة للشهيد في التضحية وهو يقدم روحه رخيصة في سبيل الله، الغاية الكبرى التي استشهد من أجلها، أو لنقل: إن عيني “حاج صالح” التي اعتاد أن يرى بهما سفاسف الحياة لا تقويان على إبصار كل ما هو عظيم وسامٍ من منازل الشهداء الأبرار.
حتى بعض صفات الشهيد “نزار ريان” الدنيوية التي دار حولها “حاج صالح” محاولا أن يغمز من مقامه، فهي غاية في العفوية والتلقائية والبساطة والعيش بين أبناء بلده –مع أنه أكاديمي- كواحد منهم يتمتع بما يتمتع به الإنسان العربي الخالي من العقد النفسية التي تنغرس في نفوس بعض العرب المهاجرين إلى أوروبا من أمثال كاتبنا الفذ. غير إن “حاج صالح” رأى في تلك الصفات الطبيعية الهينة اللينة مثالب في شخصية الشهيد.
لو أراد الشهيد “نزار ريان” الدنيا كما فعل “حاج صالح” وبعض من العرب الذين هاجروا طلبا للمال في أوروبا لوجد فرصا كثيرة يعمل فيها بتخصصه في أحد المراكز الإسلامية، أو يهاجر إلى دول الخليج التي تتلقف جامعاتها أمثاله. أما زوجاته الأربع، فلعل أكثرهن زوجات شهداء ضمهن الشهيد إليه بعد أن فقدن المعيل باستشهاد أزواجهن في مقاومة الإسرائيليين.
قد نختلف مع حماس أو نتفق معها. وقد نختلف مع فتح أو نتفق معها، لكننا لا نختلف أبدا أن أي شهيد يسقط فوق تراب فلسطين هو شهيد الجميع يجب أن يبقى في الصورة التي يقف منها الكل موقف الاحترام.
كنا ننتظر من “حاج صالح” أن يكتب مقالا يؤبن به الفقيد ويشيد فيه بالشهيد، معزيا أهله وأهل غزة في مصابهم الأليم، تيمنا بالتوجيه النبوي: “اذكروا محاسن موتاكم” لا أن يسلك العكس. أما إذا كان له خصومة مع الإسلاميين في سورية، فليقلها بصراحة، ولا يختبئ وراء شهيد من شهداء الأمة، لتصفية حسابات قديمة، فإن هذا مما يمقته الذوق العام، وتأباه المروءة.
أخيرا، لم تكن “الحياة” وحدها هي التي فتحت صفحاتها لمهاجمة حماس أثناء قتالها إسرائيل،إلا أن الحياة “زودتها حبتين” عن غيرها من الصحف. ولقد كتبت هذا الرد بعد نشر المقال مباشرة وأرسلته إلى الحياة وانتظرت أسبوعا كاملا، غير أن “الحياة” رفضت نشر الرد، مما يدل على أنها تتبنى رأي الكاتب، ما اضطرني إلى نشره في مواقع أخرى.
كاتب سوري