سلامة كيلةصفحات سورية

حوار في المبادئ مرة أخرى (من أجل توضيح الاختلافات)

سلامة كيلة
-1-
أنهى د. كاظم حبيب رده على ما كتبت بالقول “هذه الحلقة هي الأخيرة والتي تنهي نقاشي المباشر مع السيد سلامة كيلة ولن أعود إليه، بعد أن وضح كل منا موقفه”. إذن أعتذر له عن ميلي لاستمرار الحوار، حيث أنني أرى أن هناك العديد من القضايا التي تحتاج إلى توضيح أكثر، ونقاش أوفى. وبالتالي من حقه أن يرد أو لا يرد. وأوضح ابتداءاً أن الهدف لا يكمن في “تسجيل نقاط” بل أنني أعتقد بأن الحوار هو الذي يبلور الأفكار، لأنه يوضحها أولاً، لهذا لا أميل إلى “تجاور وجهات النظر” بل إلى تصارعها. والمسائل المطروحة ليست مسائل عابرة بل تشكل سياسة أحزاب، وبالتالي تحكم نشاطها، وليس من الممكن تحديد أخطاء هذه الأحزاب دون نقاشها. كما لا يمكن تجاوز “الأخطاء” التي وقعت فيها دون تحديدها بدقة. وهو الأمر الذي يسمح ببلورة رؤية جديدة تنطلق من التجربة كما تنطلق من متغيرات الواقع.
ولاشك في أنني لمست في رد د. حبيب ما يوجب استمرار الحوار، ولهذا أعتذر لأنني أثقل عليه.
حول الماركسية، وحول لينين وستالين:
للماركسية مرجعية طبعاً:
حين الحديث عن الماركسية بشكل عام لا يبدو أن هناك خلاف، لكن تبدو المسائل أعقد حينما يجري تحديد المواقف والسياسات. لهذا أوافق على أن الماركسية هي “منهج علمي يُستخدم لفهم الواقع من خلال تحليله واستيعاب حركة التاريخ والقوانين الموضوعية الفاعلة واتجاهات التطور واستخلاص النهج الذي يساعد المناضلين على العمل لتغيير ذلك الواقع”. لكن هذا التحديد العام يفتح على اختلافات بيّنة في الرؤى والمواقف. هنا يطرح السؤال: لماذا؟ هذه مسألة تحتاج إلى تدقيق، وربما تكون مرتبطة بالفصام ما بين “النظري” والواقعي. أي بين التحديد العام للماركسية وبين المقدرة على تمثلها، وبالتالي تحويلها إلى منهجية في تحليل الواقع، أو تكرار هذه الصيغة العامة دون مقدرة على تمثل الجدل المادي، وبالتالي استمرار سيادة المنطق الصوري.
من هذه الزاوية أرى أن إشارات د. حبيب إلى أنه “لا يجوز احتكار الماركسية”، وأنه “ليست هناك مرجعية معينة في هذا الصدد”، تستلزم النقاش. حيث أن الماركسية ليست نظرية مجردة، ولا هي أداة في البحث الأكاديمي (رغم أهمية هذه المسألة)، بل هي أداة منهجية لتأسيس رؤية طبقة في نضالها من أجل انتصارها، هي الطبقة العاملة. لهذا فقد أسرع وصنّفني بأنني لست ماركسياً بل أحمل الفكر القومي، وبالتالي وضعني خارج رؤية الطبقة العاملة في صف البرجوازية الصغيرة. وبالتالي لنتجاوز “الحساسيات الشخصية”، ونناقش انطلاقاً من أن كل منا يعتقد بأن رؤيته هي الصحيحة، وأنه الماركسي، دون أن يعني ذلك –على الأقل من قبلي- تجريد الآخر من ماركسيته، لأنني كما أشرت في الرد السابق لا أرى بأن المسألة هي مسألة “وضع في صف”، بل أنه حتى الماركسي يمكن أن يكون لا ماركسياً في بعض التحليلات والمواقف، ويمكن ألا يكون ماركسياً بالمرة. لهذا ينصبّ النقاش على ماركسية التحليلات وليس على أي شيء آخر، وعلى ماركسية المواقف وليس على كون الشخص ماركسي أو غير ماركسي. فربما يكون الشخص ماركسياً لكنه يخطئ في تحليل أو موقف أو سياسة. وإلا لماذا نقول بأن ماركس ليس نبياً، وبالتالي فهو يخطئ، وأن لينين كذلك يمكن أن يخطّأ، وكل الماركسيين الآخرين. لقد تناقض لينين مع بليخانوف في مجمل السياسة التي يجب أن يتبعها حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي، لكنه كان يصرّ على ضرورة قراءة كل كتاباته الفلسفية لأنه ليس ماركسياً من لا يقرؤها كما أشار.
وبالتالي في التحديد مستويان، الأول ينطلق من أنه يمكن لكل ماركسي أن يخطئ التحليل، وبالتالي يتجاوز الماركسية فيه، سواء نتيجة خطأ معرفي أو نتيجة ميل طبقي. والثاني ينطلق من أنه يمكن أن لا يستطيع الشخص امتلاك المنهجية الماركسية ويبقى على منهجيته الصورية، وبالتالي يطرح تصوراً لا يعبّر عن الطبقة العاملة، وهنا لا يكون ماركسياً.
هنا يجب أن نتوقف عند أن “ليست هناك مرجعية” في الماركسية. ليس من فكر لا مرجعية له، لكن الفارق يكمن في طبيعة المرجعية ذاتها. وإلا لن يكون ممكناً التمييز بين فكر وآخر. وكون الماركسية ليست نظرية مجردة بل تستلزم تحوّلها إلى رؤية لطبقة، إلى أيديولوجية طبقة هي الطبقة العاملة، تكون هناك مرجعية منهجية عامة هي الجدل المادي، الذي يفرض تجاوز المنطق الصوري، أو الوضعية، وبناء تحليل الواقع على أساسه. وهنا تصبح قوانين الجدل هي المرجعية لضمان اتساق التحليل وعلميته. ثم هناك الرؤية الطبقية ومدى تعبيرها عن مصلحة هذه الطبقة بالمعنى العام التاريخي وبالمعنى المحدد الظرفي. وربما يكون هناك تداخل بين المسألتين، وهنا يمكن تصنيف الذين لا ينطلقون من المنهجية الماركسية ولا يطرحون مصالح الطبقة خارج الماركسية بغض النظر عن إدعائهم.
فمثلاً يشمل الجدل المادي مفهوم التناقض، وبالتالي إذا لم نحدد مجمل التناقضات في الواقع المعيّن، وما هو التناقض الرئيسي فيها وما هي التناقضات الثانوية، وكيف يحل التناقض الرئيسي، وكيف تحل التناقضات الثانوية، نكون بعيدين عن الانطلاق من الجدل المادي، وربما نميل إلى تحديد صوري لتناقض ما نعطيه الأولوية. ومثال العراق واضح في هذا المجال، حيث كيف يمكن أن نحدد التناقضات؟ طبعاًُ الآن وليس زمن الدكتاتورية؟ أليس الاحتلال الإمبريالي الأميركي هو الذي يؤسس لكل الوضع العراقي القائم؟ وبالتالي يكون التناقض الرئيسي مع الاحتلال، وهذا منطق عام مارسه الماركسيون منذ زمن بعيد. وبالتالي كيف يمكن أن نحل هذا التناقض؟ أليست المقاومة هي الشكل الرئيسي في هذه الحالة؟ هذه مسائل عامة إجاباتها واضحة في تاريخ الماركسية، ولم تتغيّر لأن الحالة ذاتها تتكرر. ثم كيف ننظر إلى القوى الأصولية، في السلطة وفي “المقاومة”؟ هل أن “الإرهاب” هو الخطر الرئيسي؟ وهل نتشارك مع قوى طائفية في الحكم، وتحت الاحتلال؟ هذه المسائل أظن بأن الإجابات عليها في العراق ليست منطلقة من الجدل المادي، بل من رؤى بعيدة عنه. وبالتالي كيف نحدد الموقف من الحزب الشيوعي العراقي على ضوء ذلك؟
هذا التحديد ينطلق من المنهجية وليس من “ميزان القوى”، ويلعب ميزان القوى دور في تحديد الخطوات العملية فقط، وهذا ما سوف أتناوله حين مناقشة مسألة أن “السياسة هي فن الممكن”.
وبالتالي في النظر إلى الماركسية هناك ما هو “ذاتي” وهناك ما هو موضوعي. بمعنى أنه يمكن أن يُطرح الرأي والرأي الآخر، وأن يعتقد كل طرف بأنه يطرح وجهة نظر فقط، بحيادية طبقية تامة. لكن كل شخص لا يطرح رأياً لا يعتقد في صحته، وبالتالي خطأ الرأي الآخر، ولو نسبياً. وكان يمكن أن تبقى المسألة عند هذه الحدود، لكن المسائل المطروحة ليست أفكاراً في قضايا تاريخية يمكن أن تبقى مجال حوار طويل دون إدعاء صحة أو خطأ أي منها، فلسنا في مجال بحث أكاديمي يخص التاريخ أو الاقتصاد، أو ..ألخ، بل هي مسائل تخص صراع طبقي واقعي، تخص سياسات أحزاب وأدوارها، وبالتالي فإن انتصار أي منها يعني إما النصر لطبقة أو الهزيمة، إما الفشل أو النجاح. وهنا يبدأ الميل لتحويل الفكرة “الذاتية” إلى حقيقة موضوعية، وبالتالي نفي الفكرة الأخرى. وهذا هو الصراع الفكري الذي أصرّت الماركسية على ممارسته.
من هذا المنطلق أكمل الحوار مع د. حبيب.
إما الرأسمالية أو الاشتراكية:
النقطة الأخرى التي تستوجب الحوار هي مسألة “التقويل”، حيث أن د. حبيب ينطلق في رده على ما كتبت من أن البديل الذي أقول به رفضاً للرأسمالية هو الاشتراكية، رغم أنه “يكتشف” بأنني لا أطرح “مباشرة” بناء الاشتراكية في المرحلة الراهنة، بل تبنيها. فيظل ينطلق من رفض الاشتراكية لأن “شروط البلاد غير مؤهلة للاشتراكية”، حيث أن “سيرورة المجتمع لا تخضع للرغبات”، بل أن “لها قوانينها الموضوعية”. وبالتالي يحصر النقاش في هذه الـ: إما، أو، رغم أنني أوضحت تفصيلاً بأنني لا أخضع لهذه الـ: إما، أو. وكنت أركز على أن الخلاف ليس هنا بل في تحديد الطبقة التي يجب أن تقود النضال من أجل تحقيق المهمات الديمقراطية.
هذا النقاش يؤشر إلى مسألة منهجية إشكالية، حيث توضع المسائل في ثنائيات دائماً، وحيث ليس من الممكن أن نرى مسألة إلا ونستحضر “نقيضها”. حتى لو حلفنا كل الأيمان بأننا لا نرغب في هذا الاستحضار. لهذا بدوت مع د. حبيب أنني أطرح الاشتراكية الآن وهنا، رغم ملاحظته التي لم تدخل في متن النقاش، وإلا كان كفّ عن التركيز علة الظروف الموضوعية التي لا تسمح بتحقيق الاشتراكية، لأنني متوافق معه في ذلك. لكنني أبدو مع الذين يطرحون الاشتراكية داعياً للرأسمالية وفق ما يريد د. حبيب. ولو كان اضطلع على الحوارات العديدة على موقع الحوار المتمدن لكان اعتبر أنه في صفي وليس في أي مكان آخر (يمكن العودة مثلاً للحوار مع عصام شكري، وأيضاً مع عادل سمارة). إذن، أين أنا بالضبط؟ أو بالأساس لماذا هذا التصنيف المتناقض، حيث أبدو من قبل الذين يطرحون الاشتراكية كهدف راهن رأسمالياً، وأبدو لمن يطرحون الرأسمالية كهدف راهن اشتراكياً؟
أوضح طبعاً أنني اشتراكي دون لبس، وأنطلق من الماركسية، وأسعى لانتصار الاشتراكية. فهذه مسائل لا أتردد فيها. لكن أظن بأن هناك إشكالية منهجية تحكم هذا وذاك، لأن المسألة بالنسبة لهما هو: إما، أو، وليس من خيار ثالث. وهنا بالضبط نلمس المنطق الصوري واضحاً. بالمعنى العام طبعاً هناك الرأسمالية وهناك الاشتراكية، وليس من وسط بينهما. لكن هذا التحديد صوري، لأن الواقع أغنى من هذه الثنائية، وهذا ما لا يحله سوى الجدل المادي، الذي لا يكتفي بالتحديد الصوري، بالشكل، بل يغوص عميقاً في الواقع، ليفكك معنى الرأسمالية، ومعنى الاشتراكية، وليرى الطبقات ويرى كذلك المهمات، ولماذا ارتبطت هذه المهمة بهذه الطبقة؟ وهل هي في “رباط أبدي” أم أن الظرف الموضوعي فرض هذا الربط، وبالتالي يمكن أن تحملها طبقة أخرى؟ أو هل ستبقى الطبقة التي حملتها في لحظة معنية بحملها إلى الأبد؟ وبالتالي يصبح لدينا مستويات متقاطعة ومتنافرة معاً، مستوى المهمات التي يفرضها الظرف الموضوعي، والتي لا تطور دون تحقيقها. ومستوى الطبقة التي تتقاطع مصالحها مع تحقيق هذه المهمات أو لا تتقاطع. ودون هذا التمييز لن يفهم الموقف الذي طرحه لينين، وبات هو خيار التطور، والذي أقول به. حيث سيبدو أن في قعر المنطق الصوري هذا تلمس حسي لا يستطيع أن يرى مثلاً تحقيق الوحدة القومية، أو بناء الصناعة، أو التحديث، إلا ملتصقة بالبرجوازية. وبالتالي لا يتخيل بأن هذه البرجوازية يمكن أن تتخلى عن تحقيق هذه المهمات. وأيضاً من “الجريمة” أن تفكر الطبقة العاملة في تحقيقها قبل أن تفكر ببناء الاشتراكية. أكثر ما يقال هو أن تتساعد كل الطبقات في تحقيقها في إطار رأسمالي كما يطرح د. حبيب، وهو ما سوف أناقشه تالياً.
هنا تعقيد الواقع غائب، غير ملموس، مجهول، نتيجة كون المنطق الصوري هو الحاكم. المنطق الصوري لا يستطيع أن يؤسس لوعي مجمل التكوين لأنه يظل في الأشكال. لهذا لا من خيار سوى الرأسمالية أو الاشتراكية. وهذا يقتضي أن يتوهم كل طرف سياسة لم تفض إلا إلى الفشل، لأنها ليست مبنية على وعي الواقع بل قامت على مسبقات ذهنية لا تستطيع تضمن كل تعقيد الواقع.
إذن، ليس بديل الرأسمالية راهناً هو الاشتراكية، لكن ليست الرأسمالية هي ما هو راهن، لقد باتت من الماضي ويجب تجاوزها.
لينين وستالين:
هذه الدعوة لتحقيق الاشتراكية يحمّل لينين مسئوليتها، حيث حين وصل البلاشفة إلى السلطة طرح لينين بناء الدولة الاشتراكية، “وكان في هذا مخطئاً ومتسرعاً”، رغم أنه كان يقول باستحالة ذلك قبلئذ. ورغم أنه أدرك سنة 19/20 الأخطاء التي ارتكبها فطرح سياسة النيب “والذي أدرك فيها أهمية عدم قفز المراحل وحرقها، بل لا بد من انجاز مهمات الثورة الديمقراطية بقيادة الحزب الشيوعي”.
ورغم الارتباك في تحديد سياسة لينين إلا أن النتيجة التي توصل إليها د. حبيب هي أن لينين أدرك أهمية انجاز المهمات الديمقراطية بقيادة الحزب الشيوعي. هنا مفصل كل الخلاف، حيث أن هذه الصيغة لا تعني تحقيق الاشتراكية لأن الواقع لا يحتمل ذلك، لكنها تشير إلى أن المهمات الديمقراطية يجب أن يحققها الحزب الشيوعي. وعلى فكرة هذه هي فكرة لينين منذ البدء، والتي يُتهم بأنه عبرها قد “روسن” الفكر الماركسي، والخلل الذي ارتكبه بتصديره إلى العالم كله.
لكنه يعود ليؤكد على النقد الأساس للينين، الذي تصور وأغلب قيادة الحزب “قرب نهاية الرأسمالية وقرب إمكانية بناء الاشتراكية”، والذي عده هروب إلى الأمام “بكل معنى الكلمة”. ماذا طرح لينين إذن؟ بناء الاشتراكية أو تحقيق الحزب الشيوعي لمهمات ديمقراطية؟ يجزم د. حبيب بأن اتجاه المدرسة اللينينية الذي كان يهيمن على الأحزاب الشيوعية كان يقول ببناء الاشتراكية في بلد متخلف. هل كان طرح الحزب الشيوعي العراقي، ومجمل الحركة الشيوعية العربية يدعو إلى تحقيق الاشتراكية؟ ربما يبدو التناقض جلياً هنا، حيث يشير في شرح طويل لسياسة الحزب الشيوعي العراقي التي لم تكن تفكر في ذلك على الإطلاق، بل طرحت ما لازال يدعو إليه، أي “التطور الرأسمالي”. وهو يوضح ذلك جيداً. أشير إلى ذلك لكي أبني عليه تالياً حين النقاش حول لينين وستالين. حيث أن “ستالين كان لينينياً واعتمد اللينينية في الممارسة العملية، وطرح أفكاره الخاصة فيما يخص بناء الحزب والدولة والمجتمع الاشتراكي”، وهو يشير هنا إلى كراس ستالين “في سبيل تكوين بولشفي”، الذي يحوي هذه المسائل.
لكن إذا كان ستالين لينينياً فلماذا فرض على مجمل الحركة الشيوعية في الوطن العربي (وفي مناطق أخرى في العالم) سياسة تقوم على تحقيق “التطور الرأسمالي”؟ د. حبيب يكرر محقاً بأن سياسة الأحزاب الشيوعية كانت تقرر في موسكو، فهل يعتقد بأن كل السياسة التي سبقت فرضه “نظرية التطور اللارأسمالي” هي فرض كذلك؟ وهو هنا يكون قد تكلم في مسائل متناقضة: لينين وستالين على هديه دعيا إلى بناء الاشتراكية والأحزاب الشيوعية عملت من أجل “التطور الرأسمالي”، لكن هذه الأحزاب خاضعة في سياساتها لـ “الأخ الأكبر”. كيف يستقيم ذلك؟ وهو الآن يعود، بعد نقد الأخطاء التي وقع فيها هو والحزب إلى الفكرة الأولى، التي هي “التطور الرأسمالي”، متجاوزاً القفز عن المراحل والتسرع الذي حكم لينين.
هل ستالين هو لينين؟ هذه هي الصورة التي رسمت وفق الرواية الرسمية السوفيتية، والتي كانت أساس كل وعي الأحزاب الشيوعية. وتدريس كتب ستالين حول: “أسس اللينينية” و”مسائل اللينينية”، وأيضاً “في سبيل تكوين بولشفي”، كانت تعطي هذا الانطباع، بل تكرسه. وربما كان التوافق مع ذلك مقبولاً حينما كان د. حبيب والأحزاب الشيوعية تلتزم بالخط السوفيتي، لكن ألا يحق له أن يعيد النظر في هذه المسألة بعد أن تبين خطأ “المدرسة الفكرية” التي تعلموا منها؟ لقد كان من مصلحة ستالين أن يظهر ذاته كلينيني، كما فعل تروتسكي أيضاً، في الصراع على الإرث بعد وفاة لينين. وكان من مصلحته أن يتكرّس هذا التصور. لكن ألا يحق لنا التشكك قليلاً؟
طبعاً لازلت أناقش الوضع قبل نشوء فكرة “التطور اللارأسمالي” التي بزغت بعد موت ستالين. لأصل إلى ما يطرح د. حبيب اليوم وليس قبل ذاك. وسوف نلمس هنا بأن د. حبيب الذي كان يؤسس على هذا الربط، ويعتبر بأن لينين كان يفرض إجبارياً على الأمم أن تمر بمرحلة التطور الرأسمالي، ينقلب اليوم وهو يرفض لينين إلى اتهامه بعكس ذلك. بمعنى أنه لم يشكك في هذا الربط، وبالتالي لم يجهد في إعادة دراسة لينين. لهذا بدا مرتبكاً فيما يقول حوله كما أشرت قبلاً. فمن يدرس لينين بعيد ثورة أكتوبر يلحظ بأن كل إصراره تركز على انجاز المهمات الديمقراطية، ولقد دعا إلى القيام بالثورة تحت شعار “ليس تطبيق الاشتراكية” بل انجاز المهمات الديمقراطية. وظل يكرر هذه المسألة قبل سياسة النيب وبعدها. هذه المسألة هي ما لم يستطع “العقل” أن يستوعبها. كيف يصل إلى السلطة ولا يحقق الاشتراكية؟ فالمهمات الديمقراطية هي من اختصاص البرجوازية؟ وبالتالي لماذا يصل إلى السلطة أصلاً؟
ما فعله لينين هو أنه توصل عبر التحليل الملموس للواقع الملموس إلى تصور يقول بأن الواقع الروسي المتخلف يفرض تجاوز الإقطاع، وهذه مسألة كانت قد أنجزتها البرجوازية، لكن البرجوازية الروسية لم تعد معنية بها، فهي متداخلة مع الإقطاع ذاته، إذن من يحقق هذه المهمة؟ أكرر: أن يحقق هذه المهمة؟ ولقد توصل إلى أن نشوء الطبقة العاملة ووجود حزبها، وقوة الفلاحين الثورية، كلها هي التي يجب أن تحقق ذلك. في هذا اختلف مع تروتسكي الذي اتهمه بأنه يسعى إلى انتصار الرأسمالية، وأنه تخلى عن تحقيق الاشتراكية. وكذلك اختلف مع المناشفة الذين كانوا “على العهد” يكررون الفكرة الماركسية الأولى حول ضرورة التطور الرأسمالي قبل طرح مسألة الثورة الاشتراكية، تماماً كما كانت تطرح الأحزاب الشيوعية في الوطن العربي، وما يطرح د. حبيب. لقد وقع لينين بين الحدين لأنه رفض كل منهما، ليس لسبب ذاتي، بل لأنه حلل الواقع تحليلاً شاملاً قبل أن يصدر أحكامه، أو يضع مخططات للتطور مسبقة التحديد. وهنا لم يكن دوغمائياً بل ديالكتيكياً. وهذه الفكرة البسيطة هي التي شكلت إضافة حقيقية في الفكر الماركسي بعد ماركس، والتي كانت في أساس انتصار الاشتراكية في مناطق واسعة من العالم.
ستالين عمل قفزة حينما قرر إلغاء الملكية الخاصة. هي هذه الخطوة صحيحة؟ هذا ما يفترض دراسة التجربة الاشتراكية، والظروف الموضوعية آنئذ. وبالتالي فإن التحول الاشتراكي ارتبط بستالين وليس بلينين. لكن هذا هو ما عممه ستالين عالمياً حينما أصبح هو الحزب؟ سياسة الأحزاب الشيوعية في الوطن العربي، والتي كانت في رباط وثيق بالمركز السوفيتي لم تطرح ذلك، بل طرحت كما أشرنا “التطور الرأسمالي”. إذن، هي لم تتشرب “المدرسة الفكرية اللينينية”، أو تشربتها عبر الستالينية بالتحديد كما أشرنا للتو. فلماذا إذن فرض ستالين الاشتراكية في روسيا، ثم في بلدان أوروبا الشرقية، ولم يفرضها على فكر الأحزاب التابعة له في الوطن العربي؟
ليست المسألة مسألة عدم فرض، فكل الحديث هو عن إتباع وفرض سياسة المركز. لكن، وهنا نلمس المسافة بين لينين وستالين، ما تبلور في وعي ستالين (أو ما عمم خدمة لإستراتيجية الاتحاد السوفيتي) هو أنه لا يمكن الانتقال من الإقطاع إلى الاشتراكية دون المرور “جبرياً” بالمرحلة الرأسمالية. ووفق ذلك رسمت سياسة الأحزاب الشيوعية منذ سنة 1937 على وجه التحديد، بعد أن كانت تتبلور كسياسة لينينية قبل ذاك. وهذا هو الذي تعمم كونه الماركسية، والذي حوّل الماركسية إلى “شيء أشبه بالدين” والى “عقيدة جامدة حقاً”، لهذا لازالت تتكرر. هذا “الصراع” بين اللينينية والستالينية كان واضحاً في الصين، حيث تمسك ماو تسي تونغ بالخط اللينيني ورفض الالتحاق بالبرجوازية (الكومنتانج) من أجل تحقيق التطور الرأسمالي الذي كانت تعد به. إذن، ستالين تخلى عن الخط اللينيني، في الوقت ذاته الذي كان يعيد صياغة الرؤية اللينينية، هذه التي كانت أساس تثقيف الأحزاب الشيوعية. وهو ما أنتج سياساتها التي أودت بها إلى الفشل. هنا الأساس الإستراتيجي كان يقوم على خطأ، ولم تتعلق المسألة بأخطاء فقط.
وسنلمس هنا أنه بحجة رفض الخط الذي عممته “المدرسة اللينينية”، والذي هو الخط الستاليني، جرى رفض الخط اللينيني الذي كان ستالين قد مسحه من تفكير الحركة الشيوعية، ليعاد طرح ما قال به الرفيق ستالين بالضبط. أي “التطور الرأسمالي”. لقد رفضت الاشتراكية من أجل التطور الرأسمالي شكلاً، لكن الذي رُفض في الواقع هو الطرح اللينيني الذي لا يدعو إلى بناء الاشتراكية في بلد متخلف بل يدعو لأن يطرح الحزب الشيوعي على عاتقه تحقيق المهمات الديمقراطية التي يطرحها الواقع، لأن ذلك هو طريق تحقيقها. بمعنى أن الحزب الشيوعي الذي يعمل من أجل بناء الاشتراكية يكون معنياً على ضوء التحليل الملموس للواقع بتحقيق مهمات سابقة للاشتراكية كانت البرجوازية في أوروبا قد حققتها. وتحقيقها هو الذي يطرح مسألة الانتقال إلى الاشتراكية. هل أن هذه المسألة معقدة؟
إذن، لقد رُفض لينين وبقي ستالين، مع كل “المدرسة الفكرية” التي أسسها. ليبدو أننا لم نستفد من تجربتنا ذاتها، حيث لم نلمس بأن برجوازية قد مالت لأن تحقق هذه المهمات وتؤسس نمطها، وأن الخيار البديل كان في نظم البرجوازية الصغيرة التي لاحظنا أين وصلت.
وهنا سنلمس كم أن تأثير المنطق الصوري لازال فاعلاً. حيث لازالت المسائل توضع في ثنائيات، ولم يستطع “العقل الماركسي” وعي التعدد والتنوع. وبالتالي فهم الواقع بتنوعه وتعدده. ليكون ممكناً ملاحظة أن خيار البرجوازية في تحقيق المهمات الديمقراطية قد بات من الماضي مذ غدت الرأسمالية نمطاً عالمياً، كما أوضحت في الرد السابق. ولهذا دخلت الفئات الوسطى إلى حلبة الصراع لأن الأحزاب الشيوعية لم تتقدم كما فعلت في الصين أو فيتنام أو كوبا. ونحن نلمس مصير تجارب هذه الفئات، حيث أنها لا تستطيع التقدم أكثر مما فعلت لأنها تميل إلى تحقيق مصالحها الذاتية قبل أن تتحقق مصالح المجتمع ككل.
-2-
حول الرأسمالية ووضع العراق
الواقع الإقطاعي:
ينطلق د.حبيب من الواقع الإقطاعي للقول بضرورة التطور الرأسمالي. وإذا كانت العلاقات الإقطاعية وشبه الإقطاعية هي السائدة قبل ثورة 14 تموز 1958، فإن الوضع قد تغير بعدئذ، حيث صدرت قوانين تتعلق بالإصلاح الزراعي. لكنه يشير، في الرد السابق والآن، إلى أنها عادت، حيث أن النظام خلال الحرب مع إيران تراجع عن الإصلاح الزراعي لكي يكسب شيوخ العشائر “وهنا عادت العلاقات الأبوية والعلاقات العشائرية وعلاقات الإنتاج التي تعتمد على العلاقة الاستغلالية القديمة بين مالك الأرض أو المستحوذ عليها وبين الفلاح الكادح الفقير”. وبالتالي فرغم أن العلاقات الإقطاعية قد انتهت على صعيد عالمي –كما كنت أشرت، وكنت اقصد على صعيد كل العالم- فإنها “لم تنته في كل الدول النامية”. ويشير إلى العراق بأن “العلاقات السائدة هي ما قبل الرأسمالية، وهي مؤثرة حتى على حياة المدينة”. وبالتالي يشير إلى طبيعة العلاقات الاجتماعية ودور المرجعية العشائرية والمرجعية الدينية الطائفية في العراق ليدلل على وجود بقايا تلك العلاقات. حيث ازدهار العشائرية والانتماء العشائري على حساب المواطنة العراقية المتساوية.
ما يمكن تلمسه هنا هو الخلط بين علاقات الإنتاج والعلاقات الاجتماعية والوعي الاجتماعي. فعلاقات الإنتاج هي تلك التي تتعلق بطبيعة ملكية الأرض، والعلاقة بين المالك والفلاح. وخصوصاً هذه الأخيرة، لأنه في الرأسمالية هناك ملاك أرض، حيث الأرض هي ملكية خاصة، لكن شكل العلاقة مع الفلاح هي التي تختلف. وكان من الطبيعي أن يقود الإصلاح الزراعي إلى إعادة تمركز الملكية الخاصة في ظل سيادة الفئات الوسطى، فهذا هو طريق التطور الرأسمالي في الريف. وبالتالي فإن التراجع عن الإصلاح الزراعي لم يعن عودة الإقطاع بل عنى تغلغل العلاقات الرأسمالية في الريف. وهذا حدث في مصر وسورية وكل البلدان التي قامت بالإصلاح الزراعي.
لكن هل أن عودة العلاقات الأبوية والعشائرية، وعودة دور المرجعية الدينية الطائفية هو عودة إلى الإقطاعية؟ لبنان ليس إقطاعياً، لكن دور المرجعيات الدينية والطائفية أساسي، وكل كيان الدولة يقوم على المحاصصة الطائفية، وهو ما حصل في العراق ما بعد الاحتلال الأميركي. المشكلة هنا تتحدد في طبيعة الرأسمالية التي تهيمن، حيث أن “نقص التطور الرأسمالي”، أو تعميم العلاقات الرأسمالية دون قوى الإنتاج الصناعية، يسمح باستمرار وجود البنى التقليدية القديمة. وهذه سمة النمط الكولونيالي كما أسماه الشهيد مهدي عامل. حيث تتراكب العلاقات المحلية مع قوى الإنتاج في المراكز وليس مع قوى إنتاج “وطنية”. وبالتالي فما سمح بعودة كل هذه البنى الماضوية هو أنها ظلت موجودة لأن بنى جديدة لم تتشكل لكي تندثر. وكل المحاولات كانت قاصرة وهزيلة، منها المرحلة التالية لثورة 14 تموز.
وبالتالي فإن وجودها لا يعني استمرار النمط الإقطاعي، بل يعني أن النمط الرأسمالي المتشكل لا يتناقض مع وجودها، ومن ثم لم يؤسس البنى البديلة، لهذا استمرت. ولسوف تستمر إلى أن يتحقق بناء قوى منتجة حقيقية، بناء الصناعة وتطوير الزراعة. لأن هذه البنى تعتبر من البنى الفوقية التي لا تزول بسهولة. لقد مالت النظم إلى استغلال وجودها في اللحظة التي احتاجتها، كما يشير د. حبيب فيما يتعلق بصدام حسين، وكما فعل الاحتلال الأميركي. وبالتالي يمكن أن تبقى مجال استغلال ما دام التطور لم يفرض تجاوزها.
ولقد أشرت سابقاً إلى أن هذا هو الشكل الممكن للرأسمالية في إطار سيطرة النمط الرأسمالي عالمياً، حيث لا يميل الرأسمال المحلي إلى بناء الصناعة لأنه لا يريد الدخول في تناقض مع الرأسمال الإمبريالي، حيث سيكون هو الخاسر. وهذا الوضع يجعل استمرار البنى التقليدية والوعي التقليدي أمراً محتماً. إذن، هذه هي النهاية الممكنة للرأسمالية في الأطراف، وأي ميل لتجريب تجاوز ذلك، في إطار رأسمالي، سوف يلقى مصيراً سيئاً. ولقد حاولت الفئات الوسطى فعل ذلك، فهزمت الإقطاع وحاولت بناء الصناعة، إلا أن مصالح الفئات المهيمنة فيها فرضت وقف التطور، والتحوّل مجدداً إلى رأسمالية كومبرادورية. بمعنى أنه لم يعد ممكناً التطور الرأسمالي في مواجهة الهيمنة العالمية للرأسمال الإمبريالي، لم تعد قوانين الرأسمالية التقليدية تسمح بتحقيق هذا التطور. ثم ليست هناك برجوازية تمتلك روح المغامرة لتحقيق هذا التطور الرأسمالي. وكما أشرنا فإن الفئات الوسطى سرعان ما تميل إلى تحقيق الكسب الفردي لتقطع التطور، وتعيد سيادة البنى التقليدية. ود. حبيب يشرح هذه المسألة فيما يتعلق بالعراق، ويمكن أن نشرحها كما تجري في سورية، أو كما جرت في مصر.
وهنا يصبح بناء الصناعة والحداثة مرتبطان بقوى هي في تناقض عميق مع الرأسمال الإمبريالي، في تناقض جذري معه، لكي تمهد لتطور محلي عبر دور مركزي للدولة بصفتها حامية من أخطار المنافسة الخارجية، ومن قوة سطوتها. وهذا ما يعطي الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء الأفضلية، حيث أن رؤيتها لتحقيق التطور تتجاوز الآليات التقليدية للتطور الرأسمالي.
وهذه هي المسألة الأساس هنا، حيث أن التحديد بأن الإقطاع هو المهيمن أو أن رأسمالية تابعة هي المهيمنة ليس مهماً فيما يتعلق بطبيعة الطبقات التي عليها أن تلعب الدور المركزي في تحقيق التطور. ففي كلا الحالتين البديل هو الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء وحزبهما، لكن في إطار تحالف طبقي واسع يقودانه. والماركسية تعطي المقدرة على فعل ذلك حينما تصبح أداة وعي وفهم، وبالتالي تحديد رؤى وسياسات.
كيف يطرح التطور الرأسمالي؟
طبعاً د.حبيب يطرح خياراً بديلاً من أجل التطور الرأسمالي الذي لا يجد مناصاً عنه، حيث يقر بأن الدول الرأسمالية تمنع التطور الذي يقتضي التصنيع والتحديث، من أجل تغيير علاقات الإنتاج نحو الرأسمالية. لكنه يشير إلى أن ذلك لا يعني أن هذا التطور غير ممكن نهائياً، خاصة وأنه “يمكن أن يتحقق في ظل المجتمع المدني، بالرغم من مقاومة الدول الرأسمالية في المراكز الصناعية”، عبر بلورة “رأسمالية وطنية”. ويعتقد بـ “أن مهمة النضال في سبيل تغيير البنية الاقتصادية الكولونيالية الراهنة تسمح بالتحول صوب المجتمع المدني الذي يفتح الطريق على التغيير المنشود”. هنا نلمس بأن التطور يتحقق في ظل المجتمع المدني، الذي لا يتحقق إلا بتغيير البنية الاقتصادية الكولونيالية، كيف ذلك؟ وما هو المجتمع المدني هذا الذي سيفتح الطريق نحو التغيير المنشود؟ المجتمع المدني هنا هو الذي يفتح على تغيير البنية الاقتصادية الكولونيالية، لكنه أيضاً نتيجة تغيير هذه البنية، أليس في ذلك شربكة لا معنى لها؟ وما هو هذا المجتمع المدني الذي يحمل كل هذه القوة؟
هنا ليس من حديث عن طبقات بل عن مجتمع مدني. إن تغيير البنية يسمح بنشوء “المجتمع المدني” إذا كان هذا يعني وجود الأحزاب والنقابات والنظام الديمقراطي. لكن يجب أولاً تحديد كيف يمكن أن تغير البنية الكولونيالية. فالمشكلة الأساس هي هنا. فمن يستطيع تغييرها؟ وكيف تتغير؟ القول بالمجتمع المدني لا يجيب على ذلك لأنه نتاج تغيير البنية. وخصوصاً في ظل كل هذا الانقسام الطائفي والمذهبي والديني والقبلي. التغيير لا يبدأ من المستوى السياسي وإن كان يتحقق بالسياسي. لأن البنية الاقتصادية الاجتماعية لا تؤسس لمجتمع مدني مستقر، وبالتالي يجب تغيير البنية أولاً.
أتخيل هنا الصيغة التي تُطرح، حيث تكون المشاركة في السلطة من قبل مختلف الأحزاب مجالاً لـ “تأثير” الشيوعيين وقوى الحداثة الأخرى لكي تُبنى الصناعة رغماً عن الرأسمالية، ويتحسن وضع الزراعة عبر الضغط من أجل إصدار القوانين، وتحسين دور القطاع العام وتحفيز القطاع الخاص. لكن هل يخضع الرأسمال لهذا الضغط؟ وهل يسمح أصلاً لهؤلاء بالضغط؟ هنا سنلمس بأن تجاهلاً يطال المصالح الطبقية للقوى المسيطرة في السلطة، وأن حسن صياغة الأفكار من قبل الشيوعيين ستكون كافية لكي تسحر تلك القوى وتجعلها تقبل أو تحسّن من السياسات الاقتصادية التي تمارسها الدولة. أليس في كل ذلك أوهام وردية؟
الموضوع هو موضوع صراع طبقات، وكل من سيطر على السلطة فرض برنامجه. وحين تهيمن المافيات كيف يمكن أن تفرض عليها تغيير العلاقات صوب الرأسمالية، وهي الأقوى على الأرض؟
إن منطق “المجتمع المدني” لا يفعل سوى المشاركة في سلطة تخدم طبقة مافياوية، والتي هي تفرض مصالحها من موقع القوة، وبالاستناد إلى قوة الاحتلال. وفي كل الأحوال فإن تكريس الرأسمالية كعلاقات، بمعنى سيادة الاقتصاد الحر، لا يجعل من الممكن أن يميل الرأسمال الخاص إلى التوظيف في الصناعة أ, حتى الزراعة، بل في التجارة والخدمات. وما دام هو السلطة فلسوف يفرض منطقه، بغض النظر عن ملاحظات وضغوط “العملية السياسية”، فهنا صراع مصالح وليس “شعور وطني”.
لكن، ولكي أتابع الحوار وفق ما يطرح د. حبيب أشير إلى أنه المهمات المطروحة هي مهمات وطنية ديمقراطية، ويعود إلى تاريخ الحزب الشيوعي ليشير إلى أنه كان يناضل من أجل انجاز مهمات مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية” ويقول أن مصطلح الثورة الوطنية الديمقراطية مفهوم ويعني انجازها في ظل سلطة البرجوازية الوطنية أو البرجوازية الصغيرة، أو في ظل سلطة الطبقة العاملة وفق واقع كل بلد من البلدان”. حيث أن “مهمات المرحلة الوطنية هي مهمات عامة وفي مصلحة كل طبقات والفئات الاجتماعية الوطنية، ابتداءاً من البرجوازية المتوسطة ومروراً بالبرجوازية الصغيرة والمدينية والفلاحين والطلبة والمثقفين، وانتهاءً بالطبقة العاملة”. ويكرر بأن المهمات هي وطنية وديمقراطية “تحققها كلياً أو جزئياً فئات اجتماعية عديدة”، “إذ يمكن أن تحققها البرجوازية المتوسطة أو الصغيرة أو الطبقة العاملة، لأنها مهمات عامة ومشتركة”. ويقول أنه في الرد السابق لم يبحث في “من ينفذ تلك المهمات”. لهذا يجب “تعبئة كل القوى السليمة، كل الفئات الاجتماعية ذات المصلحة بالتغيير والتحولات المدنية الديمقراطية وانجاز ما تعطل من مهمات في العقود السابقة”. لكنه هنا يشير إلى أنه لا يشترط ولا يحدد أن يكون الشيوعيون في الحكم. فليس بالضرورة أن تتحقق “تحت قيادة الطبقة العاملة وحزبها الشيوعي أو القوى اليسارية العراقية، إذ أن الحديث عن الاشتراكية وعن مثل هذه القيادة في المرحلة الراهنة حديث بعيد عن الواقع”.
أن تتشارك طبقات عديدة، وأن تتحالف، فهذا أمر ضروري، حيث أن المهمات المطروحة تتواشج مع مصلحة ليس العمال فقط، بل والبرجوازية الصغيرة والفلاحين، والفئات الوسطى عموما”. وبسبب ضرورة هذا التحالف يصبح طرح تحقيق الاشتراكية خاطئاً. لكن السؤال حول منْ يقود جوهري هنا. لأن المسألة لا تتعلق بأخلاقية معينة تحكم هذه الطبقات جميعاً بعيداً عن مصالحها. حيث يسعى كل منها لأن يكون هو في القيادة، وهو المهيمن. وهذا وضع طبيعي لأن كل منها يسعى إلى فرض مصالحه، ولا يسعى لتحقيق المهمات الوطنية الديمقراطية إلا بالقدر الذي يخدم هذه المصالح. لهذا يميل كل منها نحو التفرد. وفي التجربة العراقية ما يغني في هذا المجال، رغم أن ما جرى يفسر كأخطاء وربما فردية. حيث تفرّد عبد الكريم قاسم، ثم سيطر القوميون، والبعث، وهذه كلها تمثل الفئات الوسطى التي لها مصلحة في تحقيق المهمات الوطنية والديمقراطية. والسبب بيّن، حيث أن مصالحها تفرض أن تتفرد لكي تحقق السيطرة الاقتصادية. وهذه العملية تفرض تحطيم ما حققته هي ذاتها، كما شاهدنا، وكما أشار د. حبيب. هل نكرر التجربة مع فئات وسطى أخرى؟ أم نقبل التجربة مع المافيات التي باتت هي الحاكمة بعد الاحتلال؟ (والأمر مشابه في بلدان عربية أخرى غير محتلة مثل سورية ومصر). أم أنه بإمكاننا أن نختار فئات وسطى يمكننا أن نعطيها حسن سلوك؟ هذه هي طبيعة الفئات الوسطى، والتجربة العربية توضح دون لبس إلى أنه حتى الخيار الذي قادته الفئات الوسطى أوصل إلى الفشل الذريع.
طريق التطور اللارأسمالي:
يواجهنا د. حبيب بأن هذه التجربة مثلت حرقاً للمراحل وقفز عليها. حيث يعتبر بأن ما كان يتحقق هو الاشتراكية. حيث أنه جرّ على العراق الكثير من المشكلات. وهو يشير إلى أنه لم يكن مقتنعاً بأن هناك طريق تطور لا رأسمالي، لكنه كان يعتقد بـ “أنه يتحقق تحت قيادة الطبقة العاملة وحزبها الشيوعي فقط، إذ يمكن للبرجوازية الصغيرة أن تتخذ جملة من الإجراءات لكنها لا يمكن أن تقود النضال على هذا الطريق صوب الاشتراكية” حسب ما كتب في أطروحة الدكتوراه سنة 1968. وبالتالي فإذا كان لازال عند قناعته فإن التطور الذي جرى لم يكن اشتراكياً بل إجراءات برجوازية صغيرة. بمعنى أن شعار “معاً سنبني الاشتراكية” الذي طرحه بعض أعضاء القيادة في الحزب وليس كل الحزب، رغم أنه كان شعار المؤتمر، كان وهمياً إلى أبعد الحدود، حيث أن التحالف مع البعث، وتحت قيادته، كان في إطار تحقيق مهمات ديمقراطية، أو بعض المهمات الديمقراطية، التي كان الحزب يرى أنها خطوات متقدمة، ود. حبيب بات يعتبر أنها قفز عن المراحل، رغم أنها أبسط مما يجب أن يتحقق، في مجال الإصلاح الزراعي وفي مجال التصنيع، كما في مجال تحديث التعليم والمؤسسات.
إذن، من أين أتى وهم أن الحزب الشيوعي حاول “حرق المراحل بالفكر والسياسة”؟ الفكرة بأن البرجوازية الصغيرة تميل نتيجة صراعها مع الإمبريالية إلى التحول صوب الاشتراكية كانت خاطئة، لأن البرجوازية الصغيرة تسعى لأن تحقق مصالحها، التي هي مصالح رأسمالية. لكن الخطوات التي كانت تتحقق على الأرض كانت في إطار المهمات الديمقراطية، وبكفاءة متدنية. لهذا فإن البعث لم يكن يبني الاشتراكية بل كان يحقق عملية التطر الرأسمالي، وإنْ بأشكال أخرى غير الشكل التقليدي الذي بات من الماضي، أي عبر دور الدولة. لهذا فرّخت الدولة بضع مليارديرات (كما في التجارب الأخرى)، وعادت في كثير من البلدان إلى التخلي عن دور الدولة بعد أن باتت طبقة رأسمالية.
هنا فكرة القفز لا مكان لها، وكذلك فكرة المقارنة بالتجربة الاشتراكية. فهذه هي المحاولة ربما الأخيرة للتطور الرأسمالي، وإن كانت قد أفادت من أشكال تحقق الاشتراكية عبر دور الدولة. وهذه الاستعارة ضرورية مادامت الرأسمالية قد باتت نمطاً عالمياً. لكنها لا تلغي أن المحاولة هي محاولة تطور رأسمالي.
إذن، أين أخطأ الحزب؟ فقد كان مع التطور الرأسمالي منذ البدء ربما، وبات مع التطور “اللارأسمالي” الذي هو تطور رأسمالي كذلك. فقط بدا طرح الاشتراكية في هذه المرحلة الأخيرة مشوشاً إلى أبعد الحدود، لأنها باتت تساوي دور الدولة الاقتصادي أو التخطيط، أي تساوي المهمات الديمقراطية. لهذا يشار من قبل العديدين، ومنهم د. حبيب، إلى خطأ سياسة الحزب بموافقته على تحقيق الاشتراكية. دون لمس “المراوغة” الفكرية التي حولت خطوات ديمقراطية إلى تحقيق للاشتراكية. وبالتالي إلى هزال الفكر الماركسي الذي تاه في ألاعيب البرجوازية الصغيرة.
هنا إذا كان هناك مشكلات وويلات في التجربة فليست نابعة من أنها اشتراكية، بل من طبيعة الفئات التي باتت هي السلطة، مطامحها وآليات حكمها ومصالحها، وهي فئات وسطى كما أشرنا وليست “نبتاً شيطانياً”، وبالتالي فهذه هي مصالحها وسياساتها، ومن يرفضها يجب أن يفكر في بديل طبقي آخر غيرها. وهنا نشير إلى أن البديل الطبقي هو ليس الرأسمالية فهذه عودة إلى الوراء، وإعادة إنتاج لرؤية تكرس الواقع القائم، لأن ما هو قائم هو “النمط الرأسمالي” الممكن في الأطراف. وهو الأمر الذي يعني أن المهمات الديمقراطية لا تتحقق إلا بقيادة طبقية أخرى بعد أن أصبح واضحاً أن البرجوازية غير معنية، والفئات الوسطى هذه هي حدودها التي لمسناها في كل مسام من مسامات أجسادنا. هل نسمح بانتهاك أجسادنا مرة أخرى؟
هل أنه من الممكن أن يلعب العمال والفلاحون الفقراء هذا الدور؟ من الطبيعي أن لا تتعلق المسألة برغبات ذاتية، ولا بحلم هو وهم، فهذه ما لمسناه حين تناول خيارات التطور الرأسمالي، وأيضاً في ظل قيادة الفئات الوسطى. هذه هي الرغبوية، وتعليق الأحلام على ما هو مستحيل. لقد أظهرت التجربة الملموسة عربياً في العالم طيلة القرن العشرين أن كل خيارات التطور الصناعي الرأسمالي مسدودة، وهي إذا ما حققت بعض التقدم سرعان ما ينهار نتيجة المصالح الضيقة لهذه الطبقات.
لكن إمكانية الخيار لا تعني حتميته كذلك، لهذا فإن القول بأن تحقيق المهمات الديمقراطية بات مرتبطاً بدور العمال والفلاحين الفقراء لا يعني ألا نجيب على سؤال: كيف؟ أي كيف يمكن أن يصبح هؤلاء هم قيادة النضال من أجل تحقيق تلك المهمات؟ هنا ليس الحجم فقط هو الذي يحدد ذلك، رغم أن كتلة هؤلاء كبيرة، وربما تناهز نصف السكان، بل أن وجود الحزب المعني بتحقيق هذه المهمات، والمندمج بهؤلاء، والذي ينطلق من خوض الصراع الطبقي وليس “النضال السياسي السلمي”، والذي ينطلق من رؤية وإستراتيجية واقعيتين، ومعبرتين عن الظروف القائمة. هي كلها ضرورة من أجل أن يصبح ممكناً أن يلعب العمال والفلاحون الفقراء هذا الدور. خصوصاً وأن هؤلاء يمتلكون إمكانية التنظم والتماسك، وأيضاً التحالف مع كتلة أساسية من الفئات الوسطى (الفلاحون، والبرجوازية الصغيرة المدينية).
هذا الأمر هو الذي يفرض كل هذا الحوار حول إستراتيجية الشيوعيين ورؤيتهم، وبالتالي سياساتهم.
-3-
“السياسة هي فن الممكن”:
حينما ناقشت هذه المسألة في ردي السابق كنت أميّز بين المعنى البرجوازي لها وبين الفهم الجدلي الممكن لها، وإذا بالدكتور حبيب يشير إلى أنني رفضت الفكرة هذه لأنها فكرة برجوازية رغم صوابيتها كما يعتقد، معتبراً أنني أنحكم لمنطق شكلي يرفض “شيئاً صائباً لاعتقادنا بأنه برجوازي ليبرالي”، ومنها “الديمقراطية البرلمانية لأنها من مؤسسات الدولة البرجوازية”، ولا نعتبر أنها من “منجزات نضال وفكر الإنسان والعقل الجماعي للبشرية”. ليصل إلى التمني عليّ بأن أتخلى “عن الرؤية الضيقة للتراث الحضاري الإنساني”. شكراً لتمنياته، لكن كل ما قاله هو خارج الموضوع، لأنني لم أرفض الفكرة حول أن “السياسة هي فن الممكن” لأنها برجوازية، ولست ممن يرفض الديمقراطية البرلمانية كما يعتقد. أكثر من ذلك أعتبر بأن التراث الديمقراطي لعصر الأنوار هو مصدر أساسي من مصادر الماركسية، وأن ماركس وصل إلى الاشتراكية عبر طريق الديمقراطية. وبالتالي أظن بأنني أدافع عن الديمقراطية منذ عقود قبل انهيار الاشتراكية، وكانت احد نقاط نقدي للتجربة. لهذا لست ممن تسرّع إلى الدفاع عنها دون أن يعرف ماهيتها ككثير من تلبرل. وأيضاً لم أكن أربط بين الديمقراطية والحداثة عموماً كما كانت تفعل الحركة الشيوعية، حيث كانت ضدها لأنها برجوازية، ولا أربطها اليوم، ولهذا أدعو لأن يحقق الشيوعيون المهمات الديمقراطية. فأرجو من د. حبيب أن يعيد قراءة النص السابق لكي لا يركز الهجوم، ويصدر الأحكام على مواقف ليست لي، لكنه يلبسها لي، وعلى ضوئها يميل إلى “التشدد” في الرد بطريقة ليست مريحة له.
ما نختلف فيه هو المعنى المعطى لهذه الفكرة. أي ماذا يعني الممكن؟ وهل نتناوله وفق المنطق البرجوازي أم نعالجه وفق الجدل المادي؟ حيث عنت هذه المسألة في المنطق البرجوازي ممكنات الأحزاب في إطار قوتها الانتخابية، وبالتالي المكاسب الخاصة التي تؤهلها قوتها لأن تحصل عليها. وبالتالي كان ينظر إلى المسألة من زاوية السياسة فقط، الذي يعني التكتيك السياسي في إطار النشاط البرلماني. وبالتالي فإن الممكن هنا هو الحجم الانتخابي وليس أي شيء آخر. ما حاولت إيضاحه هو أن الجدل المادي يفرض أن نرى الممكن ليس بالحجم القائم بل بقدرات الطبقات التي نعتبر أننا ندافع عنها. وهنا ليس حجم الحزب هو الذي يحدد الممكن بل ممكنات دور الطبقات ذاتها. حيث أن النظر الماركسي ينطلق من وضع الطبقات ومن ممكنات فاعليتها، وبالتالي من علاقة الحزب بكل ذلك، ولا ينطلق من الحزب كذات مستقلة فقط.
يشير د. حبيب إلى “أن أي حزب يساري لا يمكنه أن يبني على الكامن من الطاقات والقدرات، بل على القائم منها لتحقيق المهمات”، وهو هنا يرد على ما قلته من قدرات في الواقع هي جزء من الممكن، هي قدرات العمال والفلاحين الفقراء وكل الطبقات المفقرة. وهو هنا يدخلنا في شربكة جديدة، حيث أن المسألة ستبدو وكأن الممكن هو الهدف الأساس، أي الإستراتيجية. الأمر الذي يجعل ما يجب أن نحققه كهدف هو ما تتيحه إمكانياتنا الراهنة. لهذا تتقلص الأهداف، وتصبح الإستراتيجية مبنية على تحقيق ما يبدو ممكناً الآن وراهناً، لا ما يمكن أن نحققه فيما بعد، وبعد مجهود في تطوير الصراع، وتعزيز القدرات، وتفعيل ما هو مكنون منها. وهذه الرؤية تجعله يطرح المسائل بحدة تناقضها: “إما السلطة أو لا شيء في العراق. وإما كل فلسطين أو الموت”. بالتالي هل يمكن أن نأخذ ربع سلطة في العراق، أو بعض فلسطين؟ أو أن المسألة هنا ستبدو كالتحاق بسلطة تمثل طبقة معينة من أجل “ترشيدها”؟ أو التنازل عن معظم فلسطين لكي نطالب (وليس نأخذ) بعضها؟ هذه عقلية “إقبلْ ما يلوح لك” وليس عقلية ماركسية تنطلق من الجدل المادي.
وبالتالي فما نختلف فيه في المعنى المعطى لهذه الفكرة ثانياً هو: هل أن الممكن يحدد الإستراتيجية أم يحدد التكتيك؟ أي هل تبنى الإستراتيجية على الحجم الراهن للحزب أم على وضع الطبقات ذاتها؟ وهذا يعمق الخلاف مع د. حبيب، حيث تصبح مسألة معنى الإستراتيجية، وكيف تتحدد، مطروحة للنقاش.
كيف نحدد الإستراتيجية؟ على ضوء فهم التناقضات، وليس على ما هو ممكن. نحن نتناقض مع الوجود الصهيوني ليس كونه قد أقام كياناً استيطانياً في فلسطين على حساب سكانها فقط، وهذه مسألة كافية وحدها، لكن أيضاً لا يمكن أن نراه إلا كونه جزء من مشروع إمبريالي للسيطرة على الوطن العربي. هذا تناقض أساس، وهو الذي يحدد الإستراتيجية. هل نستطيع مواجهته الآن، وهزيمته؟ لا طبعاً، لكن ذلك لا يدفعنا لأن نقبل ما يبدو أنه ممكن، بل يدفعنا إلى البحث عن كيفية تطوير قدراتنا وتعظيم قوتنا. وفي سياق هذا الصراع نتعامل وفق الممكن، لكن فيما يتعلق بطبيعة الصراع وحدوده، وليس في قبول ما نتوهم أنه ممكن الآن، أو بعد قرن. وهنا فن الممكن يتعلق بالتكتيك وليس بالإستراتيجية.
في العراق هناك احتلال، ولاشك في أن ميزان القوى مختل إلى حدّ كبير، لكن أين هو التناقض الرئيسي، وكيف نحله عبر تطوير الصراع بتطوير قوانا. وليس بقبول مشاركة في سلطة احتلال، ورفض المقاومة من حيث المبدأ، وليس المقاومة الراهنة فقط، التي يمكن نقد كل بنيتها وطبيعتها ودورها، ولقد فعلت ذلك منذ بداية سنة 2004 وبعد ذلك. طبعاً أشير إلى ذلك لكي لا ينحرف الحوار إلى إتهامي بدعم الإرهاب كما يجري عادة حين تجري الدعوة إلى المقاومة ضد الاحتلال. بمعنى أن الموقف من الاحتلال، والعمل على مقاومته لا يتوقف على القدرات الراهنة لحزب ما، بل ينطلق من أنه أساس التناقض الموجود، والذي يدفع قطاعات متسعة من الشعب لمقاومته. مهمة الحزب هي تنظيم هذه المقاومة، وتطويرها. هنا تلعب القدرات دور في تحديد الأشكال، ولكن مع دراسة كيف تتطور؟
وبالتالي فإنني أختلف مع د. حبيب في الإستراتيجية بالأساس. وهو الخلاف الذي كان قائماً مع الأحزاب الشيوعية منذ زمن بعيد، حيث انطلقت ليس من تغيير النظم، وتحقيق المهمات الديمقراطية، بل من “النضال الديمقراطي السلمي” لتحصيل بعض الحقوق المطلبية والديمقراطية. ولقد كان دورها هو التغيير وتحقيق المهمات الديمقراطية، أي قيادة النضال من أجل هيمنة طبقية جديدة للعمال والفلاحين الفقراء، ومجمل الفئات الوسطى. هل كانت تستطيع ذلك؟ لكن لماذا لا تستطيع؟ وهل كان حزب البعث أكثر قوة وتأثير منها؟ لا في الشارع ولا في الجيش.
وهذا يوصلنا إلى ما طرحته نهاية الفقرة السابقة حول ممكنات أن يستطيع العمال والفلاحون الفقراء لعب دور أساسي في تحقيق المهمات الديمقراطية. الحزب الشيوعي ينطلق من الصراع الطبقي، وبالتالي من مدى التناقض بين الطبقات الشعبية والرأسمالية الحاكمة. وهو لن يستطيع الوصول إلى السلطة إذا كانت الطبقات الشعبية ليست في تناقض مع السلطة القائمة، لكنه ليس مفروضاً عليه أن يقبل هذه السلطة، بل عليه أن يتحضر لمرحلة تتفاقم فيها الصراعات الطبقية. ومهمته في ذلك هي تنظيم وتطوير هذه الصراعات. وهو هنا يقيس قوته، ليس بذاته، بل بمدى مفاقمة الصراع الطبقي. لكن حينما لا يسعى الحزب إلى التغيير فلسوف يعمل على طرح مطالب معيشية أو ديمقراطية، ويسعى لـ “التفاهم” مع النظم لكي تقبل بنظام برلماني، بغض النظر عن موقف العمال والفلاحين الفقراء من النظم هذه. طبعاً أنا هنا ربما كنت أوصّف ما كان يجري، ويجري، حيث إنبنت الإستراتيجية الشيوعية على المطالبة فقط، على طرح “مطالب بسيطة” لكي يكون ممكناً تحقيقها، لكنها لم تتحقق أبداً. فلأنها “بسيطة” فهي لا توحد قوى قادرة على فرضها عبر التغيير.
المشكلة هنا هي أننا نتناول أبجديات الصراع الطبقي التي يبدو أنها من الماضي، وأيضاً لم تُفهم عندنا، الأمر الذي عزز ممارسة النضال المطلبي وليس الصراع الطبقي. وأيضاً عزز المطالبة والمناشدة والاستناد إلى المساومات ولم يعزز النضال الوطني والمقاومة (التي تتضمن مساومات لكن بعد تغيير ميزان القوى). لهذا كان يكبر الحزب لكن أحلامه تبقى صغيرة، رغم أن العكس هو الضروري، حيث يجب أن تكون أحلامه كبيرة وهي صغير لكي يستطيع التحوّل إلى قوة تغيير. هذه العملية مرتبطة بفهمه للصراع الطبقي.
عودة إلى فلسطين:
أولاً، بالنسبة لرأي الرفيق فهد فإضافة إلى استنادي لكتاب سالم عبيد النعمان فقد أوردت نص الرسالة التي بعثها الرفيق فهد كما هي منشورة في الطبعة اللبنانية من “كتابات الرفيق فهد”، والتي لم تستوعبها طبعة بغداد (وكلتاهما في حزيران 1976). وهو الموقف الذي لم يغيره.
د. حبيب يلجأ إلى أسلوب ملتوٍ حينما يناقش الموقف من قضية فلسطين، ويعتمد شكلاً من أشكال “التشويه”. لهذا حينما الحديث عن إزالة الدولة الصهيونية يلصق هذه المسألة بالقوى القومية والقوى الإسلامية من باب الشتيمة كونه يعتبر أنها شوفينية واستبدادية وظلامية. المشكلة تكمن في أن هذه القوى لا تطرح إزالة إسرائيل بل التفاوض معها، حتى القوى الإسلامية. ولا تعمل على إزالتها بل على “التعايش” معها كما يطالب د. حبيب بالضبط. وربما كان يغترّ ببعض التصريحات، أو يصدّق بعض الأحاديث، لكن الواقع يقول بأن هذه النظم اعترفت بالدولة الصهيونية، وتطالب ببعض الحقوق فقط، كما يفعل. وبالتالي أتمنى أن يناقش الأفكار بعد تحويل المسألة إلى ما يشبه الاتهامات: فهل من حق الشعب الفلسطيني أن يحرر أرضه؟ وهل من حق العرب أن يواجهوا دولة هي جزء من مشروع إمبريالي من أجل ضمان السيطرة على الوطن العربي؟
يؤسفني بأن أشير إلى أن د. حبيب يتعامل بمنطق مفرط البساطة، حيث يعتبر أن الدعوة إلى إزالة إسرائيل تبقي “الجمرة مشتعلة”، ونزيف الدم مستمر، لتتصاعد الكراهية والحقد والموت. حيث ستبدو المسألة وكأن هناك من يريد تأجيج نار الحرب، وليس أن وجود الدولة الصهيونية هو الذي يفرض ذلك. وليس تشريد شعب، والاعتداءات المستمرة هي التي تدفع هذا الشعب إلى المقاومة. هذه نظرة من لا يريد أن يرى، من ينطلق الاعتراف النهائي بوجود الدولة الصهيونية، وبالتالي التكيف مع ذلك، والقبول بما تطرح خشية تأجيج نار الحرب والحقد، ومن أجل “التعايش” و”السلام”.
لهذا لا يرى سوى حماس، فقد دمرت القوات الصهيونية مخيم جنين في ظل سلطة ياسر عرفات وموافقته على أوسلو. ودمرت المقاطعة على رأسه ولا أحد يشك في أنه كان يريد “السلام”. حماس نجحت في انتخابات ديمقراطية ليس لأنها إسلامية بل لأن ما تفعله الدولة الصهيونية يدفع كل الشعب إلى القتال ضدها. ويبدو أن د. حبيب لا يتابع ما يجري على الأرض، ولا يلمس “مزاج” الشعب الفلسطيني، إذا كان لا يريد أن يعرف طبيعة الدولة الصهيونية ودورها الإمبريالي.
هنا ماركسية د. حبيب نائمة، حيث يقبل احتلال الأرض، والتنازل عنها، وتشريد الشعوب، والقبول بما يرفضه الشعب ذاته. لهذا نراه يطرح ما يتكرر يومياً من كل الذين يرفضون المقاومة من النظم، والأحزاب: “يجب على إسرائيل أن تنصاع لقرارات مجلس الأمن الدولي”، شكراً، لكن إسرائيل فوق القانون الدولي وكل قانون، وهي مدعومة من قبل كل الدول الإمبريالية في كل ما تفعل، إذن من سيجعلها تنصاع (كلمة مفخمة تخيف إسرائيل)؟ وهي لذلك تفرض ما تريد، حتى كل تنازلات القيادة الفلسطينية لم تسعفهم الحصول على شبر مستقل. وإذا افترضنا أنه يجب أن تنصاع لهذه الحدود من المطالب، لا بد من قوة تفرض عليها ذلك، ألا يدلنا د. حبيب على هذه القوة؟ وكيف تتكون؟
ويكرر أيضاً: “والموقف الذي يفترض أن تتخذه الإدارة الأميركية الجديدة يتلخص بالتخلي عن الانحياز المطلق لإسرائيل”، لكن هل هو انحياز أم أن إسرائيل هي جزء عضوي من أميركا الإمبريالية لها دور أساسي في السيطرة على المنطقة؟ أو أن أميركا لا تهدف إلى السيطرة على المنطقة ونهب نفطها والتحكم بأسواقها؟ ألم يوضح احتلال العراق ذلك؟ أخشى أن يكون التحليل الطبقي في خبر كان، وبالتالي تعامل المسائل من منطلق أخلاقي!!
هذه هي فكرة “السياسة فن الممكن” كما تتجلى لدى د. حبيب، أن نقبل بالمحتل وأن نبقى نطالب لعقود جديدة. من قال أن الدولة الصهيونية بات لها الحق الشرعي بالاستمرار؟ ميزان القوى أو حق تاريخي ما؟ ومن قال أن المفاوضات تجدي إزاء قوى مصلحتها تتمثل في النهب والسيطرة؟
من الواضح بأن كل الأفكار الماركسية عن الاستقلال والمقاومة ورفض الاضطهاد والتحرر باتت قديمة، عفا عليها الزمن، ومن القرن الماضي. لكن آلام الشعوب ليست من القرن الماضي بل لازالت قائمة.
حينما أشرت في عنوان ردي الأول إلى “منظور العقل الليبرالي” كنت أقصد كل هذا الميل لقبول العدو، والتكيف مع سياساته، وترداد مفاهيمه من فئات كانت قبل انهيار الاشتراكية تطرح الموقف السوفيتي بالطريقة ذاتها، فتكرر النغمة ذاتها دون لحن، وتتهم المختلفين بالفوضوية وحتى الإمبريالية فقط لأن لهم ملاحظات على التجربة الاشتراكية. لكن على الأقل كانت الأفكار العامة وقتها لها وجهة تقدمية تحررية، لكننا الآن في وضع مأساوي، حيث باتت كلمة صراع تستثير الحنق، وكلمة مقاومة تستثير كل أشكال الاتهام، وكلمة وطن كل أنواع الاتهام بالشوفينية. وكلمة صراع طبقي كل أنواع الاتهام بالتخلف عن فهم “روح العصر”.
لهذا منذ أن بدأت الولايات المتحدة الحديث عن الخطر الإيراني بات هذا خطراً واقعياً لدى الليبراليين، رغم أن أحداً منهم لم يتطرق إلى ذلك قبلئذ. وباتت إيران هي العدو الأول. أما من يحتل العراق فهو احتلال نتفاوض معه من أجل وضع العراق وليس من أجل الانسحاب. وأما الدولة الصهيونية فهي مظلومة لأن حماس تريد إذكاء الصراع. ومسكين الشعب الفلسطيني لأن حماس تجره إلى صراع لا ناقة له فيه ولا جمل.
لقد استقبل سكان الضفة الغربية وقطاع غزة ياسر عرفات استقبال الأبطال حينما عاد بعد أوسلو، لكنهم اكتشفوا الوهم بعد سنوات قليلة، حيث لم يتوقف الاستيطان، ولا زال الحصار والتضييق، ولم تصبح هناك سيادة. إضافة إلى كل الفساد الذي أتت به السلطة. فلماذا يظل هذا الشعب مصدقاً أنه يمكن تحقيق السلام مع الدولة الصهيونية؟ إنه يرى بعينيه كيف أن الأرض تتلاشى بفعل السيطرة اليومية عليها والتضييق يتزايد. هذا الوضع يجعل الطفل يقتنع بأنه ليس من تعايش ممكن مع هذه الدولة. وأن القتال ضدها أمر ضروري، لأنها تخنق بشكل يومي، وليس لأنها “مسالمة” و”خدومة”. لقد رفض د. حبيب قمع واستبداد صدام حسين، وحارب نظامه بـ “الكفاح المسلح”، ولقد أفاض في توضيح ذلك، لكن لماذا لا يقبل ذلك من الشعب الفلسطيني، ويريده أن يقبل بواقعه؟ ولماذا لا يريده للشعب العراقي الذي بات يئن تحت نير احتلال غاشم ومدمر؟ من يرفض القمع والاضطهاد والاستغلال لشعب يجب أن يرفضه لكل الشعوب. ومن يقاوم الاستبداد يجب أن يقاوم الاحتلال.
أخيراً، لقد كانت سياسة الأحزاب الشيوعية هي هذه التي يطرحها منذ سنة 1948 لكن هذه الأحزاب كانت غير مقبولة من هذه الزاوية، وفي فلسطين تقلص الحزب إلى هامش. ويتحدث عن “فن الممكن”، وعن ضعف قوانا. طبعاً سوف تبقى ضعيفة لأن إستراتيجيتنا لا تنطلق من الواقع بل من أحلام في “السلام” كما كان يعمم الرفاق السوفيت، ومن القبول بميزان القوى الدولي كما كانوا يؤسسون سياساتهم. ورغم صحة تلك السياسة لهم لأنهم دولة فإن هذه السياسة ليست صحيحة لشعوب تئن تحت نير الاحتلال. إن أخطر ما فعله الرفاق هو أنهم ربطوا سياسة الأحزاب الشيوعية بتكتيكاتهم، وبالتالي فرضوا عليها عدم خوض الصراع، ورفض المقاومة، خصوصاً في فلسطين، لأن ذلك يتعارض في تلك اللحظات مع تكتيكاتهم، لكن الرفاق تعودوا على هذا النمط من “الصراع” ولا يريدون تغييره رغم كل ما يقولون بأنهم ينقدون سياساتهم الماضية، وأنهم يبنون سياسات جديدة، لا نلمس سوى أنها السياسات القديمة ذاتها.
لسنا من اختار الصراع، بل نولد في خضمه، ليكون أن نختار خوضه أو الهامشية. الصراع الطبقي ليس من اختراعنا، إنه موجود في الواقع، وعلينا أن نحدد دورنا فيه فقط. كذلك الصراع ضد الإمبريالية، حيث لم نذهب نحن إلى “عقر دارها” بل هي التي تزحف وتستعمر وتسيطر وتفرض سياساتها والنظم العميلة لها. وهي التي فرضت وجود الدولة الصهيونية ليس حلاً للمسألة اليهودية بل من أجل أن يكون هؤلاء جيش محارب لها في الوطن العربي.
سيقول د. حبيب “فن الممكن”، لكن فن الممكن ينبع من تحديد آليات الصراع هذا، وليس من تقزيم ما نطرح، وقبول ما يفرضون، أو بعضه، بحجة كسب ما تبقى. فن الممكن يتعلق هنا بكيف نخوض الصراع وننجح. بكيف نطور قوانا لكي نحقق أهدافنا لا أن نقبل أول مساومة تعرض علينا.
وبالتالي قبل الحديث عن القدرات وميزان القوى يجب تحديد السياسات والإستراتيجيات تحديداً صحيحاً، لأن ذلك هو الذي يحول الأحزاب الصغيرة إلى قوة كبيرة، بفعل تعبيرها عن الصراع الطبقي، والصراع الوطني، وليس التسارع في المشاركة في سلطة هي سلطة احتلال، ولا التوهان في مفاوضات عبثية واضح أنها لا تأتي بشيء. ولا إتباع خطاب ليبرالي مشوه لأننا نريد التخلي عن خطاب يساري ماركسي يطرح صراع الطبقات، ويعرف كيف يحسب موازين القوى.
آمل ألا تظل المسألة هي مسألة حماس وإيران وسورية وحزب الله، هؤلاء ربما يكونوا طارئين، لكن الصراع ليس طارئاً، وحين نتخذ موقفاً فيه خاطئاً ليس من حقنا أن نلوم أحد.
نشرت على حلقات في الحوار المتمدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى