الطاهر إبراهيم: أمراجعة أم تشويه سمعة؟
محمد حاج صالح
يكتب السيد الطاهر إبراهيم رداً على مقالي المنشور في صحيفة الحياة عدد 8/1/2009 وينشر الأستاذ مقاله في عدد من المواقع الإلكترونية، وعملاً بحق الرد أتمنى على هذه المواقع نشر ما أكتبه الآن.
بدءاً وكأي إسلاموي يمتهن الدين ويستخدمه عتلة في السياسة، ينصب السيد الطاهر نفسه وكيلاً حصرياً لله، فيشرع بإظهارمعرفته بالنوايا وما تكنه الصدور، وبإحاطته الكلية بما يفكر به الناس، وما يريدون ولا يريدون. فهو يُجلس نفسه على كرسي الرغبة في الفصل بين الصح والخطأ. هو من يعرف العرف العام “وكأنه لوح محفوظ!” وهو من يعرف المخالفين و المنسجمين مع هذا ” العرف العام!” ليتم القول “إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم لمقتدون”. هو هو ولاأحد غيره من يعرف الذوق السليم، حتى ليتخيل المرء أن للأستاذ مسطرة يستلها من جيبه متى أراد القياس. أو لربما كان كيساً وليس مسطرة، من يدري!
من موقعه على كرسي الحكم الإلهي( صنو النصر الإلهي!) يرى الأستاذ فيّ ما لم يخطر لي على بال، أي أنّ بصر وكالته الحصرية يتيح له أن يرى ما بعد الغيب. يقول الأستاذ: ” يحاول البعض نفض غبار النسيان عن نفسه، فيركب الطريق الخطأ للشهرة، فيبحث عن موضوع يصلح أن يكون سلما للشهرة، فيعصر ذهنه حتى يقول في فم ملآن: وجدتها!”. المقصود هنا هو أنا، يا لك من عالم بالغيوب يا أستاذ! ثم تقيس مسطرته أو كيسه أو جرابه عقدتي النفسية بكلمات كهذه ” بما يتمتع به الإنسان العربي الخالي من العقد النفسية التي تنغرس في نفوس بعض العرب المهاجرين إلى أوروبا من أمثال كاتبنا الفذ”. ليس لدي من تعليق هنا إلا نفثة إخواننا المصريين عندما يعجبون:(يا وَلَه!)
المشكلة بيني وبين الأستاذ تقع في أنني أحاول استخدام العقل، وهو يريد استخدام العاطفة الهائجة. أنا أريد استخدام علم الاجتماع وعلم النفس وعلوم القوانين والحقوق، أي العلوم الدنيوية،في قضية محددة هي مخاطبة الرأي العام الأوربي، وتحديداً منه الأكاديمي. والمناسبة هذه المرة كانت استشهاد نزار ريان في العدوان الأخير. الأستاذ يريدنا أن نخاطب هذا الوسط بعلومه الدينية. نحن الاثنين نتكلم بمنهجين مختلفين عن قضية واحدة. أنا أريد الاستفادة النسبية من القول العربي “لكل مقام مقال”. والأستاذ يريد سحب مفهوم حزبه، أو جماعته، أو بلدته على أوساط لا يهمها إلا العلم والشيء اليسير أو الكثير ما يمكن تسميته بالموقف الإنساني. هنا سأضرب مثالاً يظهر الفارق الحاسم بين المنهجين، فلعل المعنى يصل إليه فوق كرسيه.
المثال: كما هو معلوم خرجت مظاهرات عديدة في النرويج، البلد الذي أعيش فيه، احتجاجاً على العدوان الإسرائيلي. وفي المدينة التي أسكن قمنا بمظاهرة مرة، واعتصام مرة أخرى. أما في العاصمة أوشلو فقد خرجت عدة مظاهرات في أيام مختلفة. الداعمون لنا والمشاركون من النرويجيين ينتمون بأكثريتهم إلى حزب اليسار الاجتماعي، وهو حزب اشتراكي علماني ديمقراطي من أصول شيوعية قديما، يحوز على ما بين 7- 11% من أصوات الناخبين. وكذلك بعض المنتمين للجمعية الانسانية، وهم اللادينيون، وقليل من المسحيين المتدينين ممن تجرحهم مظاهر القتل، وبعض الشباب الذين تعجبهم الكوفية الفلسطينية، ويرون فيها رمزاً للاحتجاج. المظاهرات، كما هو معلوم، حققت عموماً غرضها، فلأول مرة في النرويج تفتح وسائل الإعلام أبوابها للمتعاطفين مع الفلسطينيين بلا تحفظ يذكر. ولعل المرء يتذكر الطبيبين النرويجيين الذين لعبا دوراً في نخز الرأي العام الأوربي بمسلة حادة. المهم كان جزاء أولاء أن يهتف البعض منا هنا وفي النرويج:
“خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سوف يعود”. أرأيت؟ والأدهى أن قلة عابثة، حطمت واجهات محلات وفنادق واشتبكت مع الشرطة، استطرادا مع روح الهتاف. وكأن خيبر حاضرة هنا والآن. هل هنا مقام هتاف كهذا إن كان لهذا الهتاف من مقام على الاطلاق؟
المشكلة التي يعرضها الأستاذ بقلة أمانة هي أنني لم أر أن في شخصية الشهيد نزار ريان إنموذجا يستدعي عملاً دعائياً وسياسيا في الوسط الأكاديمي الأوربي للأسباب ذاتها التي جعلت أعصاب الأستاذ الطاهر تنقرص. نعم، فهو زوج لأربع نساء وأب لإثني عشرة ولداً وبنتاً، ولا يمكن لأكاديمي ناجح أن يوفق بين إعالة ست عشر نفساً وإخلاصه للعلم، فهو إما أكاديمي غير ناجح أو أب وزوج فاشل. وهو في كلا الحالين غير صالح لعمل دعائي سياسي يستهدف أكاديميين. هذا إضافة إلى عمله كعسكري وكسياسي المنافي للميل الأكاديمي. شيء كهذا لا يفهمه الأكاديميون الأوروبيون ولا يمكن أن يتعاطفوا معه، هنا بالضبط وجهة اعتراضي. قلة الأمانة عند الأستاذ تتجلى أنه جعل وكأن هدفي هو الانتقاص من الشهادة، يعني مرة أخرى يستخدم الحنجرة بدل إعمال العقل. الرجل يتكلم عن مطلقات تحيل المرء إلى الآخرة والجنة، هذا حقه، وأنا أتكلم عن المحسوس والعادي والحقوق في الدنيا، وعن رجل اسمه فلان، ونشاط انساني اسمه عمل دعائي سياسي، وهذا حقي. ما يهمني هنا في كتاباتي في الصحف النرويجية ونشاطاتي المتنوعة هو الإنسان وحقوقه في الدنيا، أما حقوق البشر وواجباتهم في الآخرة وعلى عتبتها فهي ليست من اختصاصي على الاطلاق. فليتكلم عنها الأستاذ الطاهر وليكتب ما يريد، ففي الدنيا متسع ومراح حتى للكتابة عن تفاصيل الآخرة، وحتى عن تعدد الزوجات والمباهاة بكثرة الأولاد المؤدية إلى كسب الأجر والفوز بالجنة.
واضح أن الأستاذ يميل سياسياً للتيار الإسلامي الفلسطيني، كما يحب أن يسمي. والحال إن المرء ليجد نفسه مضطراً للقول أن لا حماس ولا عباس يمكن أن “يعبئوا الراس”. الجماعة يتصارعون سياسياً ويقسمون فلسطين الصغيرة إلى إمارتين، ويتهافتون على خدمة سياسات لا تخدم شعبهم وبلدهم، وعيونهم على مال المساعدات وعلى أيهم سيحصل عليها. بئس الصراع. في كل العالم للناس حقوقٌ باتت مبتوتة، من إعمار مدرسة إلى الترشيح لرئاسة البلاد، وفي فلسطين وبلادنا حتى حق الحياة فيه نظر. هل سأل أحد أولاء الـ1400 شهيد عن رغبتهم في أن يموتوا الآن؟ أما آن الآوان أن نرى الفلسطيني العادي(لا عباس ولا حماس) والذي يحب أن يعيش ويتعلم ويسافر ويسر في حياته قبل مماته؟ أم أن الفلسطيني الجميل هو القتيل أو الشهيد الذي عليه يقع إثبات أن إسلامويينا وفسدتنا على حق؟ وياله من إثبات! لا بل وعلينا أن لا ندقق فيما إذا كان المتوفى، أي متوفى، شهيداً أم قتيلا مثلما يأمر الأستاذ عملا بالتوجيه “اذكروا محاسن موتاكم”. فماذا عن “شهيد/قتيل على درب المطار، يسوق سيارته بسرعة جنونية”؟ أعلينا أن لانتساءل إن كان شهيداً أم كان قتيلا؟ أم… أجل علينا أن لا نفعل كما يرغب الأستاذ، لا بل علينا أن نذكر محاسنه. وماذا عن طغاتنا المتوفين الذين ذبحوا وقتلوا سحلوا وذوبوا بالأسيد واعتدوا على الأخوات والأمهات أمام المعتقلين وجلّهم من تيار(ه)؟ أعلينا أن نسبح بحمد ذكر محاسنهم. يا باطلْ. أهذه ثمرة مراجعة سياسية تلوح في الأفق، ويعمل عليها إخوان مصر ومشعل؟ وارد. ولكن على الأستاذ وغيره أن يكفوا عن ألعاب تشويه السمعة ساعة تبشم الحجة أفواههم، فهذا رهان خاسر.
سأعرض صفحاً عن تعابير الوضاعة التي يتوسلها الأستاذ، وأثبتها هنا، لعله وعقلاء من تيار(ه) يجرون مراجعة، مادام الموسم موسم مراجعات:
– كما فعل “حاج صالح” وغيره من العرب الذين هاجروا طلبا للمال في أوروبا
– لكنه الحقد وقد ملأ حنايا صدره على الشهيد.
– يختلق “محمد حاج صالح” حوارا مع صديق يساري يعيش في أوروبا
– لقد بلغت الضحالة عند “حاج صالح”
– لنقل: إن عيني “حاج صالح” التي اعتاد أن يرى بهما سفاسف الحياة لا تقويان على إبصار كل ما هو عظيم وسامٍ من منازل الشهداء الأبرار.
– الإنسان العربي الخالي من العقد النفسية التي تنغرس في نفوس بعض العرب المهاجرين إلى أوروبا من أمثال كاتبنا الفذ.
– أما إذا كان له خصومة مع الإسلاميين في سورية، فليقلها بصراحة، ولا يختبئ وراء شهيد من شهداء الأمة، لتصفية حسابات قديمة، فإن هذا مما يمقته الذوق العام، وتأباه المروءة.
تعليقاً على البند الأخير أقول: يبدو أن بهرة المراجعة والرغبة الجامحة في تشويه السمعة جعلت الرجل ينسى، ربما لا يعرف، أن محمد حاج صالح وتيار(ه) وحلفاءهم عملوا على أن يحظى الأستاذ الطاهر وتيار(ه) بحق الاعتراف بهم سياسيا، مثلما عملوا على إلغاء قانون 49 القاضي على أمثاله بحكم الإعدام، وهم من كان لهم تأثير على كل المعارضة السورية في قبول الأستاذ وتيار(ه). هذه ليست منة، وإنما هي فهمنا للعمل السياسي ولبناء بلدنا سلمياً. فشكراً لهذا الرد “الأخلاقي!” لذياك الجميل.
أخيراً وبالمناسبة الدائمة في المزايدة على فلسطين والتي تصدح بها حناجر البعض، كالأستاذ، أخبره قصة صغيرة. في عام 2002 وأثناء حصار وتدمير مخيم جينين، خرج رجل وحيد في مدينة الرقة في مظاهرة، ولوحده، بعد أن ألصق فمه بلاصق عريض، وحمل لافتة من كرتون كتب عليها كلمتين فقط: “كفى صمتاً”. المظاهرة المؤلفة من رجل واحد، هي أول مظاهرة لا توافق عليها السلطة ولا ترخيص لها منذ عام 1967 أي ما يقترب من أربعين عاماً. فيما بعد التحق به صديقان، ثم جمع من الناس. هذا المتظاهر الوحيد هو محمد حاج صالح.
الحوار المتمدن