إسرائيل بصدد إدارة الصراع لا تسويتـه
أنطوان شلحت!
لعل أحد أبرز الأسئلة المطروحة الآن هو: كيف ستؤثر نتائج الانتخابات الإسرائيلية العامة، في العاشر من شباط 2009، واحتمـال تأليف رئيس “الليكود” بنيامين نتنياهو الحكومة الإسرائيلية المقبلة، بحسب ما تؤكد استطلاعات الرأي العام، على مستقبل “العملية السياسية” الشرق الأوسطية والمفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين؟
وفقا لبرنامج نتنياهو السياسي المعلن، والذي لا بُدّ أن يشكل أساسا لبرنامج تحالفه الحكومي، سواء أكان هذا التحالف يمينيا صرفا، أو يضم حزب “العمل” أيضا، وهو احتمال غير مستبعد بتاتا، فإن الأجواء العامة في الوقت الحالي ليست مواتية للمفاوضات السياسية مع الفلسطينيين بموجب “معادلة أنابوليس”، التي اعتمـدت منذ تشرين الثاني 2007. والمقصـود، بطبيعة الحال، معادلة المفاوضات التي تضع نصب عينها أن تتمخض عن اتفاق بشأن الحل الدائم. وبناء على ذلك فإن المطلوب هو أن تركز إسرائيل جهودها في غاية واحدة ووحيدة، هي “رفع مستوى معيشة الشعب الفلسطيني اليومية”. وبصورة خاصة، يجب مساعدة هذا الشعب على تطوير اقتصاده بشكل سريع. وفي قراءة رئيس “الليكود” فإنه على الرغم من أن هذه الخطوة، بحد ذاتها، لن تؤدي إلى نهاية الصراع، إلا أنها قد توجد أجواء تتصاعد من خلالها احتمالات نجاح المفاوضات السياسية بشكل كبير. وقد اصطلح على تسمية هذا البرنامج بـ “السلام الاقتصادي”.
ومن المعروف، من ناحية أخرى، أن رئيسة “كاديما” ووزيرة الخارجية، تسيبي ليفني، تتطلع في المقابل إلى الاستمرار في المفاوضات السياسية، لكن وفق رؤيـة كانت سائدة منذ انطلاقها، وفحواها جعل المفاوضات ذاتها الأمر الجوهري بدلا من أن تشكل النظام أو الأداة التي توصل إلى التسوية.
قد يكون المـؤدى المباشر لذلك كله هو العودة إلى إدارة الصراع، بمنأى عن غاية تسويتـه. وقد سبق لأكثر من مراقب للسياسة الراهنة في إسرائيل أن اتفقوا على أنه منذ اندلاع انتفاضة الأقصى والقدس في أيلول 2000، انتقل المفهوم الإسرائيلي للصراع من عملية التسوية، التي بدأت بالتزامن مع عملية أوسلو في بداية التسعينات من القرن العشرين، إلى عملية إدارة الصراع. وفيما كانت تسويته تستهدف التوصل إلى اتفاق على حل وسط بين الطرفين، فإن إدارته تُعتبر بمثابة خيار افتراضي، اضطراري، طالما أنه لا يمكن تسويته. وهي [إدارة الصراع] عملية تهدف بالأساس إلى الحدّ من العنف أو حتى وضع حدّ له، وذلك لضمان استئناف العملية السياسية.
في هذا السياق ولدت، أيضا، الرؤية الإسرائيلية بشأن “إدارة الصراع من طرف واحد”، خاصة طريق الفصل والانفصال. واعتبرت في حينه بمثابة انتصار للرؤية التي ظهرت عقب فشل العملية السياسية في تموز 2000، وتعززت بعد اندلاع الانتفاضة (الثانية) ولا سيما من إثر صعود أرييل شارون إلى السلطة في شباط 2001.
وقد استندت “رؤية الانفصال من جانب واحد” إلى بضع فرضيات أساسية أهمها:
• عدم إمكان المحافظة على الوضع القائم [الستاتيكو] الإقليمي والسياسي والعسكري سوى في مقابل ثمن باهظ للغاية.
• من دون فصل وفك ارتباط يمكن “التهديد الديموغرافي” أن يشكل خطرا على إسرائيل كدولة يهودية، كما أن من شأن الانفصال أن يؤدي إلى الحد من العنف.
• من دون مبادرة إسرائيلية ستظهر مبادرات سياسية [بما في ذلك “خريطة الطريق”] يُحتمـل أن تشكل خطرا على إسرائيل.
ويذكر الجميع أن الإدارة الأحادية الجانب للصراع، أو حتى صيغة تسوية أحادية له، شكلت أولوية عليا لدى رئيس الحكومة الإسرائيلية الحالية، إيهود أولمرت، في بداية طريقه عقب الانتخابات الإسرائيلية العامة في آذار 2006، وذلك بحكم التقدير أن تسوية الصراع أو إدارته بشكل مشترك مع الفلسطينيين بصفة عامة ومع “حماس” بصورة خاصة هما أمران غير ممكنين. وعلاوة على استخدام مصطلح انفصال كان هناك استخدام لمصطلحين إضافيين جديدين: عزل وتجميع. وبينما اعتبر مصطلح “عزل” إشكاليا أكثر، نظرا الى أنه يتعلق بعزل الضفة الغربية عن قطاع غزة قبل أن يتم ذلك بفعل فاعل فلسطينيّ، فإن “التجميع” كان مصطلحا مريحا أكثر، وذلك لأنه مرتبط في الظـاهر بجهد ذاتي، أي بجهد داخلي غير مرتبط بالآخر، وهو بالقطع مصطلح مريح أكثر من مصطلحات مثل انفصال أو فصل.
وقد انطلق أولمرت من فرضيات أساسية شبيهة بفرضيات شارون، وهي الفرضيات القديمة التي وقفت وراء تنفيذ خطة الانفصال عن غزة و”شمال السامرة” [شمال الضفة الغربية] في سنة 2005، والتي تقضي بانعدام الفرصة لتسوية وإدارة مشتركة للصراع مع الفلسطينيين، وتقضي في الوقت ذاته باستحالة الحفاظ على الوضع القائم.
وبحسب أولمرت نفسه فقد كانت الأوضاع، في ذلك الوقت، سيئة للغاية وتؤدي إلى “احتكاكات يومية تولد عنفا وتتسبب في نفقات ضخمة، وليس هناك أي أمل في أن ينتج عن ذلك واقع إيجابي لإسرائيل. لذا نحن ملزمون بالتجمع داخل كتل المستوطنات وبتقليص العنف إلى الحد الأدنى”. وهذا يعني أن إسرائيل ملزمة بأخذ زمام المبادرة والقرار والعمل، وكما قال أولمرت في السياق نفسه “نحن الذين سنحدد أجندتهم وأجندتنا، وكذلك الجدول الزمني”.
ولا شكّ في أن رؤية أولمرت هذه انطلقت أساسا من الشعور أن الواقع آنذاك خلق فرصة نادرة يتعين على إسرائيل استغلالها خلال الأعوام الأربعة المقبلة (أي حتى انتخابات الكنيست الثامنة عشرة في سنة 2010، في حال نجاح الكنيست السابعة عشرة في أن تكمـل ولايته القانونية لمدة أربع سنوات بدأت في 2006) من أجل القيام بـ “خطوات تاريخية”، وخاصة رسم الحدود الدائمة التي تضمن بقاء إسرائيل كدولة يهودية، تعيش فيها غالبية يهودية راسخة ومستقرة بعيدا عن أي خطر أو تهديد.
وشملت نافذة الفرص هذه أيضا صعود “حماس” إلى السلطة، وهو ما أتـاح لإسرائيل انتهاج سياسة تقوم على المبادرة، وأجبر الفلسطينيين في الوقت ذاته على محـاولة الحسم الداخلي الذي يفرضه فوز “حماس” عليهم.
لقد حدثت تطورات كثيرة بعد ذلك، في مقدمها حرب لبنان الثانية في صيف 2006، والتي جعلت أولمرت يتخلى عن “خطة التجميـع”؛ سيطرة “حماس” على قطاع غزة في حزيران 2007؛ انعقاد مؤتمر أنابوليس في تشرين الثاني 2007، والذي تمخض عن استئناف المفاوضات السياسية الإسرائيلية – الفلسطينية بهدف التوصل إلى اتفاق دائم يتناول القضايا الجوهرية حتى نهاية 2008؛ وأخيرا الحرب الإسرائيلية على غزة.
هناك ضرورة لإجمال ولاية أولمرت في رئاسة الحكومة الإسرائيلية، والتي ستطوي الانتخابات العامة المقبلة صفحتها، بقدر ملائم من التفصيل، وخصوصا ذلك الجزء منها الذي يتعلق بجوهر العلاقة مع الفلسطينيين.
وليس في إمكان إجمـال كهذا إلا أن يتطرّق إلى جانبين رئيسيين:
– الأول: ما أنجزته المفاوضات السياسية بين الطرفين، وما أخفقت في إنجازه؛
– الثاني: مدى “التغيير” الذي خضعت له رؤية أولمرت السالفة تحت تأثير هذه السيرورة، سواء على مستوى الأقوال أو على صعيد الأفعال.
كما أن إجمالا كهذا ليس في وسعه أن يتحرّر من مساجلة محاولات، لا تنفك تتـرى، تتركز في أقواله وتغفل عن أفعال حكومته، كي تسعف حكما فحواه أنه “رئيس الحكومة الإسرائيلية الأكثر واقعية منذ سنة 1967”.
وهذا ما سنفعله في مقال لاحق. لكن في تلخيص أولي لـ “امتحان النتيجة” من الصعوبة بمكان أن نعتبر أن أولمرت قد نأى بنفسه بعيدا عن الطريق الأصلية لحزب “كاديمـا”، التي شقها شارون. ومن المعروف أن الأخير قصد، عندما أنشأ “حزب الوسط الإسرائيلي الأكبر”، أن يعرض على الجمهور الإسرائيلي العريض طريقا ثالثة. وقد عمـل بهـدي مبدأين بسيطين: الأول – رفض الواقع القائم، والثاني – رفض الاتفاق الدائم. وتمثل البديل العملي لشارون في عملية سياسية طويلة المدى تمنح إسرائيل حدا أقصى من الأمن وحدا أدنى من الاحتلال، وبكلمات أخرى: حدود. وحتى لو لم تكن، في الظاهر، إشارات تدل على رفض أولمرت الاتفاق الدائم فإن ممارساته الميدانية كانت أصدق تعبير عن هذا الرفض، ولم تتجاوز غاية إدارة الصراع.
وعلى أعتاب الانتخابات العامة، التي ستكون بمثابة البداية لـ “عهد ما بعد أولمرت”، تبقى هناك بضعة أسئلة مفتوحة، من قبيل:
– إلى أي مدى ستلتزم الحكومة الإسرائيلية المقبلة بما تم تحقيقه خلال عملية أنابوليس من تفاهمات على الورق؟
– كيف ستؤثر الحرب على غزة على مستقبل العلاقة الإسرائيلية – الفلسطينية عموما، وعلى مستقبل الموقف الإسرائيلي من “حماس”؟
– ما هو تأثير دخول الإدارة الأميركية الجديدة، برئاسة باراك أوباما، على مستقبل الصراع وعلى احتمالات تسويته سياسيا، باعتباره صراعا سياسيا، وليس اقتصاديا؟
إن الواقع الراهن لا يوفر أجوبة شافية عن هذه الأسئلة، ولذا فمن الحتمي أن تظل مطروحة على المستقبل.
أنطوان شلحت – عكا
(باحث في المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية – “مدار”)