اسرائيل

نظرة من داخل إسرائيل إلى دلالات نتائج الانتخابات

أنطوان شلحت
مهما تكن الدلالات التي تحيل نتائج الانتخابات الإسرائيلية [في 10 شباط 2009] إليها، وهي كثيرة، لا بُدّ من تناول دلالتين متصلتين ببعضهما وبما سبقهما من مستجدات طرأت على الواقع السياسي في إسرائيل، بمنأى عن الحسابات المباشرة للربح والخسارة لكل حزب على حدة، والتي ستقف في خلفية تشكيل الحكومة الجديدة، في غضون الفترة القليلة المقبلة.
(1)
تكمن الدلالة الأولى في واقع أن الاصطفاف الحزبي الناجم عن الانتخابات ليس في وسعه أن يخرج إسرائيل من دوامة الأزمة السياسية، التي تعصف بها. وتنعكس هذه الأزمة، في أحد جوانبها، في فقدان الاستقرار السياسي. ولدى القيام بتحليل أولي لنتائج الانتخابات نرى أن إسرائيل تجد نفسها من الآن فصاعدًا بين خيارين حكوميين، ليس من المبالغة القول إن أحلاهمـا مُـرّ:
الخيـار الأول- تأليف حكومة يمينية ذات غالبية ضئيلة برئاسة بنيامين نتنياهو، رئيس الليكود، بحكم الواقع القائم، وهو وجود مثل هذه الغالبية في تركيبة الكنيست الحالية تتيح إمكان اللجوء إلى خيار كهذا. وفي هذه الحال لن يبعد اليوم الذي ستصطدم فيه هذه الحكومة مع استحقاقات المرحلة السياسية الفائتة، خلال ولاية حكومة إيهود أولمرت، بصرف النظر عن جوهر تلك الاستحقاقات وما إذا كانت منطوية على العناصر المطلوبة لتلبية المطالب الفلسطينية والعربية، خصوصًا في ظل مناخ إقليمي ودولي مختلف قد يشكل حاضنة لتلك الاستحقاقات.
الخيـار الثاني- تأليف حكومة واسعة، حكومة وحدة وطنية، أو حكومة رأسين. وستكون حكومة كهذه إمّا وصفة مضمونة لشلل سياسي عام، وإمّـا حكومة تحضيرية لتصعيد حربي محتمـل.
وفي ضوء ذلك لم يكن من قبيل المصادفـة أنه فور ظهور نتائج الانتخابات العامة بدأ في إسرائيل حديث متواتـر عن ضرورة تغيير طريقة الانتخابات النسبية المتبعة، علّ “الدواء الشافي” لأمراض السياسة الإسرائيلية يكمن في ذلك.
وقد رأى أكثر من باحث أن أمراض السياسة الإسرائيلية جلية ومعروفة للجميع، وهي:  تشرذم مزمن في الكنيست؛ تبديل حكومات بمعدل مرة كل سنتين؛ تبدل الوزراء بوتيرة قياسية [خلال العقد الأخير وحده تبدل في مناصب رئيس الحكومة، ووزير الدفاع، ووزير الخارجية ووزير المال تسعة عشر شخصاً سبعًا وعشرين مرة]؛ فساد ونزاعات داخلية ومحسوبيات؛ خطط بعيدة المدى تشهد تغييرات فجائية وتعرقل وأحياناً تحبط من قبل وزراء جدد عقب تسلم مناصبهم. وفي الكثير من الأحيان يعاني الوزراء الإسرائيليون من قلة خبرة إدارية، كما أنهم يوظفون جزءاً كبيراً من وقتهم في التعيينات وتخصيص الموارد المحكومة بمصالح سياسية (وحتى شخصية) ضيقة.
ليس مفاجئا إذن أن نسبة التصويت هبطت في الانتخابات الفائتة إلى درك تاريخي بلغ 63%، بما في ذلك عدد لا يستهان به من أصوات الاحتجاج التي أعطيت إلى أحزاب هامشية لم يعرف الناخبون مطلقاً هوية مرشحيها، كحزب المتقاعدين مثلاً.
ووفقًا لهؤلاء الباحثين فإن هذا الوضع لن يتغير طالما تتبع في إسرائيل طريقة انتخاب ترهن أي ولوج إلى المؤسسة السياسية بموافقة ناشطين حزبيين ومن ثم بالانصياع والإذعان لهم. وكما لاحظ أحدهم، في تحليله للطريقة النسبية، فإن السياسيين الإسرائيليين هم بـ”الأساس حزبيون” وبالتالي فإنهم “لا يبحثون عن استقلالية وإنما عن تبعية”. لا غرابة إذن في أن معظم السياسيين في إسرائيل هم من المساعدين سابقا لسياسيين آخرين أو من أبناء زعماء ماضويين.
هناك شريحة قائمة بذاتها وهم الجنرالات المتقاعدون. وخلافاً للفرضية السائدة، فإن المكانة المتميزة للجنرالات في السياسة الإسرائيلية هي نتاج للنزاع المستمر بين الدولة اليهودية وجيرانها، من جهة، وأيضاً لطريقة الانتخابات المتبعة، من جهة أخرى. فكبار ضباط الاحتياط يشكلون جزءاً ثابتاً ومركزياً في المشهد السياسي الإسرائيلي منذ ما يزيد على أربعين عاماً، نظراً الى أن السياسيين المغمورين الذين تنتجهم الطريقة النسبية يحتاجون إليهم، فهؤلاء السياسيون “الحزبيون” معنيون بتزيين قوائمهم بأسماء أناس يتمتعون بكاريزما تعوزهم هم أنفسهم. بيد أن الجنرالات أيضاً يضطرون منذ لحظة دخولهم إلى المؤسسة السياسية للإذعان لمشيئة ناشطي الأحزاب ومراكزها.  ويفتقر هؤلاء الجنرالات، في معظمهم، إلى الخبرة السياسية. هكذا يتكرس انفصال السياسة الإسرائيلية عن ينبوع الحياة العامة في أي دولة ديموقراطية، بمعنى الحوار المتواصل مع مجموعة ناخبين عضوية، والذي يشكل شرطًا ضروريًا لتدشين حياة سياسية في جميع دول الغرب.
(2)
الدلالة الثانية هي أن التأييد الكبير لأحزاب اليمين التقليدية وأحزاب اليمين المتطرف، بما فيه الاستيطاني، ينم عن مبلغ يمينية المجتمع الإسرائيلي. ومن شأن هذا التأييد أن يضع حدًا للادعاء، الذي تسلى البعض به، منذ الانتخابات الإسرائيلية العامة الفائتة، وكان فحواه أنّ الهزيمة النكراء التي مُني حزب “الليكود” بها في تلك الانتخابات تعتبر مؤشرًا دالاً إلى انهيار اليمين المتطرف، الاستيطاني، وتحديدًا على خلفية موقفه المعارض لخطة الانفصال عن غزة في خريف 2005. ويتسق الانهيار الكبير لحزب “العمل” واليسار الصهيوني برمته مع هذا الاستنتاج. ويتكشف عتـوّ هذه اليمينية من خلال الموقف من الفلسطينيين والعرب.
نستعيد هنا ما قاله أستاذ علم الاجتماع في الجامعة العبرية في القدس، البروفسور باروخ كيمرلينـغ، المعروف بأبحاثه النقدوية، عشية انتخابات الكنيست السابعة عشرة سنة 2006، بشأن الكراهية المتأصلة للفلسطينيين في المجتمع الإسرائيلي:
مما لا شك فيه أن الإسرائيليين في معظمهم- يمينيين ويساريين، صقورًا وحمائم- يفضلون أن يفيقوا ذات صباح صاف ليكتشفوا أن الفلسطينيين قد اختفوا، أو تبخروا بطريقة عجيبة؛ وأن هذا الصراع كله، وحقيقة وجود عرب بين ظهرانينا ومن حولنا وفي أي مكان، كان مجرد كابوس ليس إلاّ، أو كان حلماً سيئاً تبدد.
هذا لا يعني أننا جميعاً نريد أن ندمر ونبيد وأن نقتل ونطرد الطرف الآخر- وإنْ كان ثمة مثل هؤلاء في الجانبين- ولكن من غير المريح لنا بتاتًا العيش في ظل هذا الجوار الحميمي الذي نكاد نحيا فيه الواحد داخل الآخر تقريباً. حتى أن البعض منا يتساءل أحياناً: ما الذي نفعله (نحن الإسرائيليين) في الشرق الأوسط؟!  في أوساط الكثير من المجموعات العرقية، القومية والدينية في أنحاء العالم، هناك درجات متفاوتة ومتغيرة من كراهية الغريب و”الآخر”. ولا يعني ذلك الاستنتاج أن كراهية الغرباء يجب أن تظهر بالضرورة في أي ظرف ومكان، لا سيما أن الغرابة ذاتها هي مقاربة اجتماعية، وبالتالي يمكن لأي مجموعة إنسانية أن تمر بعملية تغريب في أي مكان. وفي الحالة التي نحن بصددها فقد نشأت “الغرابة المتبادلة” على مدى فترة زمنية طويلة وواكبها تاريخ طويل من سفك الدماء المتبادل والطرد والاحتلال والقمع المتواصل.
إن إسرائيل، برأي هذا المحاضر، هي  دولة مهاجرين – مستوطنين، أقيمت خلافاً لإرادة ومصالح غالبية سكان البقعة الجغرافية – التي أنشئت (إسرائيل) عليها وقامت باحتلالها وتوسيعها- وخلافاً لإرادة ومصالح سكان المنطقة بأسرها.
لا عجب إذن أنه نشأت داخل المجتمع اليهودي منذ بداية تبلوره في هذه المنطقة فوبيا وجودية، ولا عجب أن هذا المجتمع ما زال مسكوناً حتى اليوم، بفوبيا وجودية، والتي تشكل أحد الأسباب الرئيسة لكراهية العرب.  من ناحية عملية، وفي فترة ما قبل الدولة تطور “الييشوف” داخل “قوقعة يهودية”، على الأقل من ناحية إيديولوجية، وحرص كثيراً على الحد من احتكاكه وعلاقاته مع الغالبية العربية في معظم المجالات.  وفي التقاليد الثقافية والدينية هناك أيضاً أشكال من الخوف الممزوج بالكراهية تجاه “الأغيار” وقد ورثت الصهيونية على الأقل جزءاً من تلك التقاليد.
وفي خضم القتال والحرب سنة 1948 أُقتُلِعَ وطُرِدَ نحو 750 ألف عربي (فلسطيني) من البقعة التي انتقلت السيطرة عليها إلى سلطة يهودية، وفي نهاية المطاف بقي في الدولة اليهودية نحو 150 ألف عربي.  ولكن على الرغم من أن هؤلاء حصلوا على مواطنة (جنسية) إسرائيلية وعلى حقوق مواطنة كأفراد، إلا أنهم اشتبهوا دوماً بعدم الولاء للدولة وبأنهم طابور خامس أو حصان طروادة.
وعنـد انتقالـه إلى الحديث عن انتخابات 2006 كتب هذا الباحث يقول:
ثمـة موضوع واحد سيظل طاغياً على الأجندة العامة لمعظم الناخبين الإسرائيليين، ولا سيما في أعقاب فشل محادثات “كمب ديفيد” في سنة 2000 وإعلان ان “لا شريك” الذي أطلقه رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق، إيهود باراك. هذا الموضوع هو: كيف يمكن التخلص من العرب، أو على الأقل كيف يمكن التخلص من غالبيتهم؟
لقد حاول حزب “العمل”، برئاسة عمير بيريتس، عبثاً أن يطرح على الأجندة العامة موضوعات في غاية الأهمية، لكنها اعتبرت غير ذات صلة بالنسبة لهواجس ورغبات غالبية الجمهور. والأحزاب الحريدية – الدينية المتشددة – ليست لديها تقريباً مثل هذه المشكلة، إذ أن “الأشياء كلها بيد الله” من ناحيتها.  أمّا حزبـا “شينوي” [وسط] و”المفدال” [قومي- ديني] فليسا مؤهلين لطرح وتزعم مثل هذا الحل، ولذلك فقد اختفى الحزبان من الخريطة أو دفعا ثمناً باهظاً.
حزب “الليكود” أيضاً لا يستطيع اقتراح شيء – لا إعادة تقسيم البلد ولا ترانسفير للعرب والذي ما زال يعتبر غير لائق من ناحية سياسية – ما عدا الخيار الأسوأ وهو: استمرار النزاع وتصعيده. واليمين المتطرف يتعهد من جهته باقتلاع غالبية العرب من “أرض إسرائيل”. أما حزب “كاديما” فيتعهد بتنفيذ الخيار، الذي يعتبر الآن الأكثر واقعية، وهو الفصل التدريجي.
يبقى السؤال:
ما الذي تغير منذ انتخابات 2006 وحتى انتخابات 2009، اللهم باستثناء تغيير اسم الخيار الذي يدعو حزب “كاديمـا” إليه من “الفصل التدريجي” إلى التقسيم، الذي لا يبدو أنه سيخرج إلى حيز التنفيذ حتى بصورة تدريجية؟

أنطوان شلحت – عكا
(باحث في المركز الفلسطينيللدراسات الإسرائيلية – “مدار”)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى